27-08-2021 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| قسم التحليلات
أدى انحدار الهيمنة الأمريكية أحادية القطب إلى ظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب. وبالرغم من أن الولايات المتحدة تبقى بلا جدال القوة العسكرية العظمى بسبب إمكانياتها العالمية، لكن نفوذها الاقتصادي يواجه تحدي الصعود الصيني، كما تراجع تأثيرها السياسي جراء تنامي الأدوار الدولية لكل من الصين وروسيا. وعلاوة على ذلك، أصبحت أطراف أخرى أمثال الاتحاد الأوروبي(لا سيما ألمانيا وفرنسا)، والهند والمملكة السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة لاعبين أكثر بروزًا أيضا، الأمر الذي يجعل التحول التدريجي من اللاقطبية إلى التعددية القطبية أكثر تعقيدا. وتخلق كل هذه المستجدات تحديات وفرص بالنسبة لدول الخليج.
وفي الشهر الجاري، أثار التخلي الأمريكي عن حلفائها الأفغان في مواجهة الهيمنة السريعة لطالبان على مقاليد الحكم في هذا البلد تساؤلات جادة في المنطقة بشأن جدوى الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف يعتد به. وكانت المخاوف قد بدأت تحوم بالفعل في أعقاب استئناف إدارة بايدن المفاوضات النووية مع إيران بالتوازي مع الضغط على السعودية على خلفية حرب اليمن. وتظل الرياض ملتزمة بهذه الحملة لأسباب تتعلق بتعطيل الأمور و"حفظ ماء الوجه" رغم أن أبو ظبي أدركت منذ سنوات قليلة أن الحل العسكري ليس مرجحًا وبالتالي سحبت معظم دعمها القتالي لهذه المهمة. ووضعت كافة هذه الأمور، الرياض، القائدة الفعلية لمجلس التعاون الخليجي، في موقف حرج تعاني من أجل الخلاص منه.
بدأت المملكة السعودية في التواصل مع روسيا والصين قبل سنوات قليلة، حتى قبل التحول المفاجئ وحالة عدم التيقن التي باتت عليها أمور كان مسلمًا بها في السابق، وتحديدا الدعم العسكري الأمريكي والمساعدات الإماراتية في اليمن. وأدى ذلك مباشرة إلى إبرام المملكة وروسيا مؤخرا اتفاقا عسكريا بعد سنوات من زيارة الملك سلمان إلى موسكو في 2017، والتي كانت الأولى من نوعها لأي حاكم سعودي. كما استطاع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ترسيخ علاقات وطيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتجلى ذلك في "مصافحة الكف بالكف" الشهيرة بينهما خلال فعاليات قمة العشرين 2018. وتعتبر الرياض روسيا شريكا عسكريا أكثر موثوقية من الولايات المتحدة خاصة وأن الكرملين لا يربط خيوطا سياسية بصفقاته.
وبالرغم من ذلك، ليس من المحتمل أن تقوم المملكة بتنويع كبير بديلا عن اعتمادها على المعدات العسكرية الأمريكية، ولذلك فإن الروابط السعودية الجديدة مع روسيا في هذا الصدد ربما تقترن أكثر بالتأثير السياسي مقارنة بأي شيء آخر. لقد أصبح الكرملين صاحب النفوذ الأكبر في الحرب الأهلية السورية، والتي تؤثر بشكل مباشر على مصالح كافة الأطراف الإقليمية بما في ذلك المملكة السعودية. وكذلك تتعاون الرياض وموسكو بشكل وطيد جدا في سوق الطاقة العالمي من خلال اتفاقية "أوبك بلس"، ولهذا ثمة العديد من الأسباب تدفع كلاهما إلى مواصلة توسيع نطاق علاقاتهما بشكل شامل، بما في ذلك البعد العسكري. وتبعث الرياض برسالة إلى واشنطن مفادها أنها لا يجب أن تعتبر الأمور مسلمًا بها، إذ أن المملكة تملك خيارات أخرى، حتى وإن كانت لا تعتزم الاستبدال المطلق للولايات المتحدة.
