الخريطة: وسائل إعلام سعودية
18-09-2022 الساعة 1 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | فريدة أحمد
ولّدت التحوّلات في ميزان القوى الإقليمية والدولية توجيه الأنظار من جديد لمنطقة البحر الأحمر، لما تشكّله المنطقة من أهمية وتأثير بالغين من نواحي استراتيجية. فهي تتميز بموقع جغرافي مهم لكونها ملتقى ثلاث قارات، وحلقة وصل بين ثلاث مناطق إقليمية مهمة هي: الشرق الأوسط والقرن الأفريقي ومنطقة الخليج. وتطل على البحر الأحمر ثماني دول، منها ست دول عربية، هي: المملكة العربية السعودية، مصر، السودان، الأردن، اليمن، جيبوتي، ودولتان غير عربيتين، هما: إسرائيل وإريتريا[1]. فضلاً عن أهميته الاقتصادية ودوره في التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا، حيث تقدر السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر سنوياً بأكثر من عشرين ألف سفينة. كما يعتبر الطريق الرئيسي الذي يمر من خلاله نفط الخليج العربي وإيران إلى الأسواق العالمية في أوروبا، إذ تحتاج أوروبا إلى نقل 60% من احتياجاتها من الطاقة عبر البحر الأحمر، وأيضاً نقل نحو 25% من احتياجات النفط للولايات المتحدة الأمريكية. [2]
بصورة أعمق، إن أكثر ما يزيد البحر الأحمر أهمية هو اتصاله من ناحية الجنوب بمضيق باب المندب وخليج عدن المؤدي لبحر العرب والمحيط الهندي، واتصاله من ناحية الشمال بقناة السويس المؤدية للبحر الأبيض المتوسط، وهي الممرات الأساسية والرئيسية لحركة الملاحة الدولية، ومدخل مختلف السفن والحاويات والناقلات المحمّلة بالبضائع والنفط والغاز. وبالإضافة للأهمية الاقتصادية للبحر الأحمر، تبرز الأهمية العسكرية والأمنية بشكل واضح، بالنظر إلى التطورات الإقليمية والدولية، مما يدفع ببعض الدول الكبرى إلى التنافس المحموم على المنطقة من ناحية إيجاد موطئ قدم لها أو مواقع نفوذ، لا سيّما في الدول المشاطئة للبحر الأحمر، لضمان سيطرتها وتأثيرها على مسار المشهد الدولي.
ملامح المشهد العام
أثّرت التطورات السريعة للحرب الروسية الأوكرانية بشكل كبير على اقتصادات كثير من الدول، وارتفعت معها أسعار الطاقة والغذاء، كما أثّرت على سلاسل الإمداد والتوريد في العالم، مما فاقم الأوضاع المعيشية. هذا الأمر جعل كثير من دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة تعيد ترتيب توازناتها ومصالحها مع بعض دول المنطقة، بما فيها المصدّرة للنفط مثل السعودية وإيران، وقد برز ذلك من خلال زيارة "جو بايدن" الأخيرة للشرق الأوسط وتحديداً "الرياض"، منتصف يوليو 2022 [3]، التي هدفت في الأساس لزيادة إنتاج الطاقة لتقليل ارتفاع الأسعار، نتيجة تداعيات الحرب في شرق أوروبا وتضرّر كثير من الدول بما فيها الولايات المتحدة التي دخلت في أزمة تضخّم لم تشهدها البلاد منذ أربعين عاماً. وهو الأمر الذي قد يهدد على الصعيد الداخلي فرص الديمقراطيين للنجاح في الانتخابات النصفية نوفمبر المقبل، إذا ما خسروا أغلبيتهم في الكونغرس.
