10-08-2021 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| قسم التحليلات
في 2 يوليو تموز الماضي التقى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بنظيره البحريني عبداللطيف الزياني، وفي اللقاء الذي جمعهمها بموسكو أعلن لافروف عن اعتزام بلاده تقديم نسخة معدلة من مفهومها للأمن الجماعي في منطقة الخليج[1]. على المستوى السياسي لم يكن للإعلان الروسي أي أصداء خليجية. لكن على المستوى الأمني بعد ثلاثة أسابيع فقط توترت الأوضاع في مياه الخليج العربي، ففي تاريخ 29 من نفس الشهر يوليو قصفت طائرة مسيرة ناقلة النفط "ام في ميرستريت" المملوكة لشركة إسرائيلية قبالة خليج عمان، أسفر القصف عن مقتل شخصين، حارس أمن بريطاني وقبطان السفينة روماني الجنسية[2]. وفي 3 أغسطس الحالي تم خطف ناقلة النفط "أسفرت برنسيس" التي تحمل علم بنما قبالة سواحل الامارات. في ضوء ذلك، هناك ثمة صدى أمني يحاكي مضمون المبادرة الروسية يدفع دول المنطقة باتجاه الاستجابة لها.
المبادرة الروسية للأمن الجماعي في منطقة الخليج
سبق لروسيا أن أطلقت في في يوليو 2019 مبادرة سياسية عن مفهومها للأمن الجماعي في منطقة الخليج، لم يستجب لها أحد عدا ترحيب كل من إيران والصين. ثم في أكتوبر 2020 عرض وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف مقترح إنشاء "منظمة للأمن والتعاون الجماعي في منطقة الخليج" يشترك في إعدادها الدول الخمس دائمة العضوية وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأطراف المعنية. بالمقابل ردت مندوبة الولايات المتحدة كيلي كرافت على اقتراح لافروف قائلة "لا أتفق مع الحل الذي اقترحته، ليس هناك حاجة إلى آلية أخرى لتعزيز أمن الخليج [3]. لكنّ روسيا جددت عرضها، في لقاءه لافروف بالزياني، واعتزامها تقديم نسخة محدثة من مفهومها للأمن الجماعي في منطقة الخليج.
تتنقل الدبلوماسية الروسية بين الملفات الدولية والإقليمية بطريقة تؤكد حضورها كفاعل دولي في ظل تراجع الدور الأمريكي، الأمر الذي يضعنا أمام استراتيجية توازن قوى جديدة. ففي الوقت الذي "تُسيء" واشنطن التصرف مع حلفائها وخصومها على حد سواء تمثيلا لسياسة الوسطية الغليظة. تقترب موسكو من الكل تمثيلا لسياسة الوسطية المعتدلة. لذلك ينبغي النظر للمبادرة الروسية من زاويتين، زاوية استراتيجية تتعلق بتصاعد الدور الروسي في المنطقة والعالم، وزاوية أخرى تتعلق بالأزمة الإقليمية مع إيران.
خلفيات تصاعد الدور الروسي
في تسعينيات القرن المنصرم تفكك الاتحاد السوفيتي وانهار المعسكر الشرقي لصالح تمدد وسيطرة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، لذلك انهارت المعادلة القطبية بين المعسكرين وخضع العالم لهيمنة القطب الواحد. رغم ذلك لم تستطع أمريكا وحلفاؤها ملئ هذا الفراغ كما يجب وخلق حالة من التوازن خصوصا في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد صراعا طويل الأمد، الأمر الذي اتضح من خلال، فشل التدخل الأمريكي المباشر في العراق مقابل نجاح التدخل الروسي الغير مباشر في سوريا، وفشل التدخل السعودي المباشر في اليمن مقابل نجاح التدخل الإيراني الغير مباشر في نفس البلد. من جانب آخر ثمة تداعيات سياسية واقتصادية انتقلت إلى الداخل الأمريكي جراء قيادتها للعالم بشكل أحادي الجانب، حيث جلبت تدخلاتها العسكرية نتائج عكسية عليها[4].
وحتى حينما حاولت واشنطن تغيير سياسة التدخل المباشر واستبدالها بسياسة دعم الثورات في المنطقة العربية لإقامة أنظمة ديمقراطية، ارتدت محاولتها إليها في صورة صراع ديمقراطي مرير شهدته آخر انتخابات رئاسية بين الرئيس السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن، الأمر الذي مس الديمقراطية الأمريكية. لذلك لم تتردد أمريكا في توجيه أصابع الاتهام لروسيا في التلاعب بالانتخابات الرئاسية وتهديد أمنها القومي.
خلف الصورة الأمريكية ثمة قطب شرقي على الطرف الآخر يتشكل بهدوء بزعامة روسيا والصين، لابد من مواجهته وفق مخرجات قمة الدول السبع وحلف الناتو مؤخرا[5]. لذلك يتحتم على واشنطن الاعتراف بوجود هذا القطب لتفادي السير بشكل أحادي الجانب الذي قد يقود إلى الانهيار. إذ تعتمد الإدارة الامريكية سياسة التراجع الحذر إلى الخلف، مقابل اعتماد موسكو سياسة التقدم الحذر إلى الأمام وملء الفراغ الذي تتركه واشنطن خلفها.
