غلاف الورقة
16-05-2024 الساعة 10 صباحاً بتوقيت عدن
ورقة تحليلية | إبراهيم علي*
منذ تشكيل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في العام 2009، شهد الفرع اليمني انشقاقات عديدة عصفت ببنيته التنظيمية والقيادية. تعود أسباب هذه الانشقاقات إلى خلافات أيديولوجية واختلافات في الرؤى حول استراتيجية العمل، بالإضافة إلى صراعات على السلطة والنفوذ والموارد. عادة، تطورت هذه الخلافات مع مضي الوقت لتصبح عامل انشقاق في حد ذاتها، وإما أن تثيرها أحداث معينة.
ومع أنه ليس كل خلاف داخل تنظيم القاعدة ينتهي إلى انشقاق، إلا أنّ النتائج، في بعض الأحيان، قد تكون واحدة. لكن كثيرا ما تتدخل القيادة العامة لكبح جماح أو لتجميد خلافات كان يمكن تتطور إلى احتكاك عملي مسلح، وفي بعض الأحيان يقود تدخل قيادة التنظيم العامة إلى نتائج عكسية.[1]
من الخارج قد يبدو التنظيم متماسكا، لكنّ الأحداث التي شهدتها السنوات الماضية كشفت عن هشاشة في بنيته الفكرية والتنظيمية، كإعلان تنظيم الدولة الإسلامية للخلافة، وإطلاق عملية عسكرية بقيادة السعودية ضد جماعة الحوثيين في اليمن. لقد ترتب على هذين الحدثين حراك غير مسبوق داخل التنظيم، سيرد لاحقا.
يمكن القول إنّ فرع تنظيم القاعدة اليمني نجح إلى حد ما في احتواء الانشقاقات التي شهدها خلال السنوات الماضية، إلا أنه لم ينجُ من آثارها، وخصوصا الانشقاق على إثر الخلاف مع تنظيم الدولة الإسلامية. ما زاد الطين بله، هو أن الانشقاقات الأخيرة تزامنت مع عمليات غير مسبوقة للقوات الجنوبية ضد التنظيم.
صحيح أن الحرب على التنظيم في اليمن تراجعت خلال تلك الفترة كأولوية بالنسبة إلى الدول الغربية الراعية للحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، إلا أنّ القوات الجنوبية تمكنت بمفردها من إلحاق هزائم قاسية بهذا الفرع وفي أهم معاقله.[2]
تستعرض هذه الورقة التحليلية، الانشقاقات التي شهدها فرع تنظيم القاعدة في اليمن منذ تشكيله عام 2009، سواء كانت فردية أو جماعية، مع قراءة الأسباب والدوافع، وطبيعة تأثيرها على مستقبل هذا الفرع، وأيضا على تماسكه الداخلي.
نشأة التنظيم
تشكّل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في العام 2009 من خلال دمج فرعي القاعدة في المملكة العربية السعودية واليمن.[3]
لفهم طبيعة الانشقاقات التي عصفت بتنظيم القاعدة وأسبابها وتداعياتها، من الضروري، أولا، فهم طبيعة البناء الهيكلي للتنظيم والتغييرات التي حصلت فيه والبنية الفكرية والأيدولوجية التي تقود أنشطته.
الهيكل التنظيمي: يتكون التنظيم من عدة مجالس ولجان، تشمل:
مجلس الشورى: وهو أعلى هيئة لصنع القرار في التنظيم، يُعيّن أمير التنظيم ويُشرف على عملياته.
لجنة العمليات: وهي مسؤولة عن تخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية.
لجنة الإعلام: وهي مسؤولة عن نشر دعاية التنظيم والترويج لأفكاره.
لجنة الشؤون المالية: وهي مسؤولة عن جمع الأموال وتمويل أنشطة التنظيم.
الأمير: زعيم التنظيم، ويُشرف على جميع أنشطته ويتولى القيادة العامة.
القادة المحليون: ومهمتهم الإشراف على عمليات التنظيم في مختلف المناطق.
الخلايا: وهي وحدات صغيرة تتكون من عدد محدود من المقاتلين، تُنفذ عمليات محددة.
التغييرات في الهيكل التنظيمي: شهد التنظيم تغييرات في هيكله التنظيمي خلال السنوات الماضية، وذلك نتيجة للضربات الجوية الأمريكية والعمليات العسكرية لمكافحة الإرهاب. بعد تلك الضربات، أصبح التنظيم أكثر لامركزية، مع توزيع الصلاحيات على نطاق أوسع بين القادة المحليين. كما بات يُركز التنظيم على العمل السري والتنظيمي أكثر من العمليات العلنية الكبيرة.[4]
البنية الفكرية لتنظيم القاعدة في اليمن: يعتبر تنظيم القاعدة في اليمن امتدادًا لتنظيم القاعدة العالمي الذي أسسه أسامة بن لادن. وتتشارك الفروع المختلفة للتنظيم نفس الأيديولوجية الأساسية، لكن قد تختلف في بعض التفاصيل والتكتيكات التي لا تتعارض مع التوجه الجهادي العام.
