يظهر في الصورة، اللواء المفرج عنه من سجون الحوثيين محمود الصبيحي، ومحافظ المهرة السابق، راجح باكريت، خلال افتتاح اللقاء التشاوري بعدن، 04 مايو، 2023 (STC)
05-05-2023 الساعة 6 صباحاً بتوقيت عدن
افتتاحية مركز سوث24
يمثّل اللقاء التشاوري الذي انطلق أمس الخميس، في عدن، بين مختلف الأطراف الجنوبية، علامة فارقة في الرحلة نحو السلام والاستقرار في المنطقة. اللقاء، وهو الأكبر من نوعه منذ انطلاق الحركة الوطنية (الحراك الجنوبي)، دعا له المجلس الانتقالي الجنوبي، المكون الأبرز في جنوب اليمن، ويأتي بعد ما يقرب من عامين من عمليات حوار فردية وتواصل مكثّف جرى بين القوى الجنوبية في الداخل والخارج.
لا يمكن المبالغة في أهمية هذا الحدث الاستثنائي. منذ فترة طويلة، ابتليت منطقة اليمن بحرّب مدمرة وصراع محلي بنفوذ إقليمي، أدت إلى انتشار المعاناة والنزوح وفقدان الأرواح. كما قادت لبروز متغيّرات كبيرة أعادت صياغة المشهد السياسي في الشمال والجنوب. ولأنّ الجنوب كان هدفا استراتيجيا للصراع وخسر الكثير في سبيل التخلص من غزو الحوثيين وحلفائهم، فقد ساهمت الحرب الأخيرة في لملمة شتات القوى الجنوبية، التي طالما كانت عرضة للانتقاد بسبب عدم انسجامها، كما دفعت الحرب إلى إعادة تشكيل المشهد بصورة، برزت معها هياكل جنوبية جديدة، تتمتع بحضور شعبي وعسكري ودعم إقليمي وتماسك تنظيمي. ونتيجة لذلك، يوفّر اللقاء التشاوري في عدن، الذي سيستمر لأربعة أيام، فرصة حاسمة للأطراف الجنوبية للالتقاء ومناقشة وجهات نظرهم وحتى خلافاتهم، وإيجاد أرضية مشتركة من أجل السلام والازدهار.
ويأتي عقد هذا الاجتماع دليلاً على العمل الجاد والتفاني لفريق الحوار الوطني الجنوبي، الذي شُكّل في منتصف عام 2021 بدعوة من عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي. تم تكليف الفريق بإجراء مشاورات وحوارات مع النخب والشخصيات والمكونات الجنوبية جميعها، لبناء توافق في الآراء حول القضايا الرئيسية ووضع رؤية مشتركة لمستقبل جنوب اليمن.
إطلاق مثل هذا الحدث التاريخي المهم، وبحضور ما يقارب من (300) مندوب يمثّلون مختلف المكونات والأطياف الجنوبية، يؤسس لعمل استراتيجي وسياسي وطني متين، ويخلق حالة نشطة من التقارب، فضلاً عن ترسيخه وتعزيزه للاصطفاف الجنوبي وقيم التصالح والتسامح التي ظلّت النخب والمكونات الجنوبية تدعو إليها منذ لحظة انطلاق الحراك الجنوبي في 2007. هذه الحالة الاستثنائية، تمثّل رمزية كبيرة للجنوب، من حيث أنّها لم تتجسّد بهذا الجمع الجنوبي الضخم في تاريخ اللقاءات والحوارات الجنوبية التي سبقت حدث الرابع من مايو.
ذلك بالرغم من حساسية التوقيت وصعوبته، بالنظر إلى تعقيدات الصراع الداخلي الممتد منذ 2014؛ الذي يدخل سنته التاسعة في اليمن، إلا أنّ الحدث بحد ذاته يشكّل خطوة داعمة وتكميلية للجهود الدولية والإقليمية الدؤوبة لإنجاح عملية السلام الشاملة، بالإضافة إلى أنّه يمكن أن يهيّئ أرضية صلبة للجنوبيين قبل دخولهم في مفاوضات الحل النهائي مع الأطراف اليمنية الأخرى، لحصولهم على استحقاقاتهم السياسية والعسكرية وتحقيق الحد الأعلى من مطالبهم وفقاً لقضيتهم العادلة، ودورهم الكبير في مكافحة الإرهاب، فضلا عن التأثير السياسي والعسكري الذي يشكّلوه على امتداد جغرافيا الجنوب.
تكمن أهمية اللقاء التشاوري الجنوبي الأول، في أنّه يضم شريحة واسعة من مختلف الأطياف والمكوّنات والشخصيات الاجتماعية الجنوبية ومنظمات المجتمع المدني، ستناقش عدد من الملفات المهمّة التي اقترحها فريقا الحوار الجنوبي، من بينها ملف "ميثاق الشرف الوطني الجنوبي"، وملفات متعلقة بالشراكة وإدارة المخاطر ومعالجة آثار الصراعات الجنوبية البينية، وإشراك المجتمعات المحلية في عملية الحوار ومرحلة التفاوض لإنهاء الصراع في اليمن. وجميعها ملفات مهمّة، كما أنّها مازالت مفتوحة وقابلة للنقاش وإبداء الملاحظات وطرح الرؤى المختلفة حولها، وذلك قبل أن تصاغ بشكلها النهائي للخروج بوفاق جنوبي يعبّر عن حصاد سنتين من الحوارات الجنوبية المكثّفة والتي لن تكون الأخيرة.
