جلسة دان في ليالي العيد، 5 يونيو 2019 (الغد المشرق)
08-10-2022 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| عبد الله الشادلي
لا يتجزأ فن "الدان" في حضرموت، جنوب اليمن، عن هوية وثقافة هذه المحافظة الكبيرة في الجغرافيا والتاريخ والفن. وعلى مدى قرون، حافظ الحضارم على "الدان" وأتقنته الأجيال المتعاقبة إلى اليوم.
والدّان، هو نغم ولحن في المقام الأول، وهو عبارة عن قوالب لحنية تُصبّ عليها الأشعار، فتصبح شعراً مغنّى، ويؤدّى بحناجر المغنيين من كلا الجنسين. وأصبحت جلسات الدّان المعروفة في حضرموت، موروثاً فنّياً متمدّناً، وأضيفت لطقوسه في بعض المناطق "عُدّة الشاي"، وهي عبارة عن أطباق يُقدم فيها الشاي بأنواع وألوان مختلفة.
عدة شاي في مجلس دان بحضرموت - حسام باحميد
وما يُميّز الدّان الحضرمي عن غيره من الفنون الأخرى أنّ له قالب شعري تشطيري على تفاعيل خاصة مرتبطة بألحان لها إيقاع وزمن خاصين. كما أنّه يشتهر بخروجه عن دائرة أبحر الشعر الـ 16، وخروجه ايضاً عن نطاق أبحر الشعر الحميني، غير أنّه يسير في دربه من حيث التسكين وعدم الإعراب.
لقد بدأ ظهور فن الدّان بين رعاة الإبل، حتى سمّي بـ "دان الجَمّالة"، ثم دخل بعد ذلك المدن الكبيرة مثل مناطق مديريات: المكلا، الشحر، سيئون، تريم، شبام، دوعن، عَمْد وساه.
التاريخ والبداية
أوجد غياب التدوين للتاريخ حلقات مفقودة أمام المؤرخين والباحثين في فنون حضرموت، نظراً لعدم وجود توقيت دقيق يوثّق بدايات فن الدّان؛ إلا أنّ بعض المؤرخين الذين أرّخوا ظهور الدّان في حضرموت يرجعونه إلى القرن العاشر الميلادي.
ويستشهد هؤلاء المؤرخون على ذلك بأبيات عامية للشاعر المتصوّف عمر عبد الله بامخرمة [المتوفى في القرن العاشر الهجري، سنة 952 هجرية، 1545 ميلادية] أشار فيها إلى جلسات الدّان، وأكثر فيها من لفظ الدّان ومشتقاتها، كما أوضح أمين عام ملتقى الدّان الحضرمي بوادي حضرموت، رياض باسلامة.
وقال باسلامة لـ "سوث24" أنَّه قد ورد عن بامخرمة لفظة "دان" في أبياته الشعرية، ومنها قوله:
"دان يا مطربة فإنّي على دانش أطرَب
روّقي فيه خلّينا من الصافي أشرَب
فإن لي في الغناء مذهب وللناس مذهب".
ويشير المستشرق السويدي كارل لاندبرغ إلى أن أصل الدّان مأخوذ من الدندنة ولعلها من الفعل الرباعي: دندن، يدندن، ومن معانيها أن تسمع من الرجل نغمة، أو صوتا، ولا تفهم ما يقول. فيبدأ المغنى يهمهم ويدندن بنغمات: «دان دان دان»، ليتشكل بذلك صوتاً ولحناً، ثم يتمّ تركيب الأبيات الشعرية على ذلك [1].
جلسة دان في حضرموت - أرشيف هاشم السقاف
وحول هذا، قال الباحث في الأدب والتراث حسن بن طالب لـ "سوث24": "لقد بدأ الدّان بمساجلات وحوار بين شاعرين أو أكثر بتشطير من عدة فصول متعارف عليها، يختلف عن القصيدة السردية."
وأضاف: "لقد نُظّمت له جلسات يتسامر الناس عليها، ومغنٍ واحد أو أكثر يرددون أقوال أشعار المساجلة على أصوات أو ألحان متنوعة. ظلت الجلسات رتيبة، ثم انتقل الدّان وانتشر عندما جرى تطويعه للأغنية وآلات العزف، وكان أبرز من قام بذلك الفنان والشاعر حداد بن حسن الكاف".
ويلفت الباحث في الأدب الحضرمي، جيلاني الكاف، إلى أنَّه هناك "ما يزيد عن 130 علماً من أعلام الدّان الحضرمي من الشعراء والملحنين والفنانين والباحثين والمؤرّخين. كما أنّ هذا الفن ليس نوعاً واحداً".
أنواع الدّان
وفقا لمصادر فنية لـ "سوث24"، للدان الحضرمي أنواع عديدة، أبرزها ثلاثة هي: "الهَبِيْش "، "الريّض" و"الحيقي".
