جانب من صورة الغلاف الرئيسي للورقة (الخريطة بواسطة Google map)
12-09-2024 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
"يبقى وادي عبيدة نقطة محورية في ديناميات الصراع الدائر في اليمن، إذ يمثل ملاذًا آمنًا لتنظيم القاعدة بفضل تعقيدات العلاقة بين التنظيم والقبائل، وغياب سيطرة الحكومة المركزية، وتواطؤ بعض القوى المحلية."
ورقة تحليلية | إبراهيم علي
توطئة
تُعد العلاقة المعقدة بين تنظيم القاعدة والقبائل في وادي عبيدة بمحافظة مأرب شمال شرق اليمن، مسألة بالغة الأهمية لفهم ديناميكيات الصراع في اليمن والمنطقة بشكل عام. فقد تحول هذا الوادي، بفضل تضاريسه الجغرافية المواتية وتركيبته الاجتماعية القبلية المعقدة، إلى ملاذ آمن للتنظيم وصندوق أسود يجمع أسرار التنظيم ومنطلقا لعملياته المسلّحة خارج حدود مأرب بما فيها تلك ضد جنوب اليمن منذ ثمانينات القرن الماضي.
تهدف هذه الورقة إلى استكشاف الأسباب التي جعلت من وادي عبيدة بيئة خصبة لنمو تنظيم القاعدة، إضافة إلى العوامل المشتركة التي جمعت بين التنظيم والقبائل. كما ستتطرق الورقة إلى كيفية استفادة التنظيم من الحماية التي توفرها القبائل، والأشكال التي اتخذتها هذه الحماية، وكيف ساهمت في ترسيخ وجود التنظيم في المنطقة. علاوة على ذلك، سيتم تحليل العوامل التي جعلت من وادي عبيدة معقلاً تاريخياً للتنظيم، وكيف تمكن من بناء بنية تحتية وتجنيد عناصر من بين صفوف القبائل.
بالإضافة إلى ذلك، سيتم الإشارة إلى نجاح تنظيم القاعدة في تحويل مأرب إلى محطة انطلاق لعملياته داخل اليمن وخارجه، وكيف استغل هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتنفيذ هجماته. وقبل كل هذا، سيتناول التحليل كيفية تحول الوادي إلى مسرح للعمليات الجوية التي تشنها الاستخبارات الأمريكية عبر الطائرات دون طيار نتيجة لوجود التنظيم.
معركة خفية في سماء الوادي
نظرًا للتواجد الكثيف لقيادات وعناصر تنظيم القاعدة في وادي عبيدة، أصبحت سماء الوادي مسرحاً لنشاط الطائرات الأمريكية بدون طيار، رغم أن التنظيم لا ينشط عملياً في الوادي. ففي حين يصعّد التنظيم من وتيرة نشاطه العملياتي في محافظات جنوب اليمن مثل أبين وشبوة، تهاجم الطائرات الأمريكية قياداته في وادي عبيدة بمحافظة مأرب بين الحين والآخر.
آخر الهجمات التي شُنت عبر الطائرات المسيرة استهدفت مسؤولا في التصنيع العسكري في التنظيم، سعودي الجنسية، عثمان النجدي، في 26 أغسطس الماضي[1]، في وادي عبيدة بمأرب. وقد تضاربت الأنباء بشأن مصيره عقب الضربة[2]، ولم يعلّق القاعدة على مصيره حتى وقت كتابة هذه الورقة.
منذ بدء نشاط الطائرات الأمريكية بدون طيار في أجواء اليمن، كان وادي عبيدة من المناطق التي تلقت النصيب الأكبر من هذه الهجمات. يشكّل الوادي واحدًا من أهم ملاذات التنظيم في المحافظة، إلى درجة أن نجل زعيم التنظيم، أحمد سيف العدل، وصل إليه قبل أن يلقى مصرعه إثر حريق نشب في منزله في شهر رمضان الماضي.[3]
مع تضييق الخناق على التنظيم في محافظات الجنوب، وفي البيضاء وسط اليمن، عزز تنظيم القاعدة من وجوده في الوادي. تشير بعض التقارير إلى أن زعيمه الجديد، سعد عاطف العولقي، يتردد على الوادي وربما يتواجد فيه بشكل دائم تحت حماية بعض الشخصيات القبلية المتعاطفة مع التنظيم.[4]
في عام 2021، غادر تنظيم القاعدة محافظة البيضاء إثر عملية عسكرية لجماعة الحوثيين، لكن مصادر خاصة تؤكد أن التنظيم خرج من المحافظة بموجب اتفاق مع الجماعة،[5] كما خرج سابقاً من مديرية "ولد ربيع" في المحافظة إثر اتفاق مماثل. وبعد عام، تمكنت القوات الجنوبية[6] من طرد عناصر التنظيم من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة قوات حكومية موالية لحزب الإصلاح في شبوة وأبين. لذلك لجأ بعض عناصر التنظيم إلى معاقل جبلية وعرة، في حين اتجه الجزء الأكبر نحو وادي حضرموت ووادي عبيدة في مأرب وبعض مناطق محافظة الجوف.
