طائرات مقاتلة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي تستعد للتوجه لشن ضربات في إيران، 26 أكتوبر 2024. (الجيش الإسرائيلي)
27-10-2024 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
"تكشف المعطيات السابقة عن أنّ الضربة الإسرائيلية الأخيرة كانت محصورة بين احتمالين رئيسيين، الأول، أنها كانت ضربة منسقة، والثاني أنها كانت محدودة نتيجة للسعي لترميم الصورة الإسرائيلية.."
سوث24 | محمد فوزي
حملت الساعات الأولى من يوم 26 أكتوبر الجاري إجابة على السؤال الأكثر إلحاحاً منذ مطلع أكتوبر 2024، والذي ارتبط بطبيعة الرد من قبل تل أبيب على الاستهداف الإيراني الأخير للعمق الإسرائيلي، حيث أعلنت إسرائيل عن مهاجمة أهداف إيرانية في مقاطعات طهران وخوزستان وإيلام وكرج. وفي هذا السياق وتعريجاً على هذا الهجوم، يحاول هذا التحليل الوقوف على أبعاد وطبيعة هذا الهجوم الإسرائيلي، ودلالات تراجع بنك الأهداف الإسرائيلي، ومدى تأثيره على مسار التصعيد بين الجانبين على المدى القريب.
هجوم إسرائيلي محدود التأثير
وفقاً للحيثيات المتاحة عن الهجوم من قبل الجانبين الإسرائيلي والإيراني، فضلاً عن بعض وسائل الإعلام والتقديرات الأمريكية، يُمكن القول، إنّ الهجوم الإسرائيلي على إيران ركز على الاستهداف المحدود والمنضبط لبعض البنى التحتية العسكرية الإيرانية، دونما استهداف أي مواقع نفطية أو نووية أو مدنية، ويُمكن بيان طبيعة هذا الهجوم الإسرائيلي في ضوء الملامح التالية:
1- بدأت إسرائيل في الساعات الأولى من يوم 26 أكتوبر 2024، في مهاجمة مجموعة من البنى التحتية العسكرية الإيرانية، في مقاطعات طهران وخوزستان وإيلام وكرج، وتم تقسيم الهجوم إلى ثلاث موجات متتابعة، مع استهداف نحو 20 موقعاً، بمشاركة نحو 100 مقاتلة مسيرة إسرائيلية، بالإضافة لطائرات إف 35، فيما ذكرت إيران أن طبيعة الأهداف كانت أقل من ذلك [1].
2- أفاد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، بأنّ الهجوم استهدف منظومة الصواريخ أرض-جو وأرض-أرض والقدرات الجوية لإيران، ونقلت تقارير عن مصادر إسرائيلية أن الهجوم شمل مواقع تخزين صواريخ ومسيّرات وإنتاج أسلحة ومنظومات دفاع جوي [2].
3- وفق العديد من التقارير والتقديرات، فإن التمهيد لهذا الهجوم كان قد بدأ بقصف بطاريات دفاع جوي ورادارات في سوريا والعراق [3]، ما عكس التزاماً إسرائيلياً بمحدودية الهجوم، وكذا تنويع جغرافيته لتشمل إلى جانب إيران مناطق النفوذ التقليدية.
وبتقييم الحيثيات والمعطيات المتاحة عن هذا الهجوم الإسرائيلي، يُمكن القول إنّ هذا الهجوم حرص على مراعاة مجموعة من المحددات والاعتبارات، أولا، أنه استهدف بشكل رئيسي إيصال رسائل بالقدرة على استهداف العمق الإيراني، بالإضافة لمناطق النفوذ لطهران. وثانيا، أنه ركز على مبدأ "المعاملة بالمثل"، بمعنى أنّه ركز على البنى التحتية الإيرانية بعيداً عن الأهداف المدنية والنووية والنفطية، على غرار ما فعلته إيران في هجوم الأول من أكتوبر 2024. والثالث، أنّ الهجوم راعى التخوفات التي أبدتها واشنطن بخصوص استهداف المنشآت النفطية والنووية. ورابعا، أنّ الهجوم بعث برسائل مفادها عدم رغبة إسرائيل في الوصول إلى نقطة "الحرب المفتوحة" مع إيران، خصوصاً مع حالة الاستنزاف التي تعيشها في جبهة جنوب لبنان، وحالة النشاط التي تطغى على أداء الفصائل الفلسطينية في غزة خلال الأسبوعين الأخيرين.
