مواطنون من أبين، 17 يناير 2023 (مركز سوث24)
05-03-2023 الساعة 6 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | رعد الريمي
مُسدلًا قطعة من "قماش" تواري يده المبتورة على يد تنظيم القاعدة قبل أكثر من عقد من الزمان، حدَّق المواطن ناصر محمد* من أبناء مديرية جعار بمحافظة أبين بموفد مركز "سوث24" وأحد الصحفيين المحليين القادمين لزيارته.
كانت روح الرجل مبتورة أيضاً وشاهدة على وحشية التنظيم الذي دفعت أبين الثمن الأكبر لوجوده وانتشاره. لقد استغرق محمد وقتًا طويلًا للحديث، وشرح قصته حيث تعرَّض لعقوبة بتر يده اليمنى كحد لجريمة "سرقة" مفترضة بعد مُحاكمة من قبل القاعدة.
"بتروا يدي بآلة حادة ثم أسعفوني إلى مستشفى الرازي الذي كانوا يسيطرون عليه بمديرية جعار"، قال محمد لـ "سوث24". وأضاف: "كان هناك طبيب سوري من عناصر التنظيم في انتظاري. قام بوقف النزيف الحاد الذي كنت أعاني منه."
يعتقد السكان المحليون في القرية التي ينتمي لها محمد أنَّه تعرض لتلك العقوبة القاسية ليس لجريمة السرقة التي اتهم بها، بل لأجل تأكيد سطوة القاعدة بين صفوف العامة وخوفًا من التمرد على التنظيم المتطرف.
وقال أحد المواطنين لـ "سوث24": "حتَّى لو كان سارقًا فعلًا لما أستحق تلك العقوبة لإنَّنا كنا نعيش في ظروف قهرية بالغة الصعبة ونكابد مشقة كبيرة للحصول على ما يكفي الواحد منا وأسرته من طعام ليوم واحد."
وفقاً لمحمد، فإنَّ وجوده حالياً في أبين يأتي في إطار زيارة سريعة خاطفة قبل العودة للعاصمة عدن التي انتقل إليها هربا من "العار" حدَّ وصفه. وفي عدن، يداري الرجل ما حدث له عبر رواية مفادها تعرضه لإصابة في ورشة للألمنيوم والحديد. حاولنا التقاط صورة له، إلا أنَّه اعتذر عن ذلك.
مستشفى الرازي بمديرية جعار بمحافظة أبين، 18 يناير 2023 (مركز سوث24)
قصة محمد هي واحدة من بين آلاف القصص التي حدثت في محافظة أبين، إبان اجتياح التنظيم لزنجبار، عاصمة المحافظة، ومناطق أخرى في مايو 2011. لاحقاً وبعد عام واحد، طُرد التنظيم من مدينة زنجبار بعملية "السيوف الذهبية" التي نفذَّتها قوات موالية للرئيس السابق عبد ربه منصور هادي.
واحتفظ تنظيم القاعدة بوجوده القوي في مناطق أبين الوسطى التي شكلَّت معقلا رئيسيا للتنظيم في البلاد. وطوال عقد، بقيت هذه المناطق حصينة أمام أي عمليات ضد القاعدة، ومنطلقا لعملياته وهجماته في أبين ولحج، وعدن، والبيضاء.
وفي أغسطس 2022، بدأت القوات الجنوبية عملية "سهام الشرق" التي أطاحت بالقاعدة في المناطق الوسطى وأسقطت أكبر معسكرات التنظيم في البلاد. واستطاعت القوات الجنوبية تأمين مديريات عِدَّة، وسط خسائر كبيرة في أرواح الجنود.
رسم علم دولة جنوب اليمن (سابقا) بعد السيطرة على معقل القاعدة في وادي عمران (وسائل إعلام محلية)
قبل العملية، كانت هناك مصالحة وترتيبات أمنية أدَّت لإنهاء خصومة بين القوات الجنوبية وقوات موالية للحكومة في أبين. وفي مطلع يناير من هذا العام، تم إطلاق المرحلة الثانية من العملية لوقف جماح التفجيرات والعبوات التي لجأ لها التنظيم بعد إنهاء وجوده العسكري بشكل شبه كامل.
