24-10-2021 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| فاطمة جونسون
إنَّ الفهم التاريخي لتاريخ فلسطين والفلسطينيين عادة ما كان يشوبه غياب تحقيق كامل وصريح في أحداث 1948 التي طالما كانت نظرة الغرب لها من جانب واحد. في هذا العام المذكور، أصبحت إسرائيل دولة في 14 مايو 1948. بيد أن بداية التأريخ الموضوعي الاحترافي في هذا المجال تعود إلى كتاب قسطنطين زريق «معنى النكبة» (1) عام 1956. ومنذ ذلك الحين، أصبح اللفظ «نكبة» هو المصطلح القياسي بين الفلسطينيين الذي يستحضر صدمة 1948 داخل العقل الجماعي الذهني والثقافي. (2)
لتوضيح الأمر، فقد شهد عام 1948 مقتل عدد هائل من الفلسطينيين على أيدي القوات الصهيونية وطرد الكثيرين خارج فلسطين.
لقد قُتل 15 ألف فلسطيني وطُرد 800 ألف من منازلهم تحت تهديد السلاح إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ومصر وسوريا ولبنان ومناطق أخرى من العالم. علاوة على ذلك، تم إجلاء المزيد من الآلاف قسرا من منازلهم لكنهم ظلوا داخل الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل التي دمرت 531 بلدة وقرية فلسطينية وقامت بمحوها تماما من الخريطة. (3)
وبالرغم من حجم الفظائع المشار إليها أعلاه، لم يتم النظر إلى ذلك باعتباره فصلا صحيحا في قصة فلسطين وإسرائيل أو حتى كحقيقة تاريخية. وهكذا، فإنَّ التوحيد القياسي والقبول بالمصطلح نفسه داخل ضمير عامة الفلسطينيين لم يتم الاعتراف به بشكل تام على الصعيد التاريخي الاحترافي في الغرب. ووفقا لنور مصالحة في كتابه «نكبة فلسطين»، فإنَّ الخطاب الأكاديمي الغربي نادراً ما اعترف بالمصطلح الذي لم يتم ذكره قط (4) في سياق دراسات الصدمات أو الإبادة الجماعية.
وفي عام 2006، نشر إيلان بابي عملًا رائدا يكشف جزءا من الأدلة في كتاب بعنوان «التطهير العرقي لفلسطين». وجعل الكتاب نموذج استخدام «التطهير العرقي» (5) بدلا من «نموذج الحرب» (6) بمثابة أساس لدراسة أحداث 1948. وكما ذكر بابي نفسه، لم تتواجد النكبة أبدا داخل «كتب التاريخ» (7). ولذلك يمثل كتاب بابي سردًا ملهمًا جديدا لأحداث 1948، حيث وصفه بأنه بمثابة عريضة اتهام ضد مسؤولين وسياسيين وجنرالات جيش معروفين بالاسم.
وتتابعت الأعمال بعد ذلك مثل كتاب «كل ما تبقى» (8) للمؤرخ وليد الخالدي الذي يمثل تقويما زمنيا للقرى الفلسطينية المدمرة، وكتاب «الكارثة الفلسطينية» الذي ألفه مايكل بالومبو (9) ويكشف تفاصيل المذابح والتفجيرات وأشكال الدمار الذي تعرض لها الفلسطينيون عام 1948.
يتعين أن يتم وضع ذلك في مواجهة الرواية الإسرائيلية الرسمية التي استمرت دون أن يطعن العالم الأكاديمي في صحتها، وتزعم أن الفلسطينيين اتفقوا بإرادتهم على انتقال مؤقت بحيث تستطيع جيوش الدول العربية دحر دولة إسرائيل الناشئة. بيد أنَّ الخالدي وبالومبو وكذلك المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس استطاعوا فضح لجرائم الخطيرة التي جرى ارتكابها ضد الفلسطينيين عام 1948. الفارق الرئيسي يتمثل في أن كتاب بابي يقدم أدلة على تخطيط ممنهج (10) وفظائع تتضمن مذابح واغتصاب وطرد وتسميم الماء بواسطة من زعماء وضباط الصهاينة في 10 مارس 1948 تحت مسمى «الخطة د». وهكذا، يؤدي ذلك إلى تصنيف أحداث 1948 في سياق تعريف التطهير العرقي بما يعنى أن القوات الصهيونية والدولة الإسرائيلية بعد ذلك ارتكبت جريمة ضد الإنسانية.