دلالات محدودية نتائج الهجوم الإسرائيلي
أعلنت إيران أنها استطاعت التصدي للهجوم الإسرائيلي [4]، وأن حصيلته كانت مقتل جنديين خلال التصدي للهجوم الإسرائيلي، دون أنباء عن مقتل مدنيين [5]، وبطبيعة الحال كما هو الوضع في مثل هذه الحالات، لم تكشف إيران عن طبيعة الخسائر في البنى العسكرية المستهدفة، لكن وبشكل عام يبدو أنّ هذا الهجوم كان محدوداً من حيث التأثير والنتائج، وهو أمر يُمكن تفسيره في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية:
1- الحسابات الإسرائيلية في الهجوم: اعتبرت العديد من الدوائر الإسرائيلية أنّ الرد على إيران حقق جميع أهدافه وكان دقيقاً ومدروساً باستهداف مواقع عسكرية فحسب. لكن وبعيداً عن التصريحات من قبل الطرفين والتي تأتي في إطار "الحرب النفسية بينهما"، يُمكن القول إنّ إسرائيل استهدفت تقليل نتائج العملية ومحدودية أثرها، وذلك في ضوء مجموعة من الاعتبارات. أولا، أنّ إسرائيل حتى اللحظة مصممة على تبني نمط "الحرب الخاطفة" مع إيران والالتزام بالفعل ورد الفعل، بما يضمن تجنب سيناريو الحرب المفتوحة. وثانيا، التخوّفات الإسرائيلية من تداعيات استهداف المنشآت النفطية أو النووية الإيرانية، على اعتبار أنّ ذلك قد يضر بالولايات المتحدة وبعض دول الخليج، قبل أن يمثل ضرراً بالنسبة لإيران. وثالثا، الضغوط الأمريكية التي تم ممارستها على إسرائيل لتجنب توسيع بنك الأهداف في إيران وتبني عمليات تدميرية.
2- التخوف الإسرائيلي الأمريكي من التداعيات النووية للعملية: تصاعد النقاش في الداخل الإيراني في الأسابيع الأخيرة وفي ذروة التصعيد مع إسرائيل، حول ضرورة إعادة النظر في الفتوى التي أصدرها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في عام 2003، والخاصة بتحريم إنتاج وتخزين الأسلحة النووية، وكان لافتاً في هذا السياق العنوان الذي صدّرته صحيفة "طهران تايمز" التي تصدر باللغة الإنجليزية، في عدد 8 أكتوبر 2024، والذي كان عن "تزايد الدعوة لامتلاك الأسلحة النووية.. العدوان الإسرائيلي غير المقيد يُغذي المطالب الشعبية بالحصول على الأسلحة النووية" [6]، بما عكس تلويحاً إيرانياً بأن طهران قد تتجه في اليوم التالي لأي هجوم إسرائيلي مدمر إلى إجراء تفجير نووي، وإعلان نفسها كدولة نووية وفرض هذا الخيار، وهو أمر يمثل مصدر قلق مشترك بين الجانبين الإسرائيلي والأمريكي.
3- حضور العامل الروسي في الهجوم: في أعقاب الهجوم الإسرائيلي، أشارت العديد من التقارير إلى أنّ موسكو قدمت معلومات استخباراتية لطهران قبل بدء الهجوم الإسرائيلي بساعات [7]، وذكرت التقارير أنّ المعلومات الروسية إلى إيران تضمنت الإفادة بوجود تحركات عسكرية أمريكية وإسرائيلية، وقد جاء ذلك بعد يوم واحد فقط من نشر تقارير تُفيد بتعاون روسيا استخباراتياً مع الحوثيين، من أجل تنفيذ هجمات ضد بعض الأطراف الغربية في البحر الأحمر. وقد كانت النتيجة العملية لهذه التحذيرات الاستخباراتية الروسية؛ هي استعداد إيران عبر منظومات الدفاع الجوي الخاصة بها من أجل التصدي للهجمات الإسرائيلية، والدفع باتجاه محدودية نتائجها. كذلك لا يُمكن في هذا السياق إغفال عامل آخر مهم وهو أن بعض التقارير تتحدث عن إمداد روسيا لإيران ببعض منظومات الدفاع الجوي المتقدمة بما في ذلك منظومة "إس 400" وهي المنظومة القادرة على اكتشاف وتدمير الطائرات المقاتلة الشبح والتي تعد السلاح التدميري الأهم بالنسبة لواشنطن وتل أبيب. ويبدو أنّ هذه الفرضيات شديدة المنطقية في ضوء قدرة إيران على التصدي للهجوم، وكذا حالة التحالف الاستراتيجي بين إيران وروسيا، خصوصاً وأنّ إيران قدمت دعماً متعدد الأبعاد والأنماط لروسيا في حربها على أوكرانيا.