بالنسبة للسكان المحليين وضباط متقاعدين ونشطاء التقاهم مركز "سوث24"، مثَّلت عملية "سهام الشرق" بداية جديدة في أبين عامة والمناطق الوسطى خاصة، وبارقة أمل لتطبيع الحياة والأوضاع في المحافظة التي شهدت حروب عدة خلال السنوات الماضية.
استباب الأمن
الخبير الاجتماعي د. صالح باعزب قال إنَّ الحياة عادت إلى أبين والمناطق الوسطى بعد عملية "سهام الشرق" التي قال إنَّها كانت رديفة لعملية "السيوف الذهبية" لتخليص أبين من القاعدة.
وقال لـ "سوث24": "الجميع يمارس حياته اليوم بشكل جيد بعد التخلص من ذلك الرعب. الطلاب يذهبون إلى المدارس دون خوف. الواقع اليوم أفضل بكثير بيد أنَّه ليس مثاليًا لأنَّ هناك الكثير مما يجب عمله للوصول إلى الوضع المطلوب."
وأضاف: "أبين بعد القاعدة تسير إلى الأمام على كل المستويات لكنَّ الجوانب الخدمية والأمنية بحاجة إلى تعزيز أكبر. يجب تأمين المسافرين في الطرقات وتأمين المنظمات الدولية التي تقدم خدمات إنسانية للسكان."
يؤكَّد الضابط المتقاعد في وزارة الداخلية، محمد أحمد*، تحسَّن الوضع الأمني في أبين بعد عملية سهام الشرق. وقال لـ "سوث24": "الأداء الأمني لا بأس فيه ويتحسَّن باستمرار لكن يجب إدراك أن تحسين أوضاع السكان يعتبر جزءا أساسيا من مهمة ترسيخ الأمن."
ويعتقد الضابط أنَّ حالة الفقر المتفشية في أرياف أبين من أهم أسباب ازدهار الأفكار المتطرفة التي تؤدَّي للإخلال بالأمن والسلم الاجتماعي. وأضاف: "يجب أن نرى المرافق الحكومية بكامل طاقتها تعمل في مناطق أبين الوسطى التي أمنَّتها العملية الأخيرة."
عمال نظافة بمدينة جعار بمحافظة أبين، 19 يناير 2023 (مركز سوث24)
ويعتقد الناشط الإعلامي والحقوقي جمال حسين أنَّ ما عاشه سكان أبين من حروب القاعدة والحوثيين وما تلاها حتَّى اليوم علمهم درسًا حول أهمية الأمن والاستقرار في ضمان الحياة الكريمة للمواطنين.
وأضاف لـ "سوث24": "نحن جزء من المجتمع في أبين ونلاحظ أنَّ هناك وعي مجتمعي غير عادي اليوم. لم يأت هذا الوعي الآن وليس وليد اللحظة، بل صاغته نيران الحروب والمعاناة التي مرَّ بها أبين وسكانها حتَّى اليوم."
وبحسب حسين، خسرت أبين 1592 شخصا بين 2015 – 2019 فقط "دون احتساب ضحايا حرب القاعدة في زنجبار قبل ذلك، وضحايا ما بعد 2019 حتَّى عملية سهام الشرق." وأضاف: "العملية كان لها الأثر الإيجابي الكبير على أبين وحقَّقت انتصارات مؤزرة."
ويزعم الناشط أنَّ المكاسب الأمنية التي حقَّقتها عملية سهام الشرق تتعرَّض لمؤامرات. وقال: "كانت هناك محاولات لإثارة القبائل وسط أبين، وبالأخص قبائل مديرية مودية ضدَّ قوات سهام الشرق. لم تنجح تلك المحاولات الخبيثة التي تنبه لها أبناء مودية مبكرًا."
وأضاف: "تمت معالجة بعض الأحداث التي وقعت بشكل خاطئ بين أفراد من القبائل وقوات سهام الشرق وتعويض الضحايا. منعت هذه الخطوة الزج بأبناء مودية في اقتتال مع إخوانهم لصالح قوى معادية."
ولفت حسين إلى المسيرات الشعبية في مودية للتعبير عن الدعم والتضامن الشعبي مع عملية "سهام الشرق"، مضيفاً: "هذه المسيرات مثَّلت صفعة قوية للإرهاب ومن يدعمه. لقد قالت قبائل أبين كلمتها لأنَّها أدركت أهمية استباب الأمن ونبذ التطرف."