ويعرض بابي أمام القارئ سردا راديكاليًا قاتمًا في جوهره يرتبط بتأثيرات واضحة على الصعيدين الأخلاقي والقانوني.
وتطور التاريخ بشكل متزايد من خلال كتاب نشر عام 2012 بعنوان جريء يستخدم مصطلح «النكبة»، ويحمل اسم «نكبة فلسطين» للكاتب نور مصالحة. في هذا العمل، جرى التأكيد على أنَّ موضوع النكبة شهد في البداية إنكارا من المؤرخين، قبل أن يتحول التركيز لفترة طويلة من الوقت على المصادر التي تثبت أنه «أثناء حرب 1948 وما بعد النكبة مباشرة، تم محو اسم فلسطين من الخريطة» (11). وفي العمل الذي ألفه مصالحة، يمتد التركيز أيضا إلى تبني مقاربات «ديكولونية» بشأن التاريخ الفلسطيني، والحاجة إلى الابتعاد عن النهج الفوقي الذكوري «من أعلى إلى أسفل»، وعدم الاعتماد على مصادر رسمية.
وعلاوة على ذلك، فإن المعركة الذي تستهدف تحريك الخطاب إلى الأمام تبدو مكتملة أيضا في كتاب مصالحة من خلال استخدامه لمصادر عربية وتاريخ شفهي وذاكرة وإشارة إلى دراسات توراتية وأثرية وترتبط بالصدمة والسكان الأصليين. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة تنويهات تتعلق بالتطهير التنقيحي العرقي وتأريخ مشروعات الاستعمار الاستيطانية ونظرية ما بعد الاستعمار. كما يتطرق الكتاب إلى نظرية التابع التي ألفها أنطونيو غرامشي، حيث تم تقديمها في صورة المجموعات غير النخبوية في فلسطين وإسرائيل الذين تعرضوا للتهميش والاستعمار و«التطهير العرقي لسكان فلسطين الأصليين» (12). كتاب نكبة فلسطين يمثل إذن ساحة تخيلية للتفوه بالحقيقة أبطالها أصوات وقصص تتعلق بفلسطينيين عرب تعرضوا للقمع. وعلى سبيل المثال، فقد جرى تخصيص فصل إبداعي كامل من الكتاب للحديث عما وصفه مصالحة بـ «الغسيل الأخضر»، يتحدث خلاله عن الكيفية التي زرع بها ما يسمى «الصندوق القومي اليهودي «مئات الآلاف من الأشجار لإخفاء القرى الفلسطينية التي هدمتها إسرائيل (13). وضرب الكاتب مثالا على ذلك بما حدث في بلدة الطيرة تلك القرية الفلسطينية السابقة في حيفا والتي تتوارى حاليا بسبب هذه الأشجار. «نكبة فلسطين» هو عمل صريح وطموح ومتطور، لكن الأكثر الأهمية هو قدرته على إثبات التزييف الإسرائيلي للتاريخ في الماضي والحاضر.
إن الظروف المحيطة بإنتاج المعلومات حول النكبة ما تزال تمثل تحديا للمقاربات السابقة التي تتسم بالصمت والخروج من السياق. في كتاب «التطهير العرقي وجغرافيا إنشاء المستوطنات الاستعمارية» للمؤلفين نيف جوردان وموريل رام (14)، يمتد نطاق الخطاب المتعلق بنكبة 1948 من خلال ربطه بالغزو والاستعمار الإسرائيلي للضفة الغربية الفلسطينية عام 1967. وعلاوة على ذلك، وُصفت الجرائم التي اقترفها الجنود الصهاينة من أجل تأسيس إسرائيل بالتطهير العرقي غير المكتمل الذي أدى إلى شكل وسيط من الاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية.