الدور الروسي في الخليج العربي
منذ وقت مبكر استثمرت روسيا في أخطاء السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وتقدّم نفسها كبديل يقترب من جميع ضحايا السياسة الأمريكية، الحلفاء والخصوم على حد سواء.
انعكس الأداء الأمريكي سلبا من خلال، أولاً: التراجع عن قرار تصنيف الجماعة الحوثية ضمن قوائم الجماعات الإرهابية، حيث تُتهم الجماعة اليمنية بأنها تشكّل تهديد أمني على السعودية والأمن الإقليمي والدولي. ثانيا: الضغط على المملكة العربية، أكبر وأهم حليف في المنطقة، للحد من فاعلية دورها في الأزمة اليمنية لصالح فاعلية الدور الإيراني. ثالثا: على الصعيد العسكري تتجه واشنطن إلى خفض تواجدها الثابت في منطقة الخليج العربي، حيث بدأت سحب منظوماتها الدفاعية مقابل الدفع بالمنظومات الهجومية كسلاح الجو والبحرية. رابعا: لا تكف واشنطن عن توجيه النقد اللاذع للحلفاء ومطالبتهم بإجراء إصلاحات جذرية.
كل ذلك أوجد مساحة كافية لموسكو استطاعت من خلالها التحرك ونسج علاقاتها الدبلوماسية مع دول الخليج العربي. فمؤخرا ارتقت علاقة السعودية بروسيا إلى مستوى أعلى من التعاون الثنائي. وفي الوقت الذي تدير واشنطن ظهرها لحلفائها في الخليج العربي في ظل تنامي التهديدات الإيرانية في المنطقة، تبدو الفرصة سانحة أمام روسيا كي تلعب دور الوسيط وتقريب وجهات النظر بشكل مباشر بين طهران ودول الخليج العربي. تربط موسكو علاقة جيدة بإيران الأمر الذي يقربها من رعاية عملية سلام مباشر بين الطرفين الإقليمين بمعزل عن الأطراف الدولية. من هذا المنطلق، على الأرجح، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مطلع يوليو الماضي عن تقديم بلاده مبادرة سياسية تختص بالأمن الجماعي لدول لخليج.
ورغم ذلك، لم تتضح بعد الدوافع الروسية خلف هذه المبادرة، إذ أنّ هناك عدة ملفات سياسية تصحبها، ملف النووي الإيراني، ملف الصواريخ الباليستية وأجندة طهران السياسية والأمنية في المنطقة، ملف الأمن البحري وحرية الملاحة الدولية.
الأجندة الروسية من الأمن الجماعي لمنطقة الخليج
إذا ماعدنا للوقوف أمام التوترات الأمنية في مياه الخليج العربي التي تلت إعلان موسكو عن مفهومها للأمن الجماعي في المنطقة مطلع يوليو الماضي، سنجد أنّ المبادرة الروسية تبدو أكثر ارتباطا بأمن المياه الدولية وحرية الملاحة. إذ أنّ هذا الملف يحمل بُعدا استراتيجيا يتعلق بطبيعة الخلاف الأمريكي البريطاني من جهة والروسي الصيني من جهة أخرى في مياه بحر الصين الجنوبي الإقليمية ومياه البحر الأسود قبالة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا مؤخرا، حيث تبحر السفن الحربية الأمريكية والبريطانية تأكيدا لمبدأ حرية الملاحة الدولية فيما تدّعي كل من روسيا والصين خرق مياهها الإقليمية من قبل الدولتين الغربيتين.
لذلك قد تمثّل مبادرة موسكو في منطقة الخليج على أنها مناظرة قانونية روسية تؤكد مبدأ أمن المياه الإقليمية في مواجهة مبدأ حرية الملاحة الذي تحاول تجسيده كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في شرق آسيا. بالمقابل إذا ما أضفنا لماسبق، الامتياز الذي ستحصل عليه روسيا في استحداث الممر القطبي الشمالي بين آسيا وأوروبا، الذي تشكل المياه الاقليمية الروسية ثلثيه تقريبا، سنصل إلى جذر آخر للخلاف الدولي يبرر الإصرار الأمريكي على حرية الملاحة في مواجهة التأكيد الروسي على أمن المياه الاقليمية.
في وقت سابق رحبت كل من إيران والصين بالمبادرة الروسية لأمن منطقة الخليج. في حين لم تبد دول الخليج العربي وباقي الأطراف الدولية أي ردود فعل تجاهها. إذ تعكس المبادرة الروسية العمل الجماعي لأمن الملاحة الدولية عوضا عن الإجراء الأحادي الجانب الذي تقوم به كل من الولايات المتحدة وبريطانيا.