وتستند الأيديولوجية الأساسية للقاعدة في اليمن على:
الجهاد ضدّ الأعداء: إذ يعتبر القاعدة أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها هم أعداء للإسلام والمسلمين، ويؤمن بوجوب الجهاد ضدهم لإقامة خلافة إسلامية عالمية.
التكفير: يكفّر القاعدة الكثير من الحكومات والأنظمة الإسلامية، ويعتبر أنّهم عملاء للغرب، وانطلاقا من هذا الحكم يشن حربه ضدهم، ويستهدف المؤسسات والأفراد المرتبطين بهم.
الشريعة الإسلامية: يؤمن القاعدة بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية بدقة، ويعارض بشدة أي قوانين أو أنظمة تُخالف الشريعة، وفق فهمه. حاول تطبيق الشريعة وفق فهمه الخاص لها حين سيطر على مناطق شاسعة في محافظتي أبين وشبوة بين العامين 2011 و 2013.
العنف: يُؤمن القاعدة أنّ العنف هو أداة مشروعة لتحقيق أهدافها، ويستخدم العنف في شنّ الهجمات على الأعداء ونشر الخوف. رغم ذلك، أيد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط الأنظمة في عدد من البلدان العربية بين العامين 2011 و2012، وادعى المشاركة فيها، بالسلاح وبدون سلاح[5].
أما البنية الفكرية للقاعدة في اليمن فتتضمن بعض العناصر الخاصة:
التركيز على العدو الداخلي: يركز القاعدة في اليمن بشكل متزايد على محاربة "العدو الداخلي"، ويشمل ذلك بدرجة رئيسية القوات الجنوبية. يحاول التنظيم ربط خصومه في العادة بالولايات المتحدة و "الصهاينة". مع بداية الصراع في اليمن قبل نحو عشر سنوات، واجه التنظيم مليشيا الحوثيين في بعض الجبهات، قبل أن تتحول علاقة الجماعتين إلى علاقة تعاون وتنسيق، باتت تهدد جنوب اليمن وفق ما نقلته مؤخرا صحيفة التلغراف البريطانية[6].
استغلال الظروف المحلية: يُجيد القاعدة في اليمن استغلال الظروف المحلية، مثل الفقر والبطالة وعدم الاستقرار، لتجنيد المزيد من الأعضاء وانخراطهم في عملياته المسلحة.
العلاقات مع الجماعات المسلحة الأخرى: يقيم القاعدة في اليمن علاقات مع الجماعات المسلحة الأخرى، مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي شاركت في القتال إلى جانبهم ضد القوات الجنوبية بمحافظتي أبين وشبوة. وقد أقرت القاعدة بهذه المشاركة على لسان قادة بارزين في أكثر من مناسبة.[7]
تؤثّر هذه البنية الفكرية على نشاطات القاعدة في اليمن بشكل كبير، وتشمل هذه النشاطات:
شنّ الهجمات على "الأعداء": ينفذ القاعدة في اليمن هجمات مستمرة ضدّ القوات الجنوبية في أكثر من محافظة في الجنوب. بينما في السابق شنّ هجمات بين الحين والآخر ضد قوات إماراتية وسعودية في شبوة وحضرموت. كما يستهدف التنظيم بعض المدنيين الذين يتهمهم بالتعاون مع "الأعداء".[8]
التجنيد: يحاول القاعدة في اليمن تجنيد المزيد من الأعضاء من خلال الدعاية والترويج لأيديولوجيته. وقد حاول خلال السنوات الماضية استغلال سيطرة الحوثيين على غالبية شمال اليمن، لتقديم نفسه كحامل للواء "أهل السنة"، رغم بروز كثير من الأدلة التي تثبت علاقته المباشرة مع الحوثيين[9]، وحتى مع إيران.
جمع الأموال: يستخدم القاعدة في اليمن مختلف الأساليب لجمع الأموال، مثل الخطف والابتزاز. خلال السنوات الماضية حصل القاعدة بالفعل على ملايين الدولارات[10] جراء الفدى المالية التي توسطت فيها بعض الدول الخليجية.
نشر الخوف: يحاول القاعدة في اليمن نشر الخوف في المجتمع من خلال التهديدات والعنف وتطبيق "الشريعة" وارتكاب العمليات "الإرهابية".