يبدو أن عناصر وقيادة التنظيم تتواجد في وادي عبيدة بشكل شبه علني، حيث يتحركون بحرية ويقيمون مع أسرهم في منازل وسط بقية السكان. يتضح هذا من خلال أهداف الغارات الأمريكية، مثل الغارة التي استهدفت القيادي البارز "حمد بن حمود التميمي" داخل منزله في الوادي في شهر فبراير من العام الماضي[7]. علمًا أن التميمي كان يشغل منصب "رئيس مجلس شورى التنظيم" ويُعد أحد "القضاة الشرعيين" الأكثر أهمية في التنظيم في اليمن.
قبل أسابيع من هذه العملية، قتلت الطائرات الأمريكية[8] مسؤول صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات في التنظيم، القيادي حسان الحضرمي، في وادي عبيدة. وسبق واستهدفت صواريخ الطائرات الأمريكية في مطلع العام 2021 زعيم التنظيم حينها، القيادي البارز "قاسم الريمي" في نفس الوادي.[9]
اللافت أن التنظيم لم ينفّذ أية عمليات في وادي عبيدة الخاضع حالياً لسيطرة قوات حكومية محسوبة على حزب الإصلاح (إخوان اليمن). بالإضافة إلى ذلك، لم يتراجع تواجد التنظيم في الوادي بعد سيطرة تلك القوات عليه، بل يبدو أنه قد تضاعف. في المقابل، لم يشهد وادي عبيدة، منذ سنوات، أية حملات أمنية أو عسكرية لمكافحة الإرهاب كما حدث في محافظات الجنوب، وتحديداً في أبين وشبوة وقبل ذلك في حضرموت.
الصورة: لقطة جوية مقتطعة من جوجل إيرث لمناطق وادي عبيدة الواقعة جنوب شرق مدينة مأرب، شمال شرق اليمن – Sotuh24 Center
لماذا وادي عبيدة؟
في هذا السياق، يُطرح تساؤل حول الأسباب والعوامل التي جعلت من وادي عبيدة المعقل الأهم بالنسبة إلى تنظيم القاعدة. يرى مراقبون أن استغلال التنظيم لوادي عبيدة يعود إلى عدة عوامل، منها طبيعة الوادي الجغرافية المتنوعة بين المزارع الشاسعة والصحاري الواسعة، مما يوفر لهم ملاذًا آمنًا. كما استغل التنظيم الكرم التقليدي الذي يتميز به أهل الوادي، وتقاليد الضيافة وإجارة المستجير.[10]
إضافة إلى ذلك، تمكن التنظيم من اختراق النسيج القبلي في الوادي عبر استقطاب شخصيات بارزة فيه، واستثمارها في توفير الحماية لعناصره وقادته، كما حدث في منطقة قيفة بمحافظة البيضاء، وفي أكثر من محافظة يمنية أخرى. كما يُعد وادي عبيدة من أقدم معاقل التنظيم في اليمن، إذ شهد أول غارة لطائرة أمريكية بدون طيار، والتي قتلت زعيم التنظيم حينها "أبو علي الحارثي"[11]، في 3 نوفمبر 2002، ليخلفه "ناصر الوحيشي" في الزعامة.
وفي 2001، كانت القوات الأمنية قد بدأت حملة عسكرية[12] واسعة في حصون مأرب لتعقب أعضاء التنظيم وشخصيات قبلية توفر الحماية لهم، مما أدى إلى مقتل أكثر من 13 جندياً.