إضافة إلى هذا البعد الاستراتيجي خلف المبادرة الروسية، هناك ثمة محاولة لإختبار جدية التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط والتقدم باتجاه الصين وشرق آسيا، يقابله جدية التقدم الروسي الصيني باتجاه الخليج العربي. لذلك وضعت موسكو بُعدها الاستراتيجي في سياق البعد الإيراني في منطقة الخليج، حيث أن مضمون المبادرة الروسية للأمن الجماعي في الخليج يحاكي إلى حد ما مضمون مبادرة سياسية طرحتها طهران في وقت سابق اسمتها "صلح هرمز".
الأجندة الإيرانية من المبادرة الروسية
منتصف أبريل الماضي قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية لوكالة سبوتنيك أن مبادرة روسيا للأمن والسلام في الخليج قريبة من مبادرة "صلح هرمز" الإيرانية. وفي سبتمبر 2019 عرض الرئيس حسن روحاني على الأمم المتحدة خطة لأمن منطقة الخليج حملت اسم "مبادرة هرمز للسلام" ترتكز على التعاون الجماعي بين دول الإقليم في تأمين إمدادات الطاقة وحرية الملاحة الدولية بعيدا عن التدخلات الأجنبية. المبادرة الإيرانية، لا تختلف كثيرا عن المبادرة الروسية فيما يخص الامن الجماعي في منطقة الخليج، إذ يسعى الطرفان إلى عمل اقليمي بمعزل عن التدخلات الأجنبية، حيث تستغل إيران وروسيا الملف النووي لصالح إنجاز ملف الأمن البحري. بالمقابل تعوّل السردية الإيرانية في تناول أزماتها المتعددة على الدفع باتجاه إنجاز الاتفاقات النظرية أولا ومن ثم التنفيذ العملي، بينما تطالب دول الخليج والمنطقة بالعكس، أي إلتزام إيران العملي ومن ثم الاتفاق النظري. وهو الأمر الذي يعكس وجود أزمة ثقة يشوبها التوتر والقلق.
بالمقابل نفس الإشكالية خلقتها طهران في اليمن، ففي الوقت الذي يطالب المجتمع الدولي جماعة الحوثيين بوقف القتال والقبول بالحل السياسي، تتذرع الجماعة اليمنية بالجانب الإنساني وتطالب بفتح مطار صنعاء وميناء الحديدة ورحيل قوات التحالف العربي. لذلك الأجندات الإيرانية ليست مشاطئة لدول الخليج العربي وحسب بل أصبحت متاخمة لها في اليمن. حيث رجّحت التقديرات البريطانية مؤخرا أنّ الهجوم الذي استهدف ناقلة النفط "ام في ميرستريت" قبالة خليج عمان انطلق من جنوب اليمن[6]، فيما أثبتت الأدلة الجنائية أنّ السلاح المستخدم في العملية إيراني الصنع.
جاء التوتر الأمني قبالة سواحل عمان والإمارات، بما يعزز سردية الحاجة إلى اتفاق للأمن الجماعي في منطقة الخليج. حيث أنه على غير عادة الحوادث البحرية السابقة، انتقل تهديد الملاحة الدولية إلى منطقة الخليج هذه المرة، مما ينذر بتوتر الأوضاع الأمنية أكثر، تحظى فيها الحلول السياسية بأهمية أكبر، يقابله تنسيق وإعداد إيراني مسبق لأي صدام عسكري محتمل.
ثنائية الحرب أو السلام
هناك عدة تطورت على الصعيد الإيراني تزامنت مع عودة روسيا لإطلاق مبادرة الأمن الجماعي في منطقة الخليج أهمها، صعود مرشح التيار اليميني ابراهيم رئيسي لرئاسة البلاد، وقيام إيران بتأمين صادراتها من النفط. في أواخر يوليو الماضي أعلنت طهران انتهائها من مشروع مد أنبوب لتصدير النفط من جنوب البلاد عبر مرفأ جاسك الذي يطل على خليج عمان مباشرة، وهذه الخطوة استباقية لتأمين إمدادات ايران من النفط أمام احتمالية اندلاع أي مواجهات في مضيق هرمز، تشي باحتمالية التصعيد العسكري في منطقة الخليج.
على الجانب الآخر، تحاول المملكة العربية السعودية شق طريقها للبحر العربي مباشرة عبر محافظة المهرة جنوب اليمن وميناء الدقم في عمان. لكن الأنباء التي تشير إلى انطلاق الهجوم على ناقلة النفط "ام في ميرستريت" من أقصى جنوب اليمن تعكس غياب الاستعداد السعودي الخليجي الجيد، لمنع التهديدات الأمنية المحتملة في المنطقة. لربما هذا ما دفع، قوة خاصة بريطانية للقدوم إلى شرقي جنوب اليمن.
إنّ تصاعد الحوادث الأمنية في منطقة الخليج العربي وسواحل عمان الجنوبية، تعزز من احتمالية نشوب حرب إقليمية واسعة النطاق، وضعتها موسكو ضمن حساباتها الاستراتيجية فيما أرادتها طهران وفق شروطها الموضوعية.
زميل في مركز سوث24 للأخبار والدراسات، باحث في الشؤون السياسية
- الصورة: gunaz.tv