الانشقاقات الفردية
(صالح العوفي)
في عام 2009 عندما أعلن عن اندماج فرعي تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية تحت مسمى "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، شهد التنظيم الجديد أول انشقاق. حيث انشق قيادي بارز (من الجنسية السعودية) يدعى صالح العوفي. وفق مصادر إعلامية سعودية، فإنّ العوفي سعى لتشكيل تنظيم جديد تحت مسمى "شباب التوحيد".
وحول أسباب الانشقاق، أكدت مصادر أمنية ـ في حينه ـ أن لها علاقة بخلافات مع قادة التنظيم بخصوص منهجه في العمل الذي استقاه من خبرته في القتال أثناء تواجده في الشيشان وأفغانستان.[11] غير أن العوفي لم يتمكن من تشكيل تنظيمه الجديد داخل السعودية، إذ قتل خلال اشتباكات مع قوات الأمن بالمدينة المنورة عام 2010.[12]
لم يكن لانشقاق العوفي صدى كبير، لأنه لم ينجح في مهمته التالية، ولأنه كان في إطار أيدلوجية التنظيم ذاتها، بخلاف بعض الحالات التي شهدت عودة المنشقين إلى بلدانهم بعد تواصل مع الأجهزة الأمنية.
محمد العوفي
قبل عام على مقتل القيادي صالح العوفي، كان القيادي البارز محمد العوفي قد أعلن انشقاقه عن تنظيم القاعدة في اليمن، وسلَّم نفسه إلى سلطات بلده السعودية.
وخلال لقاء تلفزيوني أرجع العوفي انشقاقه إلى أنّ "تنظيم القاعدة يضع السعوديين كواجهة... بينما من خلف الكواليس لا يوجد قيادي ميداني سعودي".[13]
لم يكن محمد العوفي هو السعودي الوحيد الذي سلم نفسه لسلطات بلده بعدما اكتشف أمورا مشبوهة داخل تنظيم القاعدة. اضطر العشرات ممن يحملون الجنسية السعودية للعودة إلى بلدهم بعدما قضوا فترة في صفوف التنظيم.[14]
جابر الفيفي
بعد عودته من معتقل خليج جوانتانامو وانخراطه ببرنامج الرعاية لفترة مؤقته، التحق القيادي الذي يحمل الجنسية السعودية، جابر الفيفي، بتنظيم القاعدة اليمني مجددا، قبل أن يسلم نفسه لسلطات بلده في منتصف شهر أكتوبر من العام 2010.[15]
وفي لقاء تلفزيوني، سرد الفيفي عددا من الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قراره بالانشقاق عن التنظيم وتسليم نفيه لسلطات بلده، ومن بينها أسباب فكرية. إذ أعتبر الرجل أنّ أفكار تنظيم القاعدة لا تصمد أمام كثير من الحجج. وأشار إلى أنّ نقطة التحويل في قراره جاء عقب حضوره مناظره في محافظة يمنية، حول (حكام البلدان الإسلامية واستهداف "الأجانب المعاهدين")، انتهت لصالح الخصم. وفقا للفيفي، كانت هذه المناظرة نقطة تحول مهمة في مسيرته مع التنظيم، إذ بدأ بعدها بالتفكير جديا بتسليم نفسه للسلطات السعودية. ساق الفيفي أسبابا عائلية أخرى.[16]
وكشف الفيفي كيف ينتهج القاعدة بعض الممارسات لتجنب الانشقاقات في صفوفه. أشار الفيفي إلى أنّ انتحاري يمني كان يفترض أن ينفّذ العملية الإرهابية التي نفذها (السعودي) عبد الله طالع عسيري في قصر محمد بن نايف بمدينة جدة عام 2009. يعتقد الفيفي أن السبب وراء ذلك هو خشية التنظيم من انشقاق السعوديين. يشير هذا التصرف، إلى أنّ التنظيم قد يلجأ إلى الحيلة والوقيعة لمنع أعضائه وقادته من الانشقاق.
قواسم مشتركة
من خلال حالات الانشقاق الفردية الثلاث، يتضح أن جلّ أسبابها تعود إلى خلافات حول قضايا متعلقة بالجانب الفكري، سواء كان هدف المنشقين التصحيح أو التخلي عن فكر التنظيم ومنهجه تماما.
كما أن انشقاق عدد محدود من عناصر وقادة التنظيم خلال تلك الفترة، لا يعني أن من بقوا معه مؤمنون تماما بفكره، لأن الانشقاق يعتبر مرحلة متقدمة من الرفض، والوصول إليه من عدمه يتعلق بظروف وتجارب كل شخص على حدة. على سبيل المثال، سرد جابر الفيفي تفاصيل حوادث أوصلته إلى هذه المرحلة، ومن بينها قصة المناظرة بين قيادي شرعي من التنظيم وإمام جامع.