كما شهد العام 2010 مواجهات وحملة عسكرية بين القوات الحكومية وتنظيم القاعدة في وادي عبيدة، بهدف القبض على قيادات في التنظيم، وعلى رأسهم "علي بن سعيد بن جميل العبيدي" المعروف باسم "موحّد المأربي". ونتيجة وقوف القبائل إلى جانب عناصر القاعدة، أُجبرت الحملة على التراجع.[13]
من المهم الإشارة هنا إلى أن تنظيم القاعدة استفاد من وضع وادي عبيدة كمنطقة خارج سيطرة الحكومة المركزية في صنعاء، ومن تحسس القبائل تجاه أي تواجد عسكري رسمي داخل أراضيها. إذ تقاوم القبائل أي تواجد عسكري في الوادي، سواء كان لمطاردة القاعدة أو لمهام أخرى. نجاح التنظيم في استقطاب شخصيات قبلية جعله أكثر منعة في الوادي.
يمكن القول إن العناصر المنتمين إلى وادي عبيدة كانوا من أبرز عناصر التنظيم التي سيطرت على محافظة أبين وأجزاء من محافظة شبوة بين عامي 2011 و2012. حتى أن علي بن سعيد بن جميل، قتل في أبين بغارة أمريكية عام 2011 إلى جانب عنصرين آخرين من التنظيم.
وقد مثّل وادي عبيدة تاريخيا منطلقا للعمليات "الإرهابية" ضد جنوب اليمن، تحت مبرر قتال الشيوعيين، حتى قبل الوحدة مع الشمال في مايو 1990. فمثلا، وصف أحد المؤلفات القريبة[14] التابعة لتنظيم القاعدة، وهو ينعي "موّحد المأربي"، بأنّه كان "لقبيلة عبيدة على وجه الخصوص دور في قتال الشيوعيين الاشتراكيين في الثمانينيات، وكانت تسيّر من مأرب قوافل المجاهدين قاصدة خط القتال في "بيحان" لرد عادية الشيوعيين حينها."
جغرافيا، يمتد وادي عبيدة، الذي يبلغ طوله أكثر من 130 كم، من مدينة مأرب إلى حدود العبر ومنفذ الوديعة. يعتبر الوادي خصباً، ويُزرع فيه العديد من المحاصيل، بما في ذلك أنواع مختلفة من الخضروات، ويبلغ عدد سكانه حوالي مائة ألف نسمة.
محافظة تنصيب زعماء القاعدة
بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن وادي عبيدة يعد المعقل الأهم تاريخياً لتنظيم القاعدة. ولهذا السبب، حرص قادة التنظيم الكبار على التواجد فيه وعقد الاجتماعات المهمة، خصوصاً تلك المتعلقة بتنصيب الزعماء.
فبعد مقتل "أبو علي الحارثي" في صحراء مأرب، تم تنصيب ناصر الوحيشي زعيماً للتنظيم في ذات المحافظة. ويبدو أن الأمر تكرر مع خالد باطرفي بعد مقتل الزعيم الأسبق قاسم الريمي في وادي عبيدة. من المؤكد أن الزعيم الحالي للتنظيم، سعد عاطف العولقي، تم تنصيبه خلفاً لباطرفي في وادي عبيدة نفسه.[15]
وفقاً لتقرير صادر عن مركز صنعاء، فإن "آخر لقاء مباشر بين الرجلين (باطرفي والعولقي) كان في يناير 2024، حيث احتدم النقاش بينهما حول قضايا تنظيمية ومالية دون الوصول إلى اتفاق. وفي نهاية فبراير، تلقى العولقي دعوة من خبيب السوداني لحضور مشاورات عاجلة في أحد ملاذات التنظيم الآمنة بمحافظة مأرب. وعند وصوله، تفاجأ بأن السبب الحقيقي للدعوة كان تحضيره لتسلّم قيادة التنظيم".
لعبت محافظة مأرب، خاصة وادي عبيدة، دوراً حاسماً في استمرار تنظيم القاعدة في اليمن. فكما كانت المحافظة نقطة انطلاق التنظيم للسيطرة على أبين وأجزاء من شبوة بين عامي 2011 و2012، استقرت فيها أيضاً أعداد كبيرة من عناصر التنظيم عقب انسحابهم من تلك المناطق منتصف 2012. لقد عاد عدد كبير من عناصر التنظيم المنسحبين إلى محافظة مأرب لأنها كانت الأكثر أمانًا بالنسبة إليهم. وفي ذلك الوقت، أصدر التنظيم بيانًا دعا فيه القبائل إلى استقبال عناصره وحمايتهم.[16]
من المهم الإشارة إلى أن التنظيم كان ينسحب من المدن الرئيسية بمحافظات الجنوب إلى معاقل جبلية في نفس المحافظات. ولكن مع إطلاق القوات الجنوبية حملات عسكرية في تلك المعاقل، اتجه عناصر التنظيم إلى وادي عبيدة، الذي يحظى فيه بحماية كاملة، ما يبرز أهمية الوادي بالنسبة للتنظيم.