وحذَّر خبير عسكري متقاعد، فضَّل عدم ذكر اسمه، من عدم استيعاب أبناء المناطق الوسطى في أبين ضمن التشكيلات العسكرية والأمنية المشاركة في عملية سهام الشرق. وقال لـ "سوث24": "يجب استيعاب هؤلاء الشباب وتأهيلهم ودمجهم كي لا نضطر لإطلاق سهام شرق أخرى في المستقبل."
حرية التنقل
ينتشر الأمن بشكل مكثف على طول الخط الدولي في محافظة أبين التي اعتبرت لأعوام كثيرة ضمن أخطر المناطق على المسافرين والمارة نظرا لانتشار قطاع الطرق وضعف الأداء الأمني في المناطق الوسطى ومعظم المحافظة.
يُرجع الخبراء والسكان هذا التحسن الأمني الكبير إلى عملية "سهام الشرق" التي عزَّزت من تواجد القوات الأمنية والعسكرية في مختلف مناطق أبين. ووفقاً للناشط جمال حسين، "أصبح المواطن اليوم يتنقل بين مديريات محافظة أبين وهو مطمئن البال."
وأضاف: "حركة النقل الدولي مستمرة في رحلاتها الليلة من عدن - حضرموت والعكس، وكذلك من السعودية – حضرموت – أبين – عدن. تتحرك السيارات والمركبات الخاصة بكل أمان وتمر بنقاط أمنية تقوم بتفتيش الداخل والخارج منعا لأي اختراقات."
القوات الجنوبية المشاركة في عملية "سهام الشرق" في محافظة أبين، أكتوبر 2022 (مركز سوث24)
وخلال الأعوام الماضية، ضبطت النقاط التابعة لقوات الحزام الأمني في أبين، العشرات من مهربي المخدرات والمطلوبين أمنياً. كما استطاعت إدارة أمن أبين القبض على خلايا اتهمت بالارتباط بالحوثيين وسط أبين.
ويعتقد الضابط المتقاعد محمد أحمد أنَّ حرية التنقل في مستواها الحالي في أبين ما هي إلا امتداد لتطبيع الحياة في العاصمة عدن القريبة من المحافظة. وأضاف: "النتائج الأمنية الملموسة في عدن انعكست على ما جاورها من محافظات."
عودة السلطات المحلية
يتركّز حضور السلطة المحلية في محافظة أبين بمديريات زنجبار وجعار وخنفر، ويتضاءل في المناطق الوسطى للمحافظة التي كان يتواجد فيها تنظيم القاعدة.
الأمين العام للمجلس المحلي، مهدي الحامد، أعرب لـ "سوث24" عن تطلع السلطة المحلية لاستئناف نشاطها بشكل كامل في مناطق أبين الوسطى بعد نجاح عملية سهام الشرق. وقال: "نتطلع لتكرار تجربة تطبيع الحياة العامة في زنجبار بعد طرد القاعدة منها في المديريات الوسطى."
وأضاف: "الجميع يبذل جهودا كبيرة لتحقيق ذلك والمحافظ اللواء أبو بكر حسين حريص على هذا كما فعل المحافظون قبله لكنَّ كان له الدور الأكبر في ذلك كما يعلم الجميع." ولم يتمكن "سوث24" من اللقاء بمحافظ أبين بسبب تواجده خارج البلاد أثناء النزول الميداني.
ويشدَّد المسؤول المحلي على أنَّ أبين "نالت ما يكفيها من الخراب والدمار ويجب اليوم تعويضها وإنهاء مظاهر عسكرة الحياة العامة فيها"، مضيفا: "وضع أبين كساحة حرب يجب أن ينتهي. على الجميع إنصاف أبين التي دفعت الثمن غالياً ودعم سلطاتها لخدمة المواطنين."
وكان "سوث24" قد رصد في تقرير سابق الأوضاع الخدمية والمعيشية في أبين، والتقى المسؤولين الرئيسيين في المحافظة الذين أجمعوا على ضعف الموازنات والإمكانات والحاجة لاهتمام مركزي حكومي أكبر بالمحافظة.
اقرأ المزيد: بين ندوب الحرب وغياب الدولة: الواقع الخدمي في أبين