وفي إطار ذلك، تم التوقيع بين السعودية والولايات المتحدة على 18 اتفاقية ومذكرات للتعاون المشترك في مجالات الطاقة والاستثمار، والاتصالات والفضاء والصحة[4]. غير أن ولي العهد السعودي ذكر بأن المملكة "ستزيد طاقتها الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يومياً، وبعد ذلك لن يكون لدى السعودية أي قدرة إضافية لزيادة الإنتاج"[5]. ووفقاً لذلك، كان الوزراء والمسؤولون في السعودية قد أكدوا أن قرارات السياسة النفطية ستتخذ وفقاً لمنطق السوق وداخل تحالف "أوبك+". وهو ما أعلنه تحالف أوبك فعلاً في الثالث من أغسطس الفائت، عن أنه سينتج 100 ألف برميل إضافية يومياً في سبتمبر[6]. ورغم ذلك، بدا قرار أوبك+ مخيباً لآمال "جو بايدن" الذي توقع ارتفاع وتيرة زيادة الإنتاج بأكثر من ذلك. وكان "إدوارد مويا" من شركة Oanda قد علّق ساخراً إنها "أصغر زيادة (إنتاج) في تاريخ أوبك+، ولن تسمح في تجاوز أزمة الطاقة الحالية". واعتبر أن "إدارة بايدن لن تكون مسرورة" متوقعاً "انتكاسة في العلاقات الأمريكية - السعودية".[7]
وقد عكس المسار الدولي المرتبك مؤخراً، ردود فعل كثيرة من دول المنطقة وحفّزها لترتيب أولوياتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية، بما فيها الدول المشاطئة للبحر الأحمر في ظل النشاط المتوتر بين طياته. فقد أعلن مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي يتكون من ثماني دول، ومقره الرياض، عن اعتزامه عقد أولى قممه في مدينة جده، للشروع في وضع الآليات العملية والالتزامات الاستراتيجية تجاه التهديدات الأمنية والبيئية التي تحدق بواحد من أهم الممرات المائية في العالم[8]. ورغم تأجيل القمة في الوقت الحالي، غير أن دول المجلس تبدو حريصة على وضع بنود أكثر فاعلية لمواجهة التهديدات والمخاطر التي قد تواجهها في الفترة المقبلة.
في الثاني من سبتمبر الحالي، احتجزت البحرية الإيرانية زورقين تابعين للبحرية الأمريكية في المياه الدولية بالبحر الأحمر، وقد تم إطلاقهما في النهاية، لكن مسؤولًا دفاعيًا أمريكياً قال، إن الحادث يبدو وكأنه تصعيد للأعمال العدائية الإيرانية ضد الولايات المتحدة[9]. بعد أيام من الحادثة، أعلنت القوات الجوية الأمريكية، أن قاذفتين نوويتين من طراز B-52 حلقتا فوق الشرق الأوسط، في استعراض واضح للقوة في المنطقة، وهو الرابع من نوعه هذا العام. وأوضحت القوات الجوية في بيان[10] أن "الطائرتين غادرتا من قاعدة للقوات الجوية الملكية في "فيرفورد" بإنجلترا وحلقتا فوق شرق البحر المتوسط وشبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر قبل أن تغادرا المنطقة"، مبينة أن "طائرات حربية من سلاح الجو الملكي والمملكة العربية السعودية والكويت، رافقت القاذفات الأمريكية، بينما ساعد ممثلو 16 دولة في تنظيم الدعم اللوجستي".
توضح الأنشطة الأخيرة في البحر الأحمر، السبب الذي يدعو مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، إلى إعادة النظر في تفعيل عملها من خلال عقد قمة مرتقبة في جده، وهو ما يجري العمل عليه راهناً لضمان حماية أمن المنطقة وممراتها المائية من أي تهديدات محتملة، وهو الهدف الاستراتيجي من إنشاء الكيان بدرجة رئيسية.
لماذا كل هذا الاهتمام؟
يقيناً، لا يمكن فصل تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية عن المشهد الراهن في البحر الأحمر، فإعادة الترويج لإنشاء قاعدة روسية بالقرب من مدينة بورتسودان الساحلية له دلالاته، منها التأهّب لإعادة ترتيب النفوذ الدولي على البحر الأحمر، الذي كانت الولايات المتحدة تتصدره منذ عقود، لا سيّما بعد بدئها استراتيجية مكافحة "الإرهاب" عقب أحداث 11 سبتمبر. بالنسبة لمشروع القاعدة الروسية فهو لا يعدّ جديداً، فقد بدأ منذ 2017 عند زيارة الرئيس السوداني السابق "عمر البشير" إلى مدينة سوتشي، مقترحاً على بوتين الاستفادة من موقع السودان للتعاون الثنائي في مجال تطوير علاقات روسيا مع دول أفريقيا، حيث قال إن "السودان قد يشكل مفتاح روسيا لأفريقيا"[11]. ومع اندلاع الأزمة في السودان وسقوط "البشير" في 2019، تم تعليق هذا الملف، غير أن نائب رئيس مجلس السيادة السوداني "محمد حمدان دقلو"، ذكر في مارس العام الحالي، بأنه "لا توجد مشكلة بإقامة قواعد عسكرية روسية أو غيرها من الدول على البحر الأحمر إذا كانت تحقق مصلحة السودان ولا تهدد أمنه القومي"[12]. وهذا يعني أن إمكانية تنشيط هذا المشروع مازالت قائمة في ظل التغيرات الدولية.
