الآلاف يتظاهرون ضد التعديلات القضائية في إسرائيل (رويترز)
10-04-2023 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | د.عزام شعث
بعد أكثر من ثلاثة شهور على موجة الاحتجاجات الواسعة وغير المسبوقة في إسرائيل، بفعل المواقف المتعارضة بين الحكومة وقوى المعارضة؛ وافق رئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو" على تعليق مشروع "التعديلات القضائية" مؤقتًا. ورغم إعلان "نتنياهو" أن "قرار التجميد يهدف إلى فتح منافذ الحوار من أجل التوصل إلى توافقٍ واسع بشأن التعديلات القضائية" [1]، وترحيب قوى المعارضة بخطوته هذه، إلا أنها لم تضع حدًّا لموجة الاحتجاجات المتصاعدة، وذلك لكونها "خطوة تكتيكية" لا تدخل في إطار الحلول الجذريّة، ولا تُشكّل مخرجًا نهائيًا للأزمة السياسية الممتدة والمحتمل استمرارها على خلفية المواقف المتعارضة المُعلنة من الحكومة وقادة المعارضة، بحيث أن كل طرف منهما يُصر على مواقفه لتحقيق تطلعاته وتعظيم منجزاته في السلطة والمعارضة معًا.
تناقشُ هذه الورقة تطورات الأزمة السياسية في إسرائيل وانعكاساتها الداخلية والخارجية. كما تطرح سؤالًا حول مستقبل الحكومة الإسرائيلية وخيارات السلطة والمعارضة في ضوئها.
خلفية الأزمة وتطوراتها
بعد مرور أسبوعين على تنصيب الحكومة الإسرائيلية برئاسة "نتنياهو"، تظاهر آلاف الإسرائيليين ضدها، وذلك على خلفية معارضتهم خُطط "الإصلاحات القضائية" التي أعلنها وزير القضاء "ياريف ليفين"، واعتبروها تقويضًا لاستقلال القضاء، كونها تقيّد صلاحيات المراجعة القضائية لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، وتعزّز السيطرة السياسية على تعيين القضاة، وتنتهك الحقوق المدنية وحقوق الأقليات عبر القضاء على صلاحية المحكمة العليا بإلغاء القوانين والقرارات الحكومية، وتمنح الأغلبية الحاكمة السيطرة على تعيين القضاة، مما يحدّ من إمكانية ممارسة القضاء لدوره في مواجهة سوء استخدام القيادة السياسية لسلطتها. وقد تصاعدت هذه التظاهرات واشتدت حدّتها مع رفض "نتنياهو" لمطالب المحتجين بدعوى تلقيه تفويضًا من ملايين الناخبين في نوفمبر 2022، يخوله تنفيذ "الإصلاحات". [2]
مثّلت هذه القضية مدخلًا لنشوب التوتر وتصاعده إلى مستويات غير مسبوقة وانتقاله إلى مربع السلطة القضائية بعد هجوم رئيسة المحكمة العليا، القاضية "إيستر حايوت"، على حكومة "نتنياهو" التي وصفت "التعديلات القضائية" بـ "هجوم جامح على القضاء... لا يهدف إلى تحسين النظام القضائي، بل إلى سحقه"، وأن "التغييرات المخطط لها على لجنة الاختيار القضائية تهدف إلى تسييس كامل لتعيين القضاة في إسرائيل، وذلك عن طريق التحكم في تشكيل لجنة انتخاب القضاة، بما في ذلك قضاة المحكمة العليا" [3]. كما أن قرار المحكمة العليا في 18 يناير 2023، بعدم أحقية رئيس الحكومة بتعيين رئيس حزب شاس، "أرييه درعي"، في أيّ منصبٍ وزاري، والمطالبة بنقله من منصبه، لكونه أُدين بمخالفات فساد خطيرة - كما أعلنت القاضية "حايوت"، فاقم الأزمة بين الحكومة والسلطة والقضائية أيضًا.
