07-02-2022 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | عبد الله الشاذلي
تحوز الأغنية اليمنيّة والجنوبيّة اهتمام كثير من الفنانين والنّاقدين العرب، لما يتفرّد به هذا الفن من لحن وشعر غير مألوفين بالنسبة إلى الباحثين في تكوين هذا المزيج الفني.
ويتميّز الفنّ الجنوبي، الذي يُرضي إلى حد كبير الذائقة الخليجيّة، باللحن الذي يُمكّن الفنان من التنقل بين أكثر من مقام موسيقي في نفس الأغنية؛ فضلاً عن القوة والبلاغة التي تحملها الكلمات، وفقاً للملحن والشاعر الحضرمي، عبد الله باوزير، رئيس مؤسسة حضرموت للتراث الفني.
واجتاح الفنّ الحضرمي الجنوبي الوطن العربي، ويٌعرف الموسيقار محمد جمعة خان كأول فنان يُحدث طفرة نوعية في هذا الفن؛ حيث أدخل عليه الكثير من الألحان والإيقاعات.
لقد مزج الموسيقار الحضرمي من أصول هندية بين الأغنية الهندية والحضرميّة، وأصبحت الأغنية "الهجينة" جزءاً لا يتجزأ من الفن والتراث الحضرمي. واشتهر خان بأغنيته "حنانيكِ" [1] التي مزجها مع لحن أغنية هندية؛ [2] لتكون نقطة ولادة الأغنية الحضرميّة الهجينة.
وفي المقابل، قال الشاعر باوزير إنَّه "يُرجح أنَّ الفنان سلطان بن الشيخ علي هو أول من مزج بين الفن الهندي والحضرمي قبل محمد جمعة خان"، مضيفاً "بن الشيخ علي فنان ظُلِم إعلامياً مثل غيره من الفنانين وتلاشى لعدم وجود تسجيلات صوتيّة أو مرئية له."
وقال فنانون حضارم لـ«سوث24» إنَّ الفن الحضرمي النقي "مثّله الثنائي الذي لا يتكرر، الفنان الكبير أبوبكر سالم، والشاعر والملحن حسين المحضار، اللذان أوصلاه إلى أقطار الخليج والوطن العربي، وفي مقدّمتها لبنان."
الأغنية الحضرميّة والصنعانيّة الحديثة
بالنسبة لعبد الله باوزير "تحظى الأغنية الحضرميّة بمكانة مرموقة بين الأغاني الخليجية والعربية لما تتميّز به من أسلوب في الكتابة واللحن".
وعن انتشارها في الخليج، لفت باوزير إلى أنَّ "مفردات الأغنية الحضرميّة قريبة من اللهجات الخليجية"، معتبراً أنّ ذلك "ساعد في انتشارها؛ فضلًا عن خصوصية ألحانها التي تتنقل بين مختلف المقامات."
وأضاف "تعدد الإيقاعات الحضرميّة وجمال ألوانها جعل منها أغنيات ذات طابع خاص".
ووفقاً للمهتم بالشؤون الفنيّة اليمنية، الدكتور عبد الفتاح الجراش، فإنَّ "المدرسة الحضرميّة مختلفة تماماً، وثريّة بما قدمّه الشعراء والفنانون الذين كان أبرزهم الشاعر حسين أبوبكر المحضار؛ ورسول الأغنية الحضرميّة الفنان أبوبكر سالم بلفقيه".
وأما عن الأغنية الصنعانية، قال الجراش لـ "سوث24" إنَّ "الأغنية الصنعانيّة الحديثة أغلبها مُقتبسة من الألحان القديمة"، مُشيراً إلى أنَّه "لا يوجد جديد فعلي في تطوير الأغنية الصنعانيّة ".
وفي مقارنة بين الفن الحديث والقديم، أوضح الجراش أنّ "الأغنية الصنعانية في السابق كانت تمتاز بإجادة الكلمة واللحن، وكان هناك تناغم بين الشعراء والفنانين، وهو الأمر الذي نتجت عنه أعمالاً فنيّة راقية".
وحول تأثر الفنانين اليمنيين بالأغنية الحضرميّة، قال الجراش "تأثر بعض الفنانين باللون الحضرمي، لكنّ هذا التأثر- وللأسف - لم يتعدَّ التأثر بالإيقاع فقط"، متطرّقاً إلى صعوبة أداء هذا اللون على الفنان اليمني لا سيًما من ناحية اختلاف اللهجة والمفردات الدارجة.
ورغم تأثر الفنان أبوبكر سالم بالفن الصنعاني ونجاحه في أداء الأغنيتين «يا رسولي، وأحبة ربا صنعاء» الشهيرتين، إلا أنّ الفنانين اليمنيين في السابق كانوا يتخوفون من أداء الأغنية الحضرمية خشية عدم إجادتها بالشكل الذي قدّمه الحضرمي بلفقيه، كما بيَّن الجراش.