ولإضافة المصداقية إلى تلك الجهود الناشئة التي تستهدف التوازن، بدأت السعودية أيضا في إقامة علاقات اقتصادية وطيدة جدا مع الصين تتضمن صعيد الطاقة. وزار العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز الجمهورية الشعبية في 2017 قبل أن يسافر إلى روسيا في وقت لاحق من ذات العام. وخلال زيارته للدولة الشرق آسيوية، وقع الجانبان صفقات بعشرات المليارات من الدولارات. مبادرة الحزام والطريق الصينية تستكمل بشكل نموذجي رؤية المملكة 2030 فيما يتعلق بتنويع الاقتصاد السعودي بعيدا عن الاعتماد غير الملائم على صادرات الموارد. ويوضح هذا المزيج من التواصل السعودي مع روسيا والصين في السنوات الأخيرة جدية المملكة في حماية مصالحها الإستراتيجية في مواجهة زيادة وتيرة عدم التنبؤ بالقرارات الأمريكية في وقت تنشأ فيه التعددية القطبية.
ليست السعودية هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تفعل ذلك إذ أن الإمارات كان لها السبق في الشروع في موازنة أولوياتها الإستراتيجية. وعلاوة على ذلك، أنشأت أبو ظبي علاقات أكبر على المستوى العسكري والاقتصادي مع روسيا والصين على الترتيب. كما تقوم كذلك بعملية حالية لإعادة التقارب مع تركيا من شأنها أن تعيد تشكيل الجيوسياسية الإقليمية إذا نجم عنها ما يسمى "انفراجا دوليًا جديدا" بين الثنائي، تتوقف على إثره أنقرة في دعم الإخوان المسلمين بجانب حليفتها قطر مقابل ضخ استثمارات تبدو تركيا في أمس الحاجة إليها في ظل معاناتها الاقتصادية. وقد تتفتق مثل هذه النتيجة عن انفراج للوضع في ليبيا التي يرتبط بها كلا البلدين في حرب شرسة بالوكالة، مما يسمح لكافة الأطراف بالتركيز على إعادة البناء الاقتصادي في أعقاب جائحة كورونا.
كما لاحظ بعض المراقبين، عن حق، أن السعودية والإمارات على ما يبدو في غمار "منافسة ودية" بين بعضهما البعض على القيادة الفعلية لمجلس التعاون الخليجي. وكان يُنظر إلى الأولى باعتبارها "الشقيقة الكبرى" للثانية، بيد أن الديناميكيات الشخصية انقلبت منذ أن بدأ ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في لعب دور المرشد لمحمد بن سلمان. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القرار الإماراتي المفاجئ بالانسحاب بشكل كبير من الحرب اليمنية ترك السعودية بدعم أقل في حربها ضد الحوثيين، وربما لم يرق هذا التصرف كثيرا للرياض. وفي خضم كل ذلك، كانت الإمارات بالفعل متقدمة بفارق شاسع عن السعودية فيما يتعلق بتنويع اقتصادها وهو ما تم إثباته من خلال مينائها العالمي وصفقاتها اللوجستية.
وتستحق قطر أن يُذكر اسمها عند التطرق إلى مستقبل دول الخليج متعدد الأقطاب. وبدا انقشاع جليد العلاقات الرسمية بين الدوحة ومجلس التعاون الخليجي في وقت سابق هذا العام تطورا إيجابيا رغم استمرار التوتر في الروابط بين الجانبين. لن تنسى السعودية والإمارات كيف دعمت قطر الإخوان المسلمين من خلال قناة الجزيرة، وتحالفها اللاحق مع تركيا وإيران للنجاة من الحصار التعجيزي المفروض ضدها. وربما تجد الدوحة نفسها قريبا في وضع أكثر حرجًا إذا أبرمت حليفتها تركيا اتفاقا مع الإمارات، بالرغم من أنه ليس من المرجّح أن يتضمن ذلك سحب أنقرة قواتها من قطر التي يتعين عليها حينها شحذ إمكانياتها الدبلوماسية على نحو حاذق من أجل التكيف الأفضل مع هذا الوضع.
وفي سياق إعادة التقارب، ترددت في وقت سابق أحاديث حول بحث السعودية وإيران إمكانية تحسين علاقاتهما. مثل هذا التطور من شأنه أن يستكمل المحادثات الإماراتية التركية القائمة، وقد يمثل حال نجاحه تغييرًا في قواعد اللعبة على مستوى الإستراتيجية الإقليمية، لكن من المبكر جدا التكهن بأي شيء إذ أن الغموض ما يزال يكتنف هذا الأمر وفقا لمعظم المراقبين. ليس من الواضح إذا كانت المفاوضات القائمة بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة ربما تتصل بذلك، أم أنها تتم بشكل منفصل. لكن ما هو معروف حتى الآن أن هناك تقارير حول ثلاث عمليات إعادة تقارب: الولايات المتحدة - إيران، الإمارات - تركيا، السعودية -إيران. وترتبط جميع هذه الأطراف، باستثناء الولايات المتحدة، بعلاقات طيبة، إن لم تكن ممتازة مع روسيا والصين.