الدعم بالسلاح
لم تقتصر علاقة القبائل في وادي عبيدة بتنظيم القاعدة على توفير الملاذ الآمن والحماية، بل تعدت إلى تقديم الدعم بالسلاح. وفقاً لما ورد في ورقة لمركز "سوث24"، فإن بعض مدافع "بي 10" التي استخدمها التنظيم بين عامي 2010 و2011 كانت مُعارة من بعض مشايخ قبائل عبيدة المتعاطفة معه.[17]
وبحسب الورقة، قد يكون التنظيم حصل على أسلحة أخرى من القبائل في مناسبات مختلفة. في هذا السياق، لا تستبعد مصادر مقربة من التنظيم أن يكون الأخير قد نقل كميات من الأسلحة الثقيلة التي استولى عليها من معسكرات في محافظتي أبين وشبوة إلى محافظة مأرب، حيث تم بيعها للقبائل.[18]
تشير المعلومات إلى أنّ الصاروخ الذي عثرت عليه قوات الأمن في صنعاء قبل أكثر من عقد، وكان بحوزة عناصر من القاعدة ومعداً لاستهداف طائرة وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز أثناء زيارته للعاصمة اليمنية صنعاء، تم جلبه من مناطق القبائل في وادي عبيدة.[19]
في الإصدار المرئي لتنظيم القاعدة "فزت ورب الكعبة"[20]، تحدث التنظيم عن عملية غير ناجحة كان مقررًا لها أن تستهدف الأمير نايف بن عبد العزيز وابنه محمد بن نايف وأمراء سعوديين آخرين أثناء هبوط طائرتهم في مطار صنعاء الدولي. أظهر الإصدار جانباً من التدريبات على استخدام الصواريخ في منطقة صحراوية بوادي عبيدة.
قبل ذلك، كان مسؤولون أمريكيون قد زاروا صنعاء للضغط على الحكومة اليمنية خلال عهد الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح لتدمير صواريخ الدفاع الجوي، خشية حصول تنظيم القاعدة عليها واستخدامها في هجمات على المطارات المدنية.[21]
وقد أشارت بعض وثائق ويكيليكس الشهيرة المسربة إلى قلق الولايات المتحدة الأمريكية من وجود أسلحة خطيرة خارج مخازن الحكومة اليمنية يمكن أن تشكل تهديدا للمصالح الأمريكية واليمنية وللأمن العالمي إن هي وقعت في أيادي عناصر تنظيم القاعدة، كالصواريخ المحمولة المضادة للطائرات. كما أبدت تخوفها من تسرب هذه الصواريخ إلى تلك العناصر من المخازن الرسمية اليمنية، بل أكدتْ أن ذلك قد حدث بالفعل، وأن القاعدة استخدمتها في عملياتها في كل من كينيا والمملكة العربية السعودية واليمن خلال عامي 2001 و 2002. [22]
وما لم تتطرق له الوثائق الأمريكية المسربة، هو أنَّ عددا كبيرا من هذه الصواريخ كان قد وقع في يد القبائل عقب حرب 1994 ضد الجنوب، ولهذا كلفت رئاسة الجمهورية ضابطا في وزارة الدفاع يدعى "فكري العماد" بالتفاوض مع المواطنين وتجار السلاح لشراء تلك الأسلحة، وبشكل خاص صواريخ استريلا (سام2 ـ سام3) المضادة للطائرات.[23]
فصل جديد: الحوثيون والإصلاح
إلى جانب دور القبائل، مثّل وجود حزب الإصلاح في محافظة مأرب كسلطة أمر واقع، ابتداءً من عام 2015، حماية إضافية لتنظيم القاعدة. ففي أواخر عام 2014، اجتاحت جماعة الحوثي العاصمة صنعاء وعدداً من المحافظات الشمالية دون مقاومة تُذكر، إلا أن الوضع كان مختلفاً في مأرب، حيث اجتمعت القبائل في مطارح نخلا وقررت المقاومة. كانت الجهة الغربية في المحافظة (صرواح) مسرحاً للمعركة، التي شارك فيها تنظيم القاعدة بفاعلية.