حتى حالات الانشقاق التي حدثت بعد تلك الفترة، لم تكن فقط وليدة الأحداث التي ارتبطت بها، وإنما كانت عبارة عن تراكم من الرفض والوصول إلى قناعة مفادها أن الرحيل أفضل من البقاء.
إلى جانب الأسباب الفكرية التي أدت إلى انشقاق بعض قيادات تنظيم القاعدة، يقر التنظيم بوجود أسباب نفسية للخلافات بين عناصره. تتطور الخلافات غالبا إلى انشقاقات أو اشتباكات مسلحة.
فمثلا يشتكي نائب قائد تنظيم القاعدة في السعودية (سابقا)، سعيد الشهري، من أنّ: "التصادمات داخل التنظيمات، هي مسألة نفسية، وليست عقائدية، وإذا لم يجر علاجها، ستتفاقم، ويصعب السيطرة عليها، ويصبح الهم الرئيسي له لذلك الشخص، وبالتالي يبتعد عن الجهاد."[17]
الانشقاقات الجماعية
أزمة تنظيم الدولة
على رغم أن إعلان تنظيم الدولة الإسلامية للخلافة الإسلامية لم يشكل أزمة فورية لفرع تنظيم القاعدة في اليمن، إلا أنه وجد نفسه في وقت لاحق مضطرا لاتخاذ موقف من هذا الإعلان، خصوصا في ظل تنامي الخلاف بين داعش والقيادة العامة للقاعدة. المشكلة التي واجهت فرع القاعدة اليمني في بادئ الأمر، تمثلت في تحمس كثير من أعضائه وقادته للالتحاق بتنظيم داعش.
عُرف عن فرع القاعدة في اليمن، أنه أقرب إلى تنظيم الدولة منه إلى تنظيمه الأم، ولهذا توقع كثيرون أن يكون أول أفرع القاعدة تأييدا لإعلان الخلافة. ما رسخ هذا الاعتقاد، هو موقف الفرع اليمني من الخلاف بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة (فرع القاعدة سابقا) في سوريا. حين أعطت الجبهة مهلة لعناصر تنظيم الدولة بمغادرة حلب، وهددت باستخدام القوة ضدهم إن لم يفعلوا. قد أصدر فرع القاعدة اليمني بيانا بعنوان "رسالة إلى الفصائل المجاهدة في الشام"، انتقد فيها التهديد باستخدام القوة. واُعتبر هذا البيان انحياز لصالح تنظيم الدولة.[18] كذلك، حين قاتلت جبهة النصرة عناصر تنظيم الدولة بحجة أنهم خوارج، أصدر تنظيم القاعدة في اليمن بيانا، قال فيه بالحرف "هم إخواننا وليسوا خوارج".[19]
إلى جانب ذلك، جاهر بعض قيادات فرع تنظيم القاعدة في اليمن بمناصرتهم لتنظيم الدولة وتأييد إعلانه للخلافة، ومن بين هؤلاء القيادي الدعوي البارز، مأمون حاتم، الذي سجل كلمة صوتية بعنوان "النصرة اليمانية للدولة الإسلامية".[20]
حشد حاتم حوله العديد من عناصر التنظيم، دون أن تعترض عليه قيادة الفرع في اليمن. كان حاتم، وبحكم معرفته بعمق العلاقة بين التنظيمين، يعتقد أن إعلان التأييد للبيعة قادم لا محالة، وجاء تصرفه على أساس من هذا الاعتقاد. وعلى إثر ذلك، تواصل تنظيم الدولة مع مأمون حاتم، وعيَّنه مسئولا على العشائر في السدة والنادرة وبعض مناطق محافظة إب.[21] غير أنَّ ما حدث بعد ذلك جاء على خلاف كل التوقعات، ومهّد لأول انشقاق جماعي. وعلى إثر أكد فرع القاعدة اليمني، وبشكل مفاجئ، أن إعلان الخلافة غير شرعي، وبالتالي لا مجال لمبايعة داعش. على الرغم أنّ معظم أفرع القاعدة، باستثناء قاعدة اليمن، أعلنت رفض البيعة لداعش. هذا الرفض جاء تبعا لموقف القيادة العامة.[22] لكنّ بالنسبة إلى الفرع اليمني، كان الرفض السريع، يعني حدوث انقسامات داخلية كبيرة، لهذا حرص على التمهيد له بدورات داخلية، أدارها عدد من قادته، وركزت على أهمية الاقتداء بأهل السبق في الجهاد وتبجيلهم وأمور أخرى. وفق مصادر خاصة، كانت هذه الدورات من الأسباب التي أدت إلى مقتل زعيمه السابق ناصر الوحيشي، بعدما تخلى عن جزء من احتياطاته الأمنية، للمشاركة في الدورات التي تلاها إعلان رفض خلافة داعش.[23]