وفي ردها على الحكم القضائي وقرار الإقالة، اعتبرت حركة شاس أن القرار جاء لأن "درعي" من أصول شرقية، وأن القضاة العشرة الذين ألغوا تعيينه كانوا من أصول أشكنازية، في حين أن القاضي الحادي عشر كان شرقيًا. واعتبر نتنياهو في رسالة إقالته لدرعي، والتي اُتُفِقَ عليها، أن المحكمة العليا تجاهلت إرادة الناخبين الذين صوتوا لحركة شاس في الانتخابات برئاسة "درعي"، وأنه سيجد طريقة لبقاء "درعي" فاعلًا ومؤثرًا في الحكومة. [4]
لقد تطور مشهد الرفض الشعبي لسياسات الحكومة مع إقدام "نتنياهو" على إقالة [5] وزير الدفاع، "يوآف غالانت"، على خلفية دعوته إلى تجميد إصلاح النظام القضائي، مما أدى إلى اتساع رقعة التظاهرات وارتفاع أعداد المتظاهرين المشاركين فيها وفي مختلف المناطق، وضمنها محيط البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، ومحاصرة منزل "نتنياهو" في مدينة القدس. وقد تعزّزت مظاهر الاحتجاجات بانضمام ممثلي اتحاد النقابات الإسرائيلية "الهستدروت"، ونقابة الأطباء والقطاع الصحي، ونقابة المحامين، والمجالس البلدية، ومراكز التسويق الكبرى، وعمال مطار بن جوريون، وشخصيات دبلوماسية وعسكرية إليها، الأمر الذي دفع المتظاهرين إلى المطالبة باستقالة "نتنياهو" وحكومته.
دفعت هذه التطورات المتزامنة مع تزايد أعداد المحتجين إلى أكثر من 600 ألف شخص، مع ما يمثلونه من قوة وتهديد غير مسبوق لحكم "نتنياهو" وائتلافه اليميني، إلى البحث عن مخارج "مؤقتة" لخفض التوترات وترحيل الأزمة، بحيث استقر المقام على "صفقة نتنياهو- بن غفير"، التي اتفقا بموجبها على تأجيل تمرير "قوانين الإصلاحات القضائية" مقابل المصادقة على "تأسيس الحرس الوطني"، الذي سيكون تابعًا لـ "بن غفير".
الانعكاسات الداخلية والخارجية
لا تنحصر تأثيرات الأزمة السياسية في الداخل الإسرائيلي، بل تتعداه إلى البيئتين الدولية والإقليمية، بحيث أن استمرارها أم انحصارها والتغلب على تحدياتها، سوف يعكس صورة إسرائيل داخليًا وطبيعة علاقاتها الخارجية. ففي حال تمكنت الحكومة الإسرائيلية من إقرار "التعديلات القضائية"، سيكون لذلك انعكاساته الداخلية والخارجية، أهمها ما يلي:
أولًا، العلاقات الداخلية: من المعلوم أن قرار تعليق مشروع "التعديلات القضائية" جاء في إطار ترحيل الأزمة الداخلية حتى الدورة المقبلة للكنيست التي تبدأ في 30 أبريل، وتتجدّد معها الأزمة في حال أصرت حكومة نتنياهو على مناقشة "التعديلات القضائية" خلالها، وتشبثَ قادة المعارضة بمواقفهم وواصلوا تظاهراتهم حتى إلغاء "التعديلات"، وبذلك سوف يتجدّد مشهد الاحتجاجات والاضطرابات الداخلية التي لم تتوقف للأسبوع الرابع عشر على التوالي، بما يضر باقتصاد إسرائيل وأمنها، خاصة مع دخول المؤسسات الاقتصادية والنقابية والمؤسستين العسكرية والأمنية على خط الأزمة. وقد تتحول الاحتجاجات وقتها إلى مواجهة مفتوحة بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها عندما تدعو الأحزاب اليمينية أنصارها للمشاركة في التظاهرات المؤيدة للحكومة وللتعديلات القضائية.