وفي حديث مع «سوث24»، قال النجم اليمني، عمّار العزكي إنَّه "توجد فروقات كثيرة بين متانة الكلمة واللحن في الأغنية الحضرمية مقارنة بالصنعانية، لكنَّ هذه الفروقات لا تتضمن ضعف الشاعر أو الملحن".
وأضاف "المكان الذي ينشأ فيه الفنان، يحدد مدى صعوبة أو سهولة أداء الألوان الغنائية"؛ معتبراً أنّ اللون الحضرمي "ليس سهلاً، لكنَّه يُكسب الفنان مزيداً من الشهرة مع الاجتهاد والمثابرة".
ورأى العزكي أنَّ "الأجيال الحاليّة اختلفت وأصبحت تبحث عن الكلمة السهلة وعن الأغنية التي تتردد وتقال، لكنَّ الأجيال السابقة كانت تبحث عن عماقة الكلمة واللحن وقوة الفنان"؛ مضيفاً، "أرى الأغنية الصنعانيّة الحديثة جميلة وأنَّ المستمع محتاج لهذا اللون، ونحن في زمن الكلمة السهلة".
وفي تجربة شخصيّة له، أوضح العزكي: "خضت في بعض الأغاني ذات الكلمات المتينة والجميلة، إلا أنَّها لم تأخذ شعبيتها، على عكس الكلمة السهلة التي أجد أنَّها تلاقي قبولاً لدى المستمع"، لافتاً إلى أنّ معيار قبول الأغنية وتقييمها الآن "هم المتابعون في مواقع التواصل الاجتماعي."
رُكود الفن الحضرمي
على الرغم من ثراء المكتبة الفنيّة الحضرمية، تشهد الساحة الفنيّة عزوفاً عن التجديد إلى جانب ركود فنيّ كبير.
وفي هذا الصدد، قال الجراش إنَّ "الفن الحضرمي يعاني من «الخفوت» والفنانين استقرّوا ولم ينطلقوا، بينما بدأ الفنانون في الشمال التنقيب عن الألحان السابقة ويظهرون بها في أعمال جديدة"، لافتاً إلى أنّه "بين الحين والحين تظهر أعمال فنيّة راقية".
وعزى رئيس مؤسسة حضرموت للتراث الفنّي، باوزير، الركود الفني إلى "حالة الحرب التي تشهدها البلاد"، وأضاف "الحرب هي السبب الرئيسي الذي يقف خلف الركود. الأوضاع الاقتصادية والسياسية لها انعكاساتها على الفن بشكل عام".
وفي الوقت الذي ينحسر فيه الحراك الفني في جنوب اليمن وينشط في شمال اليمن، قال باوزير "المزاج الفني في الجنوب تكدّر كثيرا بسبب الأوضاع التي أحاطت به منذ ما بعد حرب 1994؛ التي هدَّمت معاهد الموسيقى والمسارح؛ مما أدَّى الى اعتزال الكثير من العازفين والفنانين وركضهم خلف طلب العيش".
وزعم باوزير أنّ الفن الحضرمي لن يتراجع، مؤكداً أنَّ "المكتبة الفنية الحضرميّة فيها مخزون غنائي هائل ويكفينا لو تغنينا به الى النهاية". وأضاف "الفنان والشاعر والملحن والعازف يعانون من الأوضاع الصعبة والمردود المادي المتدنّي من الحفلات أو الأعراس، فهو لا يكفي لخلق حياة كريمة".
وعلى نقيض ذلك، قال عبد الفتاح الجراش إنَّ "مردود الحفلات والسهرات الغنائية في شمال اليمن مجزٍ إلى حد كبير"، مٌشيراً إلى أنَّ "حفلات الأعراس ساهمت في شهرة كثير من الفنانين، لاسيّما في ظل مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي التي سدّت ثغرة الظهور التلفزيوني."
من جانبه، لفت الملحن الحضرمي محمد الفضلي إلى إنّ هذا "الجمود لم يأتِ من فراغ".
وعدَّد الفضلي لـ "سوث24" بعض المؤثرات للجمود الفني العام الراهن: "قلة السهرات الفنية، توقف الفنانين عن السعي نحو الجديد، وعدم وجود المنتجين"، مشيراً إلى أنّ تكاليف الإنتاج "أصبحت باهظة".
وتابع، "في الجنوب لا وجود للمنتجين والجمهور غير تواق للجديد". وحملَّ الفضلي الفنانين جزءاً من مسؤولية الركود الفني، مُعتبراً أنَّ الفنان "هو الذي يفترض عليه السعي نحو الجديد والحد من الأغاني الجاهزة".