علاوة على ذلك، زرع تزايد نشاط الجماعات "الإرهابية" في شمال سيناء واليمن مؤخراً، عدة مخاوف فيما إذا كانت هذه التنظيمات يمكن أن تهدد حركة الملاحة وتستفيد من المجال البحري عبر الهجوم على القوارب الصغيرة أو تهريب الأفراد أو سرقة إمدادات النفط وتمويل عملياتها الإرهابية. كما تبرز مخاوف جدية من نشاط الحوثيين على البحر الأحمر، لا سيّما في مسألة تهريب الأسلحة والمواد المتفجّرة التي تصلهم من إيران[13]، عبر خلايا وشبكات حوثية تمر بعشرات المناطق الساحلية اليمنية في بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر قبل أن تصل براً للحوثيين. فضلاً عن زراعتهم للألغام البحرية في البحر الأحمر، وكانت الفرق الهندسية التابعة للمنطقة العسكرية الخامسة في محافظة حجة شمالي غرب اليمن، قد أتلفت أكثر من 52 لغمًا بحريًا بينها 27 لغمًا بحريًا في شهري نوفمبر وديسمبر العام الفائت.[14]
إن أكثر ما كان ملفتاً الآونة الأخيرة هو العروض العسكرية التي أقامها الحوثيون في مناطق سيطرتهم، أربعة عروض عسكرية بدأت من محافظات ذمار وعمران وصنعاء وانتهت بالحديدة، والأخيرة أحد المدن الرئيسية الساحلية المطّلة على البحر الأحمر، وقد ناقشت ورقة لمركز سوث24 العروض العسكرية الحوثية وتأثيرها على المشهد[15]. إذ يبدو أن العرض العسكري الأخير في الحديدة كان الغرض منه توصيل رسائل معينة للإقليم والمجتمع الدولي، أكثر من كونها رسائل موجّهة للداخل كما كان للعروض السابقة، خاصة وأن إيران تدعم الحوثيين على مستويات عدة. وبالنسبة لها، مازالت الساحة البحرية تبدو مثالية في ظل عدم تطوير سلاح الجو الإيراني منذ ثمانينيات القرن الماضي، حتى أنها تعتمد في أغلب مواجهاتها على الصواريخ البالستية لتعويض أسطولها الجوي القديم. فكان أبرز ما تصدّره للحوثيين هو خبراتها في تدريبهم على تصنيع واستخدام الصواريخ.
يعزّز هذا ما يمكن وصفه بأن الاستعراض العسكري الحوثي الأخير في الحديدة مرتبط بمسار الملف النووي الإيراني، الذي تحاول فيه طهران كسب مزيد من الوقت والمماطلة في التوّصل لاتفاق، من أجل حصولها في المقابل على نقاط تفاوضية أعلى، ذلك بالنظر لإقبال الدول الغربية على أزمات اقتصادية كبرى في فصل الشتاء نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية. وبوجود قوة عسكرية تابعة لإيران في البحر الأحمر تزيد من فرص التفاوض في ظل مخاوف دول الإقليم والمجتمع الدولي من تأثير ذلك على حركة الملاحة البحرية وإمدادات الطاقة التي تمر عبر البحر الأحمر للدول الأخرى بما في ذلك دول أوروبا وأمريكا. وقد أدان أعضاء مجلس الأمن العرض العسكري الأخير للحوثيين في الحديدة، ودعوا إلى وضع حد لجميع أشكال المظاهر العسكرية الظاهرة في انتهاك لاتفاق الحديدة[16]. وهي تبدو إشارة عمّا يمكن أن يشكله ذلك من تهديدات فيما إذا خرق الحوثيين الهدنة بالاتجاه نحو الخيارات العسكرية.
إجمالاً، يبدو أن إشارات نقل الصراع للبحر الأحمر وارداً في ظل النشاط المحموم مؤخراً، واستعراض القدرات العسكرية الإقليمية والدولية من خلال بعض العمليات والمناورات العسكرية المستمرة. وبالنسبة لليمن، يمثلّ الحوثيون تهديداً فعليا على أمن البحر الأحمر. لذا من المهم للقوى الإقليمية المتواجدة في اليمن ممثلة بالتحالف العربي وفي مقدمتها السعودية، موازنة مواقعها وعلاقاتها مع الحلفاء المحليين المناهضين للمعسكر الحوثي، وبالذات الجنوبيين المسيطرين على مواقع ساحلية مهمة ورئيسية على خليج عدن وبالقرب من مضيق باب المندب، لما يمكن أن يشكّله ذلك من أهمية لحفظ وتأمين ممرات الملاحة الدولية في ظل التطورات الدولية الراهنة، وكذا في ظل أي تهديدات أو مخاطر داخلية محتملة من قبل الحوثيين والتنظيمات المتطرفة.