22-08-2020 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| د.حسن بن عقيل
من الأفضل أولاً، البدء بمعرفة النهج الذي تبنته السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق تجاه دول شبه الجزيرة العربية والخليج بشكل عام، الذي هو نهج اغتنام الفرص. سعى السوفييت إلى إقامة علاقات جيدة مع جميع الدول المعادية للغرب والموالية للغرب في المنطقة. وذلك في محاولة من موسكو لتحقيق التوازن بين الأطراف المتصارعة، وبالتالي الاستفادة من كليهما.
تمت الموافقة على هذا النهج في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956. وهي سياسة حددها الرأي العام السوفيتي ووافق عليها الحزب الشيوعي السوفيتي وقيادته في المكتب السياسي. سياسة تعطي نظرة متفائلة للوضع الدولي، وقد طوّر المؤتمر فكرتين أساسيتين حول النظرية والممارسة السياسية. لقد أظهر أن التعايش السلمي هو "مُعطى" أساسي للسياسة الشيوعية، وليس "مقاربة" تقوم على الاستفادة من لحظة عابرة.
لم تعد الآن الحروب حتمية بسبب توازن القوى الجديدة الناشئة في العالم وامتلاك وسائل الدمار الشامل. لسوء الحظ، لم تفهم قوى اليسار في شبه الجزيرة العربية والخليج بشكل عام، وخاصة في جنوب اليمن (باستثناء الاتحاد الشعبي الديمقراطي)، هذا التحوّل الذي حدث في القيادة السوفيتية في ذلك الوقت. ولهذا السبب استسلمت لممارسات اليسار الصيني المتطرف (قبل أن تصحح الصين سياستها). نرى ذلك من خلال علاقة موسكو بجنوب اليمن، حيث كانت مستقرة ومطمئنة فقط في عهد قحطان الشعبي وعلي ناصر محمد. ولا ننسى أن العامل الخارجي، الإقليمي والدولي لعب ويلعب دورًا في صنع تلك العلاقة وتنفيذها. كانت السياسة السوفيتية في ذلك الوقت قوية وتفرض وجودها على الولايات المتحدة وأوروبا، لتعامل الاتحاد السوفييتي (السابق) باحترام، كقوة لها مكانتها ودورها العالمي.
"علاقة موسكو بجنوب اليمن، كانت مستقرة ومطمئنة فقط في عهد قحطان الشعبي وعلي ناصر محمد"
بعد 8 ديسمبر 1991، أُعلن في مدينة بريست في جمهورية بيلاروسيا أنّ الاتحاد السوفيتي، كأحد الأطراف في المجتمع الدولي وكواقع جيوسياسي، لم يعد موجودًا ويرثه الاتحاد الروسي. وهكذا انتهت مرحلة الحرب الباردة وتغيّرت الخريطة السياسية الدولية. ونتيجة لهذا الحدث، تغيرت السياسة الخارجية الروسية (وريث الاتحاد السوفيتي). وبناءً على هذه التغييرات، صاغ الرئيس بوريس يلتسين سياسة التقارب مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تارة، والتحالف معها في بعض القضايا الدولية تارة أخرى، ذلك من أجل إثبات الولاء وكسب الثقة، ويتّضح هذا من موقف موسكو من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. لكن هذه المواقف أفقدت السياسة الروسية توازنها في كثير من القضايا الدولية، بما في ذلك قضايا الشرق الأوسط. بهذا الموقف الروسي الضعيف شجّع الولايات المتحدة الأمريكية على قيادة العالم من جانب واحد، وأعلنت الولايات المتحدة عن نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم، أي العالم أحادي القطب.
سياسة الرئيس فلاديمير بوتين تجاه المنطقة
اتخذ الرئيس فلاديمير بوتين هذا النهج السوفيتي في السياسة الخارجية. سياسة "التوازن بين الخصوم" كنهج دائم في شبه الجزيرة العربية والخليج. التوازن بين خصم استراتيجي في شبه الجزيرة العربية والخليج - دول الخليج العربي، وحليف محتمل في جنوب الجزيرة العربية – اليمن. على سبيل المثال، تدعم روسيا إيران وأنصار الله في اليمن، وفي الوقت نفسه تدعم التحالف العربي بقيادة السعودية وحلفائهما في اليمن. والسؤال الآن، إلى أي مدى سيستمر الرئيس فلاديمير بوتين في هذا النهج، في منطقة رئيسية وحساسة مثل شبه الجزيرة العربية والخليج؟
"اتخذ الرئيس فلاديمير بوتين سياسة "التوازن بين الخصوم" كنهج دائم في شبه الجزيرة العربية والخليج"
الرئيس فلاديمير بوتين، بعد وصوله إلى السلطة، صحح الأخطاء التي ارتكبها الرئيس بوريس يلتسين، والتي أدى الكثير منها إلى فقدان الدولة الروسية للدور الذي كان يتمتع به الاتحاد السوفيتي على المستوى الدولي. لهذا السبب، قام الرئيس فلاديمير بوتين بمراجعة وتقييم هذه السياسات وإعادة ترتيب أولوياتها وصياغة استراتيجية جديدة تخدم مصالح الاتحاد الروسي فيما يتعلق بالقضايا الدولية. لكن منطق السياسة الروسية تجاه دول شبه الجزيرة والخليج هو نفس المنطق السوفييتي، حيث يُعتقد أنّ حكومات المنطقة سترى أنه من الأفضل لها أن تكون لها علاقة جيدة مع موسكو رغم دعمها لخصومهم.