لقد خاضت الدراسة حول النكبة أيضا في علم رسم الخرائط. وبالنظر إلى هدف الصهيونية لاستعمار الأرض الفلسطينية (15)، اتضحت أهمية الخرائط وقدرتها على ربط التاريخ الشفهي بالفهرسة الجغرافية على سبيل المثال. ومن خلال منصة palopenmaps.org، أصبحت 155 خريطة شديدة التفصيل أُنشئت في أربعينيات القرن الماضي وقتما كانت فلسطين ما تزال ترزح تحت الانتداب البريطاني متاحة للجميع عبر الإنترنت. وتقوم هذه الخرائط «بتحديد وتسمية كل من هذه المجتمعات منزوعة السكان والمدمرة، مع تسمية حرفية لعشرات الآلاف من المعالم كالجبال والوديان والأنهار والبساتين وصهاريج المياه والأضرحة، بالإضافة إلى ترسيم وتسمية كل جزء ريفي من الأرض في أنحاء كثيرة بالبلاد» (16). ووفقا لمقال أحمد باركلي بعنوان «رسم خرائط فلسطين: دور الإزالة وعدم الإزالة في زيادة حدة الضبابية»، ساعدت هذه الخرائط بشكل عكسي في إثبات حدوث النكبة عام 1948 حيث تمثل مصدرا واضحا على أن فلسطين كانت دولة ومجتمعا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا قبل هيمنة القوى الصهيونية على الأراضي الفلسطينية. وذكر المقال أن رسم خرائط للأرض بهذه التفاصيل جاء في واقع الأمر في سياق سعي البريطانيين لتسهيل الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وإضفاء صبغة رسمية على ادعاءات الملكية في كل متر مربع من الأرض.
وبالتالي، فإن الخرائط الموجودة على موقع (palopenmaps.org) تمثل خطوة مهمة للأمام، إذ أنها تبقى «صاحبة قوة جمالية وعاطفية تاريخية» (17) على نحو يتجاوز الخرائط الرقمية التي حاولت إعادة تصور فلسطين ما قبل النكبة. وعلاوة على ذلك، فإن الخرائط المذكورة جرى إتاحتها من خلال منظمة تتمنى المضي قدما في «سرد واقعي قائم على الحقوق» (18) يتعلق بالتاريخ الفلسطيني والإسرائيلي. وهكذا، نرى أن خطاب النكبة قد تحرك نحو مستوى الحقيقة التاريخية التي لا يمكن إنكارها وأصبح أقل تسييس وأيديولوجية. إن تاريخ النكبة يمر بعملية إعادة تشكيل بعد أن توافرت المعلومات والتصميمات بفضل التكنولوجيا المعاصرة التي تتناسب مع القرن الواحد والعشرين.
لقد تحركت عملية تأريخ النكبة بشكل ثابت في العهد المعاصر ويرتبط ذلك بالعديد من التأثيرات، حيث أضيفت أصوات جديدة ومختلفة إلى قصة النكبة. كما أدت السبل التي يتم بها تنفيذ ذلك إلى جعل هذا الموضوع والذات الفلسطينية أكثر ذيوعا وإنسانية. وباتت المقالات والكتب والسير الذاتية ومواقع إنترنت كاملة وتطبيقات محمول ومسرحيات وأشعار وأفلام وثائقية وفيديوهات وندوات بمثابة ساحات عرض لسرد إعادة سرد التاريخ الفلسطيني أثناء النكبة. مثل هذا التطور يمنع النظر إلى النكبة باعتبارها نوع من «الفضول الأثري» (19). وأصبح الكثير من التركيز ينصب على الأدلة الشخصية والشفهية على لسان أفراد بدلا من الأرشيف والوثائق الرسمية. ويساعد هذا التطور على مناهضة الخطاب القومي التاريخي الفلسطيني الذكوري المرتبط بالنخبة السياسية وكذلك الخطاب الرسمي الصهيوني. وهكذا لم يعد من الممكن إبقاء الصورة الأكثر اكتمالا بشأن النكبة وروايات أخرى مثل الاقتتال الفلسطيني الداخلي والتعاون الفلسطيني مع الصهاينة (20) في الظلام مجددا.