الهبيش: ويُعرف بذي المقاطع الثنائية غالباً، غير أنّه أسرع إيقاعا وحركة من الحيقي ويكثر لدى البادية ويستعمل في "الشرح" وفي رقصة "الهبيش"، المعروفة في بادية حضرموت. [2]
والهبيش هو نوع من الرقص يجتمع الرجال والنساء فيه معا، يصفقون ويقفون في دائرة، بينما يرقص اثنان أو أكثر تصحبهم امرأة وسط الدائرة. وللدان في الهبيش ألحان متنوعة وكل لحن يطلق عليه "الصوت".
الريّض: ويعرف بذي المقاطع الطويلة وهو الرباعي والخماسي وما بعده، وسمي ريّضاً لهدوء أنغامه وبطء اندراجه عند الغناء والطرب، ويكثر الريض في حضرموت ويرجح أن يكون منبعه وأصله وازدهاره المنطقة المحيطة بسيئون، عاصمة الوادي [3].
الحيقي: "الحيق" في لهجة الحضارم يعني "الساحل"، وقد سُمّي بالحيق لأنّه ينبع غالباً من أهل الحيق ثم ينتقل الى سكّان الجبال ثم إلى الوديان في حضرموت. يزدهر هذا النوع في المناطق الشرقية بساحل حضرموت، ويليهم "النيد" أي النجد وهم سكان الوديان والصحاري. والدّان الحيقي ذو مقاطع ثنائية وثلاثية ورباعية سريعة الحركة والاندراج.
ومن الجدير ذكره هُنا، أنَّ الدّان الداخلي [بوادي حضرموت] يختلف عن الدان الساحلي [بساحل حضرموت].
وعن هذا قال رئيس مؤسسة حضرموت للتراث الفني، عبد الله باوزير لـ«سوث24»: "الدّان البدوي معروف بكلماته البدوية الساحلية التي تنحصر في جغرافيا وقبائل معينة؛ لهذا لم ينل نصيباً من الشهرة مثل الدان الحضرمي الذي دائما ما يكون شعراؤه من ذوي العلم أو ممن يقولون الشعر بلهجة وسطية أكثر انتشاراً."
وأضاف: "بالفعل كان هذا سبب رئيسي في انتشار الدان الحضرمي".
الآلات الموسيقية
على الرغم من اقتران الدّان بالآت الموسيقية مؤخراً، لا يحبّذ كثير من الشعراء والمهتمين ذلك وأحياناً يستهجنونه.
ويفضّل هؤلاء سماع الدان مُتجرّدا كما يُمارس في جلسات "الدّان الريّض" التي يقيمها سكان مناطق "حدرة" [المناطق الشرقية من وادي حضرموت، مثل شبام وسيئون وتريم]، على عكس "الدّان المَعلَوي" الذي أُدخلت عليه بعض الآلات الموسيقية كالمدروف والعود ويُمارسه شعراء مناطق "علوة" [المناطق الغربية من وادي حضرموت كمدن وادي دوعن ووادي عمد].
وبشأن هذا، قال المؤرخ باسلامة: "مما يدل على قدم وأصالة الدّان الحضرمي هو خلوّه من أي آلة موسيقية. وإن اقترن أداؤه ببعض الآلات: كالعود أو المدروف أو المزمار [من الآلات الموسيقية النفخيّة] فهو أمر مستحدث، وجاء لتطويع تلك الآلات لفن الدّان وليس العكس".
دان حضرمي مع مدروف - حفل شعبي
ويعتبر باسلامة أنّ "الآلات الطربية والمعازف دخيلة على الدّان الحضرمي؛ لكونها حديثة عهد نسبياً على حضرموت، لا لكونها لا تتواكب على الحان الدّان، وخصوصا الآلات الشرقية". وأضاف: "في فترة لا تتجاوز عقدين من الزمان، استخدم بعض الشباب في جلسات الدّان آلة العود بدلاً عن المدروف."
ويرى باسلامة أنّ استعمال هذه الأدوات غير مناسب ويشوش على جلسة الدان وألحانها "الشجية".
وفي المقابل يرى باحثون آخرون، تحدثوا لـ "سوث24"، مثل المؤرخ عبد الله حدّاد أنّه "لا ضير في إدخال الآلات إلى فن الدان؛ مواكبة للعصر. ويتفق مع هذا أيضا، الشاعر باوزير ويرى أن الموسيقى "ساعدت في وصول الدان إلى خارج حضرموت."
نقل الدّان
وفقا للمؤرخ باسلامة، "لم يدخل الدّان الحضرمي إلى الغناء بشكله المعروف حالياً إلا على يد الفنان الراحل محمد جمعة خان [توفي سنة 1963]، الذي استطاع نقل الدّان من شكله الرتيب الخالي من الموسيقى ليُتغنّى به في حفلات الزواج، وسجَّله على الأسطوانات الشمعية وأشرطة الكاسيت."