صحيح أن تلك الدورات لم تحل دون حدوث انشقاق عن التنظيم، إلا أنها حالت دون حدوث انشقاق كبير، يساوي عمق العلاقة السابقة بين التنظيمين. لقد انشق العشرات عن فرع القاعدة اليمني، وأعلنوا بيعتهم للبغدادي، وبدأوا يتحركون وينشطون بشكل مستقل.[24]
وبغض النظر عما آل إليه التنظيم الجديد المنشق، يمكن القول إن فرع القاعدة اليمني شعر بالارتياح إلى حد ما، لأن الخسائر لم تكن فادحة، غير أنَّ ما لم يدركه، هو أن هناك انشقاقا صامتا أكثر خطورة من الانشقاق المعلن، تمثّل في تراجع حماس جل أعضائه وقادته الذين رأوا في البداية أن الصواب يكمن في إعلان البيعة لداعش، لكنهم آثروا البقاء ضمن صفوف التنظيم تجنبا لتبعات الانشقاق. تعزز هذا الأمر لدى هؤلاء بعدما تطور الخلاف إلى مواجهات مسلحة بين التنظيمين في محافظة البيضاء (وسط اليمن) بين العامين 2017 و 2020. رأى كثيرون أن فرع القاعدة اليمني انقلب على موقفه السابق من تنظيم الدولة دون مبررات منطقية. الأدهى من ذلك، أن هذا الفرع الذي أنكر على "جبهة النصرة" وسم عناصر داعش بـ"الخوارج"، قاتلهم بذريعة أنهم خوارج، وحاول حشد قبائل البيضاء لقتالهم تحت هذه الذريعة.[25]
هذا التناقض بين موقفي فرع القاعدة اليمني السابق واللاحق من تنظيم الدولة، سواء فيما يتعلق بالموقف من إعلان الخلافة، أو التصنيف العقدي، أو مواجهته بالسلاح، خلق حالة من عدم الثقة داخل صفوف التنظيم. حاول القاعدة اللعب على التطورات لإضفاء طابع عقائدي على الخلاف، بهدف استعادة حماس مقاتليه. على سبيل المثال، استغل القيادي السابق خالد باطرفي، كلمة للمتحدث باسم تنظيم الدولة، أبو محمد العدناني، تحت عنوان "ولو كره الكافرون"، لتوجيه تهمة "تكفير المسلمين" لداعش. ولكي لا تبدو مواقف قاعدة اليمن متناقضة، قال خالد باطرفي إن "جماعة البغدادي" كشفت عن "مخبوء العقائد"، أي أنَّ الموقف الجديد جاء بناء على ما ظهر لهم من حقائق الخصم، ولا يعتبر متناقضا مع الموقف السابق. ولذلك وجدت قاعدة اليمن مبررا لقتال تنظيم الدولة، لكنه المبرر ذاته الذي قاتلت لأجله "جبهة النصرة".[26]
على الرغم من إضفاء طابع عقائدي على الصراع الجديد، إلا أنّ ذلك لم يحقق لفرع القاعدة اليمني ما أراده تماما، فالوضع الداخلي عقب رفض بيعة تنظيم الدولة، مختلف كليا عما قبله، بعيدا عن الانشقاق الذي تم وانتهى. فوفق مصادر خاصة لـ"مركز سوث24"، اعتزال عدد كبير من قادة وعناصر تنظيم القاعدة القتال ضد تنظيم الدولة في محافظة البيضاء، لأن مبررات القتال لم تكن مقنعة، على حد تعبيرها. ووصف المصادر هذا الاعتزال بأنه يشبه الانشقاق الصامت، إذ اعتزل كثيرون التنظيم دون أن يغادروه، خشية شق الصف، لكنهم لم يشاركوا في أي نشاط.
وتشير المصادر إلى أنّ اتساع دائرة الشك، وما ترتب عليها من إجراءات عملية، كان من ضمن الأسباب التي أدت إلى انشقاق القيادي البارز "أبو عمر النهدي" مع مجموعة من عناصر التنظيم بينهم قيادات من مستويات دنيا.
وخلال تلك الفترة، تعامل التنظيم بعقلية بوليسية مع عناصره، ما دفع كثيرون إلى اعتزاله، ومن بين هؤلاء عدد ممن يحملون الجنسية السعودية.[27]
تبعات أخرى
يمكن القول إن الانشقاق لصالح تنظيم الدولة، لم يكن الأثر السلبي الأبرز لرفض فرع القاعدة اليمني إعلان الخلافة، فثمة ما يمكن اعتباره خسارة استراتيجية، لاستهدافه أساس المشروع. فكما هو معلوم، أن إقامة الخلافة الإسلامية هو علة وجود القاعدة، أو الهدف النهائي لمشروعه، لكنه حارب هذا المشروع حين نقله داعش من النظرية إلى الواقع، من وجهة نظر أعضاء القاعدة في اليمن، وإن لم يصرحوا بذلك بشكل مباشر، وصرحوا به بأكثر من طريقة غير مباشرة، كتجنب القتال، والانخراط في أنشطة التنظيم عموما.