4- المحددات الأمريكية الموضوعة لتل أبيب: باستقراء التصريحات والمواقف الأمريكية إزاء مسألة التصعيد الإيراني الإسرائيلي، يبدو أنّ الولايات المتحدة تبنّت مقاربة تقوم على الموافقة من حيث المبدأ على الضربة الإسرائيلية ضد إيران، لكنها أبدت مجموعة من التحفظات والمحددات تجاه هذه الضربة وطبيعة أهدافها، وذلك على أكثر من مستوى. أولا، أنّ الولايات المتحدة حتى اللحظة تسعى إلى تجنب خيار الحرب المفتوحة بين الجانبين، وما سيتبعه من تكلفة كبيرة نتيجة الانخراط المحتمل لواشنطن في هذه الحرب، وثانيا أنّ الولايات المتحدة تسعى إلى إرجاء العديد من الملفات إلى مرحلة ما بعد الانتخابات الأمريكية التي ستجري خلال الأسابيع المقبلة. وثالثا أنّ واشنطن لا تُريد توسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط بالشكل الذي يؤثر على بعض الترتيبات الإقليمية التي لا تزال تراهن عليها وعلى رأسها ملف التطبيع السعودي الإسرائيلي. رابعا، أنّ توسيع بنك الأهداف الإسرائيلية ليشمل أهدافاً نفطية سوف يتبعه تأثيرات كبيرة على أسعار النفط العالمية، بما يؤثر بشكل مباشر على المواطن الأمريكي، فضلاً عن التداعيات النووية التي سبق الإشارة إليها.
التداعيات المحتملة للهجوم الإسرائيلي الأخير
تكشف المعطيات السابقة عن أنّ الضربة الإسرائيلية الأخيرة كانت محصورة بين احتمالين رئيسيين، الأول، أنها كانت ضربة منسقة، والثاني أنها كانت محدودة نتيجة للسعي لترميم الصورة الإسرائيلية عبر الحد الأدنى من التكلفة، لكن هذه الضربة تؤكد على افتراض مهم مفاده أن الخطوة الإيرانية المقبلة والرد على هذا الهجوم سوف يكون عاملاً محدداً لمسار التصعيد والتفاعلات في المنطقة خلال الأشهر المقبلة. ويُمكن القول إنّ هذه الضربة سوف تحمل بعض التداعيات والسيناريوهات المحتملة، وذلك على النحو التالي:
1- الاستمرار في الحفاظ على قواعد الاشتباك: يُمكن القول إنّ الحالة الوحيدة حتى اللحظة في منطقة الشرق الأوسط التي يتحقق فيها منطق "قواعد الاشتباك" تتمثل في التصعيد الإيراني الإسرائيلي. وتعريجاً على ذلك وفي ضوء محدودية الرد الإسرائيلي ونتائجه، وكذا حرص إيران على عدم توسيع رقعة الصراع والتحول نحو الحرب المفتوحة نظراً للتكلفة الكبيرة لهذا السيناريو بالنسبة لها، قد يدفع باتجاه الاستمرار في مقاربة الفعل ورد الفعل، وربما تلجأ إيران في هذا الصدد إلى تأجيل أو حتى عدم الرد على إسرائيل، لحين حدوث متغيرات جديدة قد تستلزم معها رداً إيرانياً، وهو سيناريو مرجح.
2- التصعيد الإيراني عبر الوكلاء في المنطقة: يُمكن أن تُنحي إيران الرد بشكل مباشر على إسرائيل نتيجة الهجوم الإسرائيلي، وتلجأ إلى النمط المعتاد من الرد، متمثلاً في تحفيز دعم بعض الوكلاء في المنطقة من أجل تنفيذ عمليات تصعيدية ضد إسرائيل، وفي هذا السياق تتجلى جبهة الجنوب اللبناني، والحوثيين في البحر الأحمر، والفصائل العراقية كأحد الخيارات الرئيسية بالنسبة لإيران، على اعتبار حالة التصعيد الكبيرة التي تشهدها هذه الجبهات في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً جبهة الجنوب اللبناني.
3- الوصول إلى ذروة التصعيد بين الجانبين: على الرغم من كون هذا السيناريو غير مرجحاً بشكل كبير إلا أنّه يظل مطروحاً، وهو يتمثل في تحفيز الجناح المتشدد في أروقة الحكم في إيران، لضرورة الرد على هذا الهجوم الإسرائيلي، عبر توجيه ضربات لإسرائيل أكثر من حيث الحدة والمستوى من تلك التي جرت في مطلع أكتوبر 2024. وسوف يستند هذا التوجه إلى محددين أساسيين، الأول هو حالة النشوة التي يعيشها الحرس الثوري نتيجة محدودية الضربات الإسرائيلية، والثاني هو الدفع باتجاه المزيد من الضغط على إسرائيل، لكن هذا السيناريو في المقابل سوف يدفع باتجاه إجراءات تصعيدية إسرائيلية أمريكية سوف تكون شديدة التأثير والتدمير، بما يُدحرج كرة التصعيد بين الجانبين إلى "حافة الهاوية" أو سيناريو الحرب المفتوحة.
وختاماً يمكن القول، إنّ الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران كان وفقاً للمعطيات المتاحة محدوداً من حيث الأثر والنتائج، وهو الأمر الذي يرتبط بجملة من الاعتبارات تتراوح بين الحسابات الإسرائيلية الأمريكية في التصعيد، والتداعيات المحتملة خصوصاً العسكرية والاقتصادية والنووية، لكن هذا الهجوم يجعل الرد الإيراني المحتمل عاملاً محدداً أساسياً لمسار التصعيد في المنطقة على المدى القريب والمتوسط.
قبل 9 أيام