بخلاف ما حدث لاحقاً، لم يُخفِ التنظيم مشاركته، إذ كان ينشر أخباراً شبه يومية عن مشاركة عناصره ضمن الجبهة إلى جانب "قبائل أهل السنة"، وهو خليط من مسلحي القبائل وعناصر حزب الإصلاح، بالإضافة إلى بعض قوات الجيش.
استمر الأمر على هذا النحو حتى عام 2016، عندما دفعت السعودية بقوات إلى المحافظة. وفقًا لمصادر مطلعة، طلبت المملكة من محافظ مأرب، سلطان العرادة، إخراج عناصر التنظيم من جبهات القتال. إلا أن الحرج من وجود هؤلاء العناصر ضمن القوات المدعومة من التحالف دفع المحافظ إلى طلب عدم رفع أعلام التنظيم أو نشر أخبار مشاركتهم في المعارك.[24]
رغم ذلك، أكد القائد الميداني السابق للتنظيم، جلال بلعيدي المرقشي، في عام 2016، أن التنظيم شارك في 11 جبهة قتال تابعة للمقاومة الشعبية. وفي 2017، أكد زعيم التنظيم الأسبق، قاسم الريمي، أن عناصر التنظيم شاركوا في القتال ضد مليشيا الحوثيين إلى جانب الإخوان المسلمين وبعض المحسوبين على التيار السلفي.[25] بعد ثلاث سنوات من هذا التصريح، لقي الريمي مصرعه في وادي عبيدة بغارة أمريكية.
اعتقال قاضي التنظيم الشرعي
قد تبدو حادثة اعتقال قوات الأمن في مأرب لقاضي التنظيم الشرعي "أبو بشر" في سبتمبر 2023،[26] متناقضة مع فكرة وجود علاقة متينة بين حزب الإصلاح وتنظيم القاعدة. ومع ذلك، من المحتمل أن لهذه العملية أسبابها الخاصة التي لا تنفي الحقيقة القائمة حول وجود علاقات غير معلنة بين الطرفين. وجود "أبو بشر" في مدينة مأرب، التي تُعد محصنة نسبياً لعناصر القاعدة في مناطق محددة مثل وادي عبيدة، يشير إلى توسع نفوذ التنظيم وزيادة حريته في التحرك داخل المحافظة.
عملية اعتقاله تثير العديد من التساؤلات حول الدوافع والظروف التي أحاطت بها. فمن غير المحتمل أن تكون قوات الأمن قد قامت بهذه العملية بشكل مستقل، نظراً للعلاقات القائمة بين التنظيم وحزب الإصلاح وقبائل الوادي. من الممكن أن يكون الاعتقال قد جاء استجابةً لضغوط خارجية، ربما من الولايات المتحدة، بعد رصد تحركات القيادي. وفي هذه الحالة، قد تكون الأجهزة الأمنية نفذت العملية لتجنب اتهامات بالتساهل مع التنظيمات الإرهابية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يُستبعد أن تكون هناك أطراف أخرى تعمل في الخفاء داخل مأرب، غير مرتبطة بشكل مباشر بالإصلاح، قد تكون مسؤولة عن عمليات كهذه، خصوصا بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي.
رد تنظيم القاعدة على اعتقال "أبو بشر" كان مؤشراً على استيائه من عدم إمكانية إطلاق سراحه. كشف التنظيم عن هذه المعلومة في محاولة على ما يبدو لضمان عدم الإفراج عنه دون تداعيات، وهو ما قد يؤدي إلى مساءلة الأجهزة الأمنية دولياً. كما يشير إلى أن القيادي المعتقل ربما انتقل إلى يد جهة أخرى غير مرتبطة بالأجهزة الأمنية الموالية لحزب الإصلاح.
ورغم ذلك، فإن تنظيم القاعدة يدرك أن الأجهزة الأمنية التابعة للإصلاح قد تتخذ إجراءات مثل هذه لتحاشي اتهامات بالتساهل في مكافحة الإرهاب. فقد سبق للتنظيم أن أصدر بياناً نادراً يعتذر فيه عن هجوم أدى إلى مقتل عدد من أفراد قوات الشرطة في أبين، قبل أن يسيطر عليها المجلس الانتقالي الجنوبي.[27] وصنّف التنظيم العملية بأنها "عمل فردي" لا يمثل سياسته العامة. البيان، الذي بدا وكأنه يهدف لامتصاص غضب قوات الشرطة، أعاد التذكير ببعض العمليات التي استهدفت عناصره في مأرب وشبوة في وقت سابق.
تشير اللغة الودية في البيان الموجه لقوات الشرطة الموالية لحزب الإصلاح حينها