استئناف العلاقات الدبلوماسية الروسية السعودية
حاول الروس استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية. بعد أن انقطعت العلاقات بينهما في عهد الزعيم ستالين، بسبب إعدامه لأول سفير للاتحاد السوفيتي في المملكة العربية السعودية بعد عودته إلى موسكو عام 1938، السيد كريم حكيموف، الشيوعي - المسلم (عضو اللجنة العسكرية الثورية الإسلامية 1918-1919) ومهندس العلاقات السعودية - الروسية.
السفير كريم حكيموف يصاحب الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود خلال زيارة لموسكو
حاولت موسكو استعادة العلاقات في عدة مناسبات، بدءًا من عهد خروتشوف في منتصف الخمسينيات، لكن كلّ هذه المحاولات باءت بالفشل. حتى 17 سبتمبر 1990، تم استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والاتحاد الروسي.
هناك عدة عوامل في الماضي أعاقت استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية. عندما تصل المحادثات بينهما الى نتائج ايجابية لاستئناف العلاقات يحدث شيء ما يمنعها. على سبيل المثال، في أغسطس 1956 كان الجانبان على وشك استعادة العلاقات وتوقيع اتفاقية لشراء أسلحة للسعودية من موسكو. لكنّ الخلافات بين عبد الناصر، حليف الاتحاد السوفيتي، والقيادة السعودية أعاق استئناف العلاقات الدبلوماسية السوفيتية مع السعودية. في النصف الثاني من السبعينيات، أعلن ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود رغبته في السماح بتطبيع العلاقات السعودية السوفيتية، لكن التدخل الكوبي السوفياتي 77-1978 في القرن الأفريقي عطّل هذا الاحتمال. في عام 1979 أُعيد إحياؤها مرة أخرى، لكن التدخّل السوفيتي في أفغانستان في نهاية عام 1979 أعاق هذا التقارب لأكثر من عقد من الزمن. في أبريل 1984، وضع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أربعة شروط ضرورية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وروسيا.
أولاً: الانسحاب السوفيتي الكامل من أفغانستان،
ثانياً: إنهاء الدعاية السوفيتية المعادية للمملكة العربية السعودية،
ثالثاً: انسحاب القوات السوفيتية وحلفائها من إثيوبيا واليمن الجنوبي،
رابعاً: حرية المسلمين في ممارسة شعائرهم الدينية في الاتحاد السوفيتي.
"حاولت موسكو استعادة العلاقات مع السعودية في عدة مناسبات، بدءًا من عهد خروتشوف.. لكن كلّ هذه المحاولات باءت بالفشل"
في البداية، لم يتم تهيئة المناخ اللازم لتنفيذ هذه الشروط، ولكن بعد بضع سنوات، مع التغييرات التي أدخلها الرئيس غورباتشوف على النظام السوفيتي، أصبحت هذه الشروط مقبولة ويمكن تنفيذها. لكن حتى ذلك الوقت، لم تكن العلاقات بين موسكو والرياض قد عادت. في سبتمبر 1990، بعد الغزو العراقي للكويت، وتهديد صدام حسين العمق السعودي، رفض الزعيم الروسي غورباتشوف دعمه ودعم قرارات مجلس الأمن الدولي التي تهدف إلى عكس ما أراده صدام حسين. وقفت روسيا بحزم ضد تهديدات صدام حسين للأمن السعودي، ووقفت روسيا إلى جانب السعودية ضده. بعدها عادت العلاقات السعودية السوفيتية.
عملت موسكو على توسيع وتطوير العلاقة مع المملكة العربية السعودية من خلال التخلي عن دعم المنافسين الإقليميين للمملكة. ودعمت الاتجاهات التي تريدها الرياض في المنطقة وتعتبرها ضمانة لأمنها القومي. على الرغم من استعادة العلاقات السعودية السوفيتية في عام 1990، إلا أنّها لم تتمتع بالدفء الذي شهدته علاقة روسيا بالغرب في أوائل التسعينيات. ولكن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، كان خمسة عشر من أصل تسعة عشر من المفجّرين من المملكة العربية السعودية. حاول الروس الاستفادة من هذا الحدث. لقد أقنعوا واشنطن بالنظر إلى المملكة العربية السعودية كدولة راعية للإرهاب وتهديد مشترك لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. لأنّ مصدر الدعم للقاعدة والمتمردين الشيشان يأتي من داخل السعودية. لكن الأمور تغيرت فيما بعد عندما تدهورت العلاقات الروسية الأمريكية، بعد انسحاب إدارة بوش من معاهدة الصواريخ المضادة للقذائف، الموقعة عام 1972، والتدخل بقيادة الولايات المتحدة في العراق، عكس بوتين مسار علاقته مع السعودية، وبدأ في اتّباع علاقات أفضل مع السعودية ضد ما وصفته موسكو أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تُشكّل "تهديداً مشترك لكليهما".
- د. حسن زيد بن عقيل، كاتب ومحلل سياسي يمني
- هناك ثلاث حلقات قادمة متصلة بهذا الملف سُتنشر على صفحات سوث24 في وقت لاحق.