بربط هذه الأمور معا، يمكن تمييز اتجاهيين واضحين أولهما، أن السعودية والإمارات، القائدين المزدوجين لمجلس التعاون الخليجي (نظرا لوضعهما الإستراتيجي شبه المتساوي من الناحية العملية في الوقت الحالي) تحاولان تنويع روابطهما الاقتصادية والسياسية من خلال التوازن بين شريكهما الغربي التقليدي (الولايات المتحدة) والشريكين الشرقيين الجديدين (روسيا والصين). وتبدو الإمارات أكثر نجاحا في هذا الصدد بينما تبدو السعودية متخلفة إلى حد ما تحاول تعويض الوقت الضائع. ولا تزال الرياض غارقة في حرب اليمن دون أي نهاية تلوح في الأفق حتى الآن، بالرغم من المحادثات المستمرة لحلها بعكس الإمارات مما منح الأخيرة تفوقا أكبر من خلال تفرغها للتركيز على الأمور الأخرى بدلا من ذلك.
أما الاتجاه الثاني، فيتمثل في وجود ثلاثة أزواج من إعادة التقارب المحتملة والتي سبق وصفها في هذا التحليل. حقيقة أن هذه الأطراف العديدة تخوض مناقشات جدية في الوقت الحالي تكشف اعتزام كل منها تخفيف بعض الضغوط الملقاة على كاهلها جراء هذه المنافسات الإقليمية المكلفة. ففي نهاية المطاف، أصبحت جميع هذه الأطراف منهكة وتسعى إلى بعض الراحة، لا سيما في ظل مصالحها المشتركة جراء إعادة بناء اقتصادياتها التي تلقت ضربة جذرية بسبب عدم تنسيق جهود المجتمع الدولي لاحتواء جائحة كورونا على مدار آخر 18 شهرا. ومع ذلك، فإن الديناميكيات الدبلوماسية تشير إلى أن بعضا من هذه المحادثات قد أثارت مشاعر عدم الثقة.
ويرتبط ذلك في أغلب الأمر بالخوف السعودي من عواقب أي مفاوضات أمريكية - إيرانية ناجحة. وتقبع المملكة بالفعل تحت ضغط من الولايات المتحدة بسبب حربها المستمرة في اليمن، مما يعجل تنوعها الإستراتيجي بعيدا عن الغرب ويجعلها أكثر قربا من الشرق، بالرغم من أن ذلك لم يكتمل بعد، كما أنه ليس من المرجح أن تستبدل الرياض واشنطن بشكل كلي فيما يتعلق بالأدوار العسكرية والسياسية. ومن خلال ذلك، يمكن ملاحظة أنه حتى هؤلاء الذين تربطهم تحالفات تمتد لعقود طويلة قد تعتريهم فجأة مشاعر عدم الثقة تجاه بعضهم البعض إذا لم يكن هناك تواصل ملائم بينهم بشأن قضايا شديدة الحساسية مثل إحياء المفاوضات الإيرانية النووية. ومن المتوقع أن يمتد ذلك إلى أزواج أخرى من الشركاء في المستقبل، ليس فقط في الخليج.
وبالنظر إلى الأمام، يجب على دول الخليج العمل معا بشكل أكثر قربًا، لا سيما المملكة السعودية والإمارات اللتين تحتاجان أيضا إلى إعادة دمج قطر بشكل براجماتي داخل بوتقة مجلس التعاون الخليجي بعد إقصائها من المجموعة على مدار السنوات العديدة الماضية. وبالتوازي مع ذلك، يتعين عليهما تطبيع العلاقات مع إيران وتركيا مع الإدارة الحذرة لتوازناتهما بين الغرب والشرق. وينبغي عليهما مواصلة التنويع الاقتصادي، والعمل على جذب استثمارات إضافية بخلاف القوى الثلاثة العظمى (الصين، روسيا، الولايات المتحدة) من خلال زيادة وتيرة الارتباط بالاتحاد الأوروبي والهند واليابان. ثمة تحديات مستقبلية هائلة، ولكن القيادة الصحيحة تستطيع التغلب عليها واغتنام الفرص.
محلل سياسي أميركي مقيم في موسكو
- الصورة: نائب وزير الدفاع الروسي ونظيره السعودي، الأمير خالد بن سلمان خلال توقيع اتفاقية تعاون عسكري في موسكو، 24 أغسطس 2021 (رسمي - تويتر)