وبالإضافة لخان، قال باسلامة: "الفنان الكبير الراحل أبو بكر سالم بلفقيه كان أيضاً ممن لهم الفضل الكبير في نقل الدان الحضرمي إلى المحيط الخليجي والعربي، خاصة بعد ظهور الشاعر الكبير الراحل حسين المحضار، الذي نهل من كل مشارب فنون حضرموت، مثل: "الهبيش"، "المشقاصي" و"الغياضي" وغيرها من الفنون.
وأضاف: "لقد شكل بلفقيه مدرسته الخاصة للأغنية الحضرمية وأضاف لها بُعداً عظيماً في كل أرجاء اليمن والجزيرة والخليج".
ويرجع رئيس مؤسسة حضرموت للتراث الفني أسباب تأثر منطقة الخليج بفن الدّان "إلى ما يتميز به من شجن يعتمد في صياغته على طول نغمة اللحن أو قصرها، التي تُقدم بمقامات متعددة تلامس إحساس المستمع".
وأضاف باوزير: "لقد ساهم بشكل أساسي في انتشار فن الدّان - الذي يقتصر على حضرموت - سلاسة الكلمة وقوة المعنى، فضلاً عن تقارب اللهجة الحضرمية والخليجية".
ورغم أن البعض يرى تقارباً بين الموشحات الأندلسية وفن الدّان؛ يعتبر الباحث بن طالب أنّ الدّان فن خاص بحضرموت ولا نظير في اليمن والبلاد العربية.
الدان وموشحات الأندلس
ينسب بعض المؤرخين الذين تحدث معهم «سوث24»، مثل رياض باسلامة، الموشحات الأندلسية إلى أنَّها "جزء من فن أهل حضرموت، هاجرت إلى الأندلس مع الحضارم ثم عادت الى البلاد في القرن السادس الهجري."
ومن الموشحات الأندلسية ما قاله "الأعمى الطليطلي":
ضـاحك عن جمان *** ســافر عن درر
ضاق عنه الزمان *** وحواه صـــــدري
وقد نهج الشعراء في حضرموت نهج الموشحات الأندلسية، ويقول أبوبكر بن عبد الله بن شهاب:
يا معسجد الخــدود *** باهي الجمال
مهفف القد ***املد اللدن*** بالاعتدال
قد جاوز الحد*** بحسنه الحسن *** وبالكمال
فتان أغيد*** بحسنه فتن *** وبه تكالي
عذب اللما الحال*** حبه حلالي*** بلبل هو بالي
فصار بالي ***وضاق منه حالي*** فما احتيالي
تراث اليونسكو
ينتظر فن الدان الحضرمي الاعتراف العالمي به، وذلك بعد نيل طلب السلطات الثقافية في اليمن موافقة مبدئية [4] من جانب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» لإدراجه بقائمة التراث الثقافي غير المادي.
وعن هذا، قال المؤرخ باسلامة: "حتَّى اليوم، لم يُدرج إلى قائمة التراث اللامادي للبشرية بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة. لقد بدأ إعداد الملف في بداية 2019، وقدّم لليونسكو إلا أنّه لم يُصوّت عليه حتى اليوم".
وأضاف: "لقد بدأ الاهتمام بالملف يخفت مع ظروف البلد والحرب الدائرة، إذ لم يعد بذلك الزّخم. نأمل من المسؤولين سواء في وزارة الثقافة اليمنية أو مندوب اليمن باليونيسكو متابعة الملف واستكمال أي قصور فيه، ودفعه للتصويت وتشكيل لوبي ضغط دولي لدعمه والموافقة عليه".
جلسة دان في حضرموت - أرشيف هاشم السقاف
وأردف: "مما لا شك فيه، أنّ وصول الدّان الحضرمي لقائمة التراث اللامادي للبشرية سيسهم في خدمة الدّان، ويساعد على الاهتمام به، وسينفض غبار أشعاره وألحانه، وسينقذه من سلة الإهمال ومخاوف الاندثار".
ومع ذلك، لا يأمل الشاعر عبد الله باوزير أنّ يُدرج الدّان الحضرمي ضمن التراث العالمي في الوقت الراهن. وأبدى باوزير تخوفه من أن "يُنسب هذا الفن إلى اليمن فيما هو يخص حضرموت والجنوب. وأضاف: "الإعلام المحلي أو الوسائل العربية التي يعمل فيها يمنيون يتعمدون وصف هذا الفن باليمني".
وأردف "الفنانون والأدباء الجنوبيون عندما يتحدثون عن الفن اليمني فإنّهم لا ينكرون الحق الفكري ويصفونه بمسماه "صنعاني" أو "تهامي"، على سبيل المثال. لا عنصرية في ذلك. نحن نوصف الفن داخل حضرموت وننسبه إلى مناطقه، فهل في هذا عنصرية، أيضاً؟".