موقع electronicintifada.net الذي يصف نفسه بالمستقل (21) ينشر العديد من الأشياء كالشهادات الحصرية. وفي مايو 2020، بث الموقع شهادة مصورة للفلسطينية المعمرة حربة أبو ذكري، 105 عاما، التي تعيش حاليا في مخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة. وأكدت أبو ذكري أنها كانت تعيش بحرية على أرض فلسطينية عام 1948 قبل أن يقوم الجنود الصهاينة بقتل والدها وشقيقها وشقيقتها وابنة شقيقتها. وتابعت: «لكن كنا في أرضنا وغادرنا للهروب من نيران المدافع». (22)
من المهم ملاحظة أن الكثير من التاريخ الشفهي لفلسطين لم يتم تنظيره (23)، حيث يتم سؤال الفلسطينيين أو يتطوعون للإدلاء بشهادتهم أو يتم جمع مصادر بشأن النكبة لكنهم ذلك يأتي بعيدا عن أي مفهوم تاريخي ولا يقع في إطار الكفاح الرسمي لتحرير الفلسطينيين. والآن، يتم تناقل قضايا تاريخية بوتيرة غير مسبوقة صادرة من الأسفل على لسان مجموعات مهمشةتعرضت للقمع، من ضحايا ونساء وأطفال.
فاطمة جونسون
صحافية مواطنة مقيمة في المملكة المتحدة ومتخصصة في القضايا الفلسطينية
- مركز سوث24 للأخبار والدارسات
الصورة: تم التقاطها هذا العام بالقرب من الناقورة في لبنان بالقرب من الحدود مع إسرائيل / فلسطين (فاطمة جونسون)
الآراء الواردة في هذه المقالة، تعكس رأي المؤلف، ولا تمثّل بالضرورة، السياسة التحريرية لمركز سوث24".
المراجع:
(1) Masalha, Nur, The Palestine Nakba: Decolonising History, Narrating the Subaltern, Reclaiming Memory, London: Zed Books Ltd, 2012, p10
(2) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, p.10
(3) Green, Penny and Smith, Amelia, Evicting Palestine: State Crime Journal , Vol. 5, No. 1, Palestine, Palestinians and Israel's State Criminality: Pluto Journals, Spring 2016, p. 82
(4) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, pp.11-12
(5) Pappe, Ilan, The Ethnic Cleansing of Palestine, Oxford: Oneworld Publications Limited, 2006, Preface xvi
(6) Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, 2006, Preface xvi
(7) Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, 2006, p.9.
(8) Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, 2006, Preface xiv
(9) Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, 2006, Preface xiv
(10) Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, 2006, Preface xv
(11) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, p.1
(12) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, p.9
(13) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, p.120
(14) Gordan, Neve and Ram, Moriel, Ethnic cleansing and the formation of settler colonial geographies, Political Geography, Vol 53, July 2016, Abstract
(15) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, p.5
(16) Barclay, Ahmed, Sharpening the Haze, London: Ubiquity Press Ltd, 2020, p178
(17) Barclay, Sharpening the Haze, 2020, p179
(18) visualizing palestine — Visualizing Palestine
(19) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, p.199
(20) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, pp.215-216
(21) electronicintifada
(22) electronicintifada
(23) Masalha, The Palestine Nakba, 2012, pp.216
قبل 12 شهر
قبل 1 سنة