ثانيًا، العلاقات الأمريكية: حاولت الإدارة الأمريكية الانخراط في مساعي إقناع "نتنياهو" بعدم المضي في مسار خطة "التعديلات القضائية" إلى نهايته، بحيث وجهت نصائح خاصة في اجتماعات مع المسؤولين الإسرائيليين لوقف "الخطة"، ثم مارست ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية ووجهت انتقادات واضحة لإسرائيل عبر تصريحات وبيانات رسمية، ففي يناير 2023، أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، موقفًا يتضمن نقدًا لنتنياهو حين قال: "إن علاقة البلدين قائمة على التزام مشترك بـ "المبادئ والمؤسسات الديمقراطية الأساسية"، ومع تصاعد الاحتجاجات الإسرائيلية، تدخل الرئيس الأمريكي بايدن، وبادر بالاتصال بـ "نتنياهو"، لكن الأخير صرح بأن "إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها ولا تخضع لضغوط من الخارج بما في ذلك من أفضل الأصدقاء"، وأقدم على إقالة وزير الدفاع في حكومته. وعلى الرغم من أن تأجيل "التعديلات القضائية" التي أدت إلى تخفيف التوتر مع واشنطن، إلا أن الإدارة الأمريكية- استنادًا إلى تصريحات بايدن- لا تزال حذرة في شأن خطط نتنياهو، وستنتظر نتيجة المفاوضات بين الحكومة والمعارضة [6]، التي تتحدّد على أساسها طبيعة العلاقة المستقبلية بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية.
ثالثًا، العلاقات العربية: تعمقت الأزمة بين الدول العربية وإسرائيل جراء "الاعتداءات" ضد الفلسطينيين واستمرارها في تبني سياسة تعزيز الاستيطان وشرعنته في الضفة الغربية، وعدم التزامها بمخرجات قمتي العقبة وشرم الشيخ اللتين عقدتا بهدف تحقيق التهدئة وخفض التوتر. كما تفاقمت الأزمة بين الطرفين بفعل سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية، وسلوك وزرائها وتصريحاتهم غير المنضبطة، التي كان آخرها استدعاء الأردن السفير الإسرائيلي في عمَّان، بعد تصريحات وُصفت بـ "العنصرية" لوزير المالية الإسرائيلي "بتسلئيل سموتريتش"، استخدم فيها خريطة لإسرائيل تضم حدود الأردن والأراضي الفلسطينية، فضلًا عن موجة الغضب بعد دعوته إلى "محو" بلدة حوارة الفلسطينية، وقبلها اقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي "إيتمار بن غفير"، باحات المسجد الأقصى في يناير الماضي [7]، وما شهدته باحات المسجد الأقصى من "اعتداءات" إسرائيلية ضد المصلين والمعتكفين طيلة شهر رمضان، وستظل الأزمة بين الدول العربية وإسرائيل قائمة في حال نفذت الحكومة الإسرائيلية خُططها لجهة انتهاك حقوق الفلسطينيين مع إقرار "التعديلات القضائية".
رابعًا، العلاقة مع الفلسطينيين: ورابعًا، العلاقة مع الفلسطينيين: وفيما يتعلق بالتأثيرات المحتملة للتعديلات القضائية على الفلسطينيين، فإنها تتمثل في تطويع الائتلاف الحكومي للمحاكم الإسرائيلية بما يخدم أهدافه وسياساته بشأن الاستيطان كقضية مركزية. ففي حال نجح الائتلاف الحاكم في تمرير هذه التعديلات، سيكون قادرًا على انتتاج آليات للضم والتهويد ومصادرة الأراضي والتوسع الاستيطاني وشرعنته بقرارٍ من المحاكم والهيئات القضائية، ما يعني في التحليل الأخير انتهاك حقوق الفلسطينيين ومصادرتها، وتحقيق الأهداف التي ثبتتها الحكومة الإسرائيلية في برامجها السياسية ووثيقة الخطوط العامة التي قامت على أساسها، ويساعد في ذلك تأسيس "الحرس الوطني" بقيادة "إيتمار بن غفير" الذي ستُستخدم قواته في قمع الفلسطينيين في الضفة الغربية ومدينة القدس، وفي حماية المستوطنين.
خيارات الحكومة والمعارضة
إنَّ الأزمة السياسية الراهنة في إسرائيل والناجمة عن مشروع "التعديلات القضائية" التي افتتحت به الحكومة ولايتها، مسّ مكانتها ووفائها ببرنامجها ووعودها الانتخابية، بحيث انقضت مهلة المئة يوم في 8 أبريل 2023 - وهي المهلة التي تُمنح عادةً لكل حكومة جديدة - دون أن تُلبي الحكومة الإسرائيلية أيٍ من الوعود الانتخابية في الاقتصاد، وتكلفة المعيشة، والسكن، والأمن، وتخفيض ضريبة الدخل وضريبة الشركات، وتجميد معدلات ضريبة الأملاك، وغيرها من الوعود.