وعن الحالة الفنية في شمال اليمن، قال الفضلي إنَّ "هنالك ازدهار فني ملحوظ في الشمال، وهناك فنانون ظهروا في الساحة الفنية وتبوأوا مكانة مرموقة"، لافتاً إلى أنّ "التشجيع الإلكتروني على منصات التواصل الاجتماعي عامل مساعد في ذلك".
واتفق الشاعر باوزير مع الفضلي في أنَّ "التعداد السكاني الكبير في الشمال يلعبُ دوراً في ارتفاع نسب المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي."
ويعتقد باوزير أنّ "السلطات في شمال اليمن تُعطي اهتماماً كبيراً بالجانب الفني"، معتبراً أنّ ذلك "تجلّى من خلال زيادة الإنتاج في الفترة الأخيرة".
لكنّ عمار العزكي يرى أنّ "الاجتهاد سبب رئيسي في بروز كثير من الفنانين في صنعاء، بالإضافة إلى صدفة الانتشار التي حالفت بعض الأغاني".
تهميش وسرقة
إلى جانب الجمود الذي يخيّم على الساحة الفنيّة في جنوب اليمن بشكل عام وحضرموت بشكل خاص، يعاني الفنان الجنوبي من التهميش وسرقة الأعمال الفنيّة التي برزت بعد قيام الوحدة اليمنيّة، وفقاً لفانين جنوبيين.
وحول هذا قال الملحن باوزير إنّ "فناني الجنوب تعرضوا للتهميش والإقصاء بعد حرب 1994، إلاّ أنّ الأغنية الجنوبية هي من فرضت وجودها".
ووصف الملحن الفضلي التهميش الذي تعرّض له الفنانين في حضرموت والجنوب عموماً بعد الوحدة اليمنية بـ "الممنهج". وأضاف "هناك كثير من الأغاني التي سُرقت ألحانها ونُسبت لفنانين وشعراء وملحنين آخرين".
وأرجع الفضلي ذلك إلى "غياب وقلة التوثيق الذي أتاح المجال للسرقة".
فمثلا، في عام 2018 نسب الفنان حسين الجسمي ألحان أغنيته «حبيتها» إلى التراث. وبعد تداول القضية بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، أضطر الجسمي إلى حذف الأغنية، وأعاد نشرها مع الإشارة إلى اسم الملحن الحضرمي، حداد بن حسن الكاف، وأكّد أنها من "الدان الحضرمي" (أغنية عيني تشوف الخضيرة، للفنان أبوبكر سالم).
كما أن أغنية «يا مركب الهند» نُسبت كلماتها المستوحاة جزئياً من الأغنية الأصلية إلى الشاعر السعودي “بدر بن عبد المحسن”؛[4] بينما هي معروفة لدى أبناء جنوب اليمن أنَّها من كلمات الشاعر الجنوبي اليافعي “يحيى عمر اليافعي” وباعتراف من بعض المثقفين الخليجيين [5].
وهناك حالات كثيرة لسرقة الأعمال الفنية الحضرمية، كما فعل في عام 2013 المغني اللبناني راغب علامة، عندما غنى "سر حبي فيك غامض" على مسرح برنامج "عرب آيدل"، الذي بثته حينها قناة ام بي سي، وتجاهل ذكر اسم صانعي الأغنية الأصليين أبوبكر سالم بلفقيه والشاعر حسين المحضار. [6]
انغلاق
وفي الوقت الذي ازدهر فيه الفن في شمال اليمن وكان نقطة انطلاق الأغنية الحديثة، لزم الفنان الحضرمي موروثه الهائل دون أن يساهم بشكل فعلي في تطوير أو إثراء الأغنية الحضرمية.
وعلى الرغم من ذلك، قال الملحن الفضلي إنَّ "التنافس موجود لكنّه قليل بسبب قلّ الأعمال". وأشار إلى أنّ "الاعتماد الفني الكلي في حضرموت يقتصر على سهرات الزفاف."
وتابع "الجمهور لا يطلب الجديد والفنانون يغنون من الأغاني القديمة"، مشيراً إلى أنّه "في المقابل هناك فنانون يسعون إلى التجديد".
ويعتبر الفضلي أنّ توقف الفنان الحضرمي عن غناء الألوان الأخرى، ناجم عن خوفه من أن يتعرّض للانتقاد.
وانتقد الفضلي ما وصفه بـ "الانغلاق الفنّي"، لافتاً إلى أنّ الفنان يجب أن يتمرّس على الألوان والثقافات الأخرى.
وأشار الجراش إلى "أن الفنان اليمني لا يسلم من الانتقادات أيضاً، لكنً المختلف في الأمر أنّ هذه الانتقادات تدفع شعراء آخرين للخروج بكلمات أفضل للأغاني التي تتعرّض للانتقاد."
صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات
الصورة: ندوة ثقافية لمؤسسة حضرموت للتراث الفني في المكلا 18 ديسمبر 2020 (عبد الله الشادلي، سوث24)