الأهم من كل ذلك، أن اللقاء يعبّر عن رؤية ثابتة تمثّل فكرة لطالما آمن بها الجنوبيون بمختلف مكوناتهم السياسية والشعبية ممثّلة باستعادة دولة الجنوب، وتأسيس دولة جنوبية فيدرالية مستقلة، تمنح أبنائها الحق بإدارة مناطقهم بأنفسهم، فضلاً عن أنّها رؤية تعبّر عن إصلاح سياسي مختلف، يعزّز لفكرة الانفتاح الطموح على الجميع، ويرسّخ لثقافة الحوار، واحترام الآخر الجنوبي.
أيّدت الغالبية من المكوّنات والقوى السياسية في جنوب اليمن، فكرة اللقاء التشاوري الأول، وبعثَ أكثر من 80% من المكوّنات بإشارات إيجابية في أنّها ستكون جزءاً رئيسياً من هذا المسار الوطني المهم، وكانت الأخيرة فعلياً حاضرة في الحدث. في المقابل، اعتذرت بعض المكوّنات الجنوبية الأخرى عن مشاركتها في اللقاء التشاوري لأسباب ربما لها علاقة بالتنظيم وآلية الدعوة للحوار، أو عدم جاهزيتها الفعالة لانتهاج مثل هذه الخطوة. بعض هذه القوى تتخوف من أن تذوب شخصيتها السياسية في إطار وطني أوسع. ومع ذلك يزعم القائمون على الحوار الجنوبي، أنّ جميع من التقوهم من القوى الجنوبية، بما فيهم المتحفظين، يتفقون مع الانتقالي الجنوبي على هدف "استعادة دولة" جنوب اليمن.
لطالما حاولت أطراف يمنية كثيرة من خارج الجنوب، أن تصدّر للخارج فكرة تعبّر عن هشاشة الموقف الجنوبي بهدف محاولة إضعافه سياسياً، وترسيخ فكرة أنّ أي توافق بين قوى الجنوب السياسية لن يكون إلا توافقاً مؤقتاً وقابلاً للتداعِ، غير أن هذه الأطراف لم تنجح، واستمرت عجلة الحوار الوطني الجنوبي في خطاها، ونجحت إلى حد كبير في تحقيق نوع من الانسجام والتوافق، ومازالت تطرق كل الأبواب، وسيتبع هذه المرحلة مراحل وخطوات أخرى عديدة.
مع ذلك، قد تكون هناك بعض العقبات والعثرات التي قد تعترض العمل الوطني الحثيث، غير أنّ الأهمية تكمن في محافظة الجنوبيين على تماسكهم وقوتهم، وبالذات قبل الدخول في مرحلة مفاوضات الحل النهائي في اليمن، حتى يتجنبوا فتح ثغرات من شأنها تشتيت جهودهم أو محاولة إضعافهم. كما أنّه من المهم بقاء باب الحوار مفتوحاً لكل الأطراف الجنوبية، واعتبار أن من لم يأتِ اليوم سيأتي غداً، تماما كما قال، ذات مرة، اللواء عيدروس الزبيدي: "من لم يأتِ إلينا سنذهب إليه". فالمرحلة الراهنة مهمة وحساسة، وتتطلب مشاركة الجميع، كما يمكن البناء على نتائجها بعدة حوارات ولقاءات تشاورية موسّعة، تؤسس لحياة سياسية متنوعة في مستقبل جنوب اليمن.
من المهم الإشارة، إلى أنّ الحدث تزامن بصورة لافتة مع إعادة هيكلة مؤسسات المجلس الانتقالي الجنوبي وهيئاته الإدارية، كضرورة حتمية لمواكبة المرحلة وتغيراتها المتسارعة، بهدف تحسين أداء عمله وتصويب الإخفاقات التي رافقت أداءه منذ إنشائه. من شأن هذه الهيكلة أنّ تساهم في تحقيق إصلاحات واستقرار سياسي، لا سيّما وأن الانتقالي الجنوبي يحتضن في إطاره كثير من الأحزاب والنخب والمكوّنات السياسية والمجتمعية.
من الآن فصاعدًا، سيكون لنتائج الاجتماع تداعيات كبيرة على كل من جنوب اليمن وعلى أمن واستقرار المنطقة ككل. إذا تمكنت الأطراف الجنوبية من إيجاد أرضية مشتركة والتوصل إلى رؤية مشتركة، فسيؤدي ذلك إلى تمهيد الطريق لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا للشعب هناك. كما سترسل رسالة أمل ومصالحة إلى المنطقة الأوسع وللمجتمع الدولي. ولهذا تتطلب هذه الخطوة دعما محليا وإقليميا ودوليا، بما في ذلك دعم القوى الشمالية، لأنه في نهاية المطاف، يكمن استقرار شمال اليمن والإقليم باستقرار الجنوب.
- مركز سوث24 للأخبار والدراسات
قبل 4 أشهر