ومع ذلك، يبدو أن "نتنياهو" لن يتوقف عن تنفيذ خطة "التعديلات القضائية" حتى بعد الإعلان عن تأجيلها لسببين؛ فعلى المستوى الشخصي يحتاج إلى إقرار هذه الخطة قبل أن يُصدر القضاء أحكامًا ضده؛ ثم أنه معني بإرضاء شركاء الائتلاف الحكومي خشيةً من انسحابهم من الحكومة الذي سيؤدي في النهاية إلى حلها، إذا اعتقدوا أن "نتنياهو" قد تراجع عن إقرار "التعديلات القضائية"، وهو ما يعني الانتقال إلى مرحلة جديدة بالعودة إلى الانتخابات السادسة في ظل حالة الانقسام السياسي غير المسبوقة في تاريخ إسرائيل.
وستقابل المعارضة الإسرائيلية هذا الإجراء بالاستمرار في مواقف الرفض واللجوء إلى الضغط على الحكومة الإسرائيلية عبر الاحتجاجات والمظاهرات، مما يؤدي إلى تعميق الانقسام الداخلي، والانزلاق إلى دائرة الصدام بين الطرفين، وتدهور الأوضاع الأمنية والشلل في المرافق العامة، ذلك أن قوى المعارضة وعلى امتداد الشهور الأخيرة أثبتت قدرتها على التأثير في الرأي العام كونها تستند على مقولة أن "التعديلات القضائية" تعني تقويض الديمقراطية، والالتفاف على مطالب المعارضة. لكن يؤخذ على المعارضة الإسرائيلية أنها تفتقر لأي خطة بديلة، حيث استثمرت كل جهودها في عملية رفض الإصلاحات القضائية، ولم تستمع إلى الأصوات التي تؤيد إجراء إصلاحات متفق عليها بين الحكومة والمعارضة، وعاجلًا أم آجلًا سيطالبها الجمهور الذي وقف معها بأن تقدم خطتها الخاصة لمعالجة الأزمة. [8]
وأخيرًا، يمكن القول أن خطة "التعديلات القضائية" التي عمقّت التصدع الداخلي، وأنتجت انقسامًا حادًّا بالمعاني الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية في عموم المجتمع الإسرائيلي وبين قواه السياسية في الحكم والمعارضة، تندفع إلى مسارٍ أكثر تأزمًا تتشكل على أساسه طبيعة العلاقات الداخلية ومستقبل النظام السياسي ومآلات حكومة "نتنياهو"، وتتحدد في ضوئه صورة إسرائيل وعلاقاتها في المحيطين الدولي والإقليمي.
المراجع:
[1] نتنياهو" يعلن رسميًا تجميد التعديلات القضائية، وكالة سما الإخبارية، 27 مارس 2023.
[2] عزام شعث، تنازع الصلاحيات: كيف يؤثر التوتر في إسرائيل على حكومة نتنياهو؟، القاهرة: مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 24 يناير 2023.
[3] حايوت: "خطة التعديل القضائي ضربة قاضية للديمقراطية الإسرائيلية"، تايم أوف إسرائيل، 13 يناير 2023.
[4] مهند مصطفى، الصراع على القضاء: الأزمة السياسية والدستورية في إسرائيل وتداعياتها الداخلية والخارجية، أبو ظبي: مركز الإمارات للسياسات، 27 يناير 2023.
[5] نتنياهو يقيل يوآف جالانت، عرب48، 27 مارس 2023.
[6] مروة محمد عبد الحليم، الضغوط الهادئة: ما هي حدود النفوذ الأمريكي على إسرائيل؟، القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، "المرصد المصري"، 9 أبريل 2023.
[7] أحمد عبد القادر يحيى، قنبلة موقوتة: مستقبل الأزمة السياسية في إسرائيل عقب تجميد التعديلات القضائية، أبو ظبي: مركز انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 1 أبريل 2023.
[8] سعيد عكاشة، الأزمة في إسرائيل: تهدئة لا تضمن حلًا نهائيًا، القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 28/3/2023.
قبل 15 يوم