إلى جانب ذلك، وجد قاعدة اليمن نفسه مضطرا للتصرف بشكل ينسجم مع رفضه إعلان الخلافة، بحجة عدم التمكين. ولهذا السبب أسقط فكرة السيطرة على الأرض وإعلان إمارات إسلامية من قاموسه. فمثلا، حين سيطر القاعدة على مدينتي المكلا والشحر في محافظة حضرموت في 2015، جنوب اليمن، لم يعلنها إمارة إسلامية، ولجأ عوضا عن ذلك إلى تشكيل مجلسا أهليا من أهالي حضرموت لإدارة المحافظة من خلاله، أو لإخفاء سيطرته عليها.[28] واكتفى القاعدة لاحقا بما أسماه "الإسقاط الجزئي" للمناطق، ويعني ذلك السيطرة المؤقتة على المدن لتحقيق أهداف مالية وعسكرية ومن ثم الانسحاب منها.
حدث ذلك رغم أن تنظيم القاعدة في اليمن سبق وأن سيطر على محافظتي أبين وشبوة بين العامين 2011 و 2012، وأعلنهما إمارتين إسلاميتين، وفرض فيها أحكام الشريعة وفق فهمه لها، ولم يكن الأمر مجرد إدارة أمنية وتطبيقا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مناطق فراغ أمني.
كل ذلك خلق انشقاقا داخليا صامتا أثّر بشكل كبير على نشاط التنظيم العملياتي وعلى تماسكه، وأيضا على معنويات وحماس أعضائه، ولهذا لم ينفّذ التنظيم عمليات "انتحارية" إلا بعدد أصابع اليد بعد العام 2016، رغم أنها كانت تحدث بشكل شهري وأحيانا أسبوعي. تعتبر العمليات الانتحارية أعلى مستوى من التعبير عن الحماس للفكرة والاستعداد للتضحية في سبيلها. كان التنظيم قبل هذا الخلاف عبارة عن إيمان مطلق بالفكرة، واستعداد مطلق للتضحية من أجلها.
انشقاق جماعة "أبو عمر النهدي"
كما سبق وتمت الإشارة إلى ذلك، يُعتبر انشقاق جماعة "أبو عمر النهدي" مع مجموعة من عناصر التنظيم أحد نتائج آثار الخلاف مع تنظيم الدولة حول قضية "إعلان الخلافة". والأمر هنا لا يتعلق بإيمان النهدي والمنشقين معه بما أعلنه داعش، وإنما بالإجراءات التي اتخذتها قاعدة اليمن بعد رفضها مبايعة البغدادي، إذ تم توجيه التهمة للنهدي بمحاولة الانشقاق عن التنظيم والالتحاق بـ"جماعة البغدادي" في محافظة البيضاء أثناء المواجهات بين الطرفين.
ففي ذات يوم، حاول النهدي النزول من سطح أحد المنازل ومعه سلاح "بي كي سي" بغرض إصلاحه بعدما تعطّل خلال المواجهات، فتم القبض عليه وسجنه، قبل أن يُفرج عنه لاحقا، ليغادر التنظيم مع مجموعة من عناصره.[29] وعلى ما يبدو، لم يكن شك التنظيم وراء هذا الإجراء في حد ذاته، وإنما وجود خلاف سابق مع النهدي جعله تحت الرقابة، وجعل سلوكه محل شك. بمعنى أن التنظيم تعامل مع من لم يقتنعوا بموقفه من إعلان الخلافة، على أنهم منشقين لصالح داعش.[30]
وبالرغم من أن الخلاف مع النهدي رُفع إلى قيادة التنظيم العامة "أيمن الظواهري"، إلا أن الرد جاء منحازا لصالح فرع القاعدة اليمني الذي قدَّم الخلاف بطريقة تدين النهدي أصلا، وفق مصادر مقربة. كان النهدي قد اعترض على إجراءات فرع القاعدة اليمني التي طالت عددا من الأعضاء، من تعذيب واحتجاز وغيره، بحجة أنهم "جواسيس". لم يظهر في ما تم تسريبه عن النهدي ما يشي بقربه من تنظيم الدولة أو تأييده للخطوات التي أعلنها داعش بعد العام 2013 في العراق وسوريا. بل كان للخلافات الشخصية بين أبو عمر النهدي، وخالد باطرفي (زعيم التنظيم السابق)، دور في عملية الانشقاق التي لا يُعرف حتى اللحظة ما الذي حدث بعدها.[31] ومع ذلك، تؤكد المصادر أن انشقاق النهدي لن ينتهي إلى ما انتهى إليه انشقاق مجموعة (مأمون حاتم)، لأن الطرفين كانا حريصان على تجنب الصدام المسلح، كما أن الخلاف بينهما حول منهج الجهاد وليس حول الأيدلوجيا.
ومن أوجه خلاف انشقاق جماعة النهدي عن انشقاق مجموعة حاتم، وفق المصادر، هو أن النهدي وقاعدة اليمن يؤمنان بالقيادة العامة لتنظيم القاعدة كمرجعية رئيسية يمكن العودة إليها عند أي خلاف، بخلاف داعش الذي هاجم قيادة القاعدة العامة واتهمها بالضلال.
كان موقف قيادة فرع القاعدة اليمني من المنشقين لا تستدعي القتال إلا في حالتين: الوقوع في الردة وفي حالة الدفاع عن النفس.
من المهم الإشارة هنا إلى قتال قاعدة اليمن ضد داعش في محافظة البيضاء استنزفها بشكل كبير، ومن المستبعد أن تكرر التجربة مع منشقين آخرين، خصوصا في ظل وضعها الحالي المتذبذب على أكثر من صعيد.
خلافات سعد عاطف وباطرفي
إلى جانب الانشقاقات، عصفت أيضا بالتنظيم العديد من الخلافات، أبرزها وقعت بين خالد باطرفي (الأمير السابق) وسعد عاطف العولقي (الأمير الحالي للتنظيم). خصوصا وأنّ تعيين باطرفي خلفا أميرا للتنظيم بعد مقتل قاسم الريمي، لم يحظ بإجماع قادة مجلس الشورى، وفُرض بأمر من القيادة العامة (الظواهري).[32] وفضل عدد كبير من قيادات وأعضاء في القاعدة أن يكون سعد بن عاطف العولقي خليفة للريمي، لكنَّ توجيه القيادة العامة حسم الخلاف لصالح باطرفي، لأسباب تتعلق بمعرفة باطرفي الشخصية بالظواهري. ما يؤكد صحة هذه المعلومات، هي الطريقة التي صيغ بها بيان إعلان باطرفي زعيما لفرع القاعدة اليمني، حيث أشار البيان الذي نشرته "مؤسسة الملاحم" التابعة للتنظيم إلى أنه أُخذ برأي أكبر قدر ممكن من أعضاء "الشورى"، مرجعا ذلك إلى "اشتداد الحرب الصليبية ضدّ الجماعة، وملاحقة طائرات العدو لها، وتداعي الأعداء من كلّ حدب وصوب".[33] كان يمكن أيضا قياس ذلك من خلال طريقة مباركة القيادة العامة تعيين باطرفي زعيما لفرعها في اليمن، إذ اختلفت بشكل كبير عن طريقة مباركتها تعيين خليفته القيادي سعد بن عاطف العولقي.[34]
انشقاقات قادمة
رجحت مصادر جهادية[35] سابقة أن تنظيم القاعدة في اليمن سيشهد انشقاقات قادمة، وقد تبدو مبررة أكثر من السابقة، خصوصا عقب انكشاف علاقة التنظيم بإيران أكثر من ذي قبل، وفي ظل وجود القيادة العامة للتنظيم داخل الأراضي الإيرانية. وأشارت إلى أنّ بعض المنشقين السابقين، كمحمد العوفي، برروا تركهم للتنظيم بوجود علاقة مع جهات خارجية، في إشارة إلى إيران.
لقد بات حضور إيران في نشاط فرع القاعدة اليمني أكبر من قدرة التنظيم على إخفائه، لكنّه قد يلجأ إلى تبرير ذلك لاحقا، باستخدام القضية الفلسطينية[36]، من خلال تقديمها كأولوية وقضية جامعة. وترجّح المصادر أنّ يؤدي ذلك إلى انشقاقات جديدة في صفوف التنظيم، الذي بات أضعف تنظيميا من أي وقت مضى.
هناك اعتقاد سائد بأن أيمن الظواهري،[37] القائد العام لتنظيم القاعدة بعد أسامة بن لادن، كان يفتقد إلى الخبرة والرؤية اللازمة لقيادة التنظيم، وقد ظهر ذلك من خلال إدارته لعدد من الملفات، لعل أبرزها ملف الخلاف مع تنظيم الدولة الإسلامية، وملف الخلافات داخل صفوف فرعه اليمن.
ونتيجةً لذلك، واجه الظواهري صعوبات كبيرة في الحفاظ على وحدة القاعدة وقوتها خلال فترة توليه للقيادة، بخلاف سلفه أسامة بن لادن الذي تمتع بشخصية كاريزمية وخطابية مؤثرة، مما ساعده على حشد الدعم وجذب المتابعين من عدد من دول العالم الإسلامي، ولم يشهد التنظيم خلال قيادته انقسامات بالصورة التي شهدها بعد موته. ولهذا، من المتوقع أن يشهد تنظيم القاعدة تغييرات كبيرة وعلى أكثر من مستوى في ظل قيادة أحمد سيف العدل، المتواجد داخل الأراضي الإيرانية.
وبالنظر إلى وجود علاقة من نوع خاص تربط سيف العدل بفرع القاعدة اليمني، كون هذا الفرع هو الذي قاد صفقة مع إيران لإطلاق سراح (سيف العدل)[38] عام 2015، لا يُستبعد أن يكون هناك تواصلا وتنسيقا مباشرين لإدارة النشاط وملفات الخلاف. وما يؤكد هذا الاهتمام الخاص هو قيام سيف العدل بإرسال نجله إلى اليمن.[39]
عوامل الانشقاق
مركز سوث24 للأخبار والدراسات
التنافس على السلطة والاختلافات الأيديولوجية: برزت كمحرك رئيسي للانشقاقات، حيث سعى بعض القادة للانفصال عن القيادة المركزية أو فرض أفكارهم الخاصة.
الحرب الأهلية اليمنية: فجرت الحرب صراعات داخلية بين أعضاء التنظيم حول موقفهم من الأطراف المتحاربة، مما أدى إلى انشقاقات وخلافات جديدة.
العمليات العسكرية الأمريكية: استهدفت غارات الطائرات بدون طيار قيادات بارزة في التنظيم، من الصفوف الأولى والثانية والثالثة، مما أضعف قدرته على التماسك والسيطرة على فروعه.
عمليات مكافحة الإرهاب المحلية: قادت القوات الجنوبية منذ تشكيل أولى وحداتها بدعم دولة الإمارات العربية المتحدة في 2016، حربا لا هوادة فيها ضد عناصر ومعاقل التنظيم التاريخية في عدة محافظات في جنوب اليمن. لا تزال "عملية سهام الشرق" المستمرة في محافظة أبين منذ منتصف العام 2022، أهم العمليات التي أطلقت في اليمن على مر التاريخ ضد التنظيم المتشدد. تسببت هذه العمليات بإضعاف قدرات القاعدة على أكثر من مستوى وساهمت في توسيع هوة الخلافات داخل التنظيم، خصوصا مع انضمام كثير من القبائل للحرب ضده.
المستقبل والتداعيات
ستقود الانشقاقات المحتلمة داخل بنية القاعدة إلى تقسيم التنظيم وإضعافه، مما قد يجعله أقل قدرة على شنّ الهجمات وجمع الأموال وتجنيد الأعضاء. كما ستقود إلى فقدان القاعدة في اليمن للمصداقية بين أتباعها، مما قد يُصعّب عليه الحفاظ على دعم الأعضاء الحاليين. ومن المرجح أن تُؤدّي الانشقاقات إلى صراعات داخلية بين الفصائل المختلفة للتنظيم، مما قد يُشتّت انتباه التنظيم ويُقلّل من قدرته على تحقيق أهدافه. قد تقود هذه الخلافات أيضا إلى تراجع كبير في حماس عناصر التنظيم. ومع ذلك من المبكر تحديد التأثيرات طويلة المدى للانشقاقات التي شهدها تنظيم القاعدة في اليمن، لكن الانشقاقات السابقة والمحتملة شكّلت وستُشكل تحديًا كبيرًا لمستقبل القاعدة، وقد تُؤدّي إلى تغييرات مهمة في سلوكه وهيكله، وربما تدفعه لتوسيع تنسيقه وتعاونه مع جماعات مسلّحة أخرى، كالحوثيين.
ومن غير المرجح أن يتمكن التنظيم من إعادة توحيد فروعه المنشقة في ظل الخلافات الأيديولوجية والصراعات على السلطة. وقد تستمر جماعات التنظيم المنشقة كجماعات مسلحة محلية تركز على شن عمليات صغيرة في مناطق محددة.
وفي المحصلة، تعتمد قدرة التنظيم في البقاء على تطورات الصراع في اليمن، ومسار الجماعات المتطرفة الأخرى في المنطقة، وفعالية الجهود الدولية والمحلية لمكافحة الإرهاب، فضلا عن مدى معالجة العوامل الجذرية التي أدت إلى ظهوره وازدهاره، مثل الفقر والبطالة وعدم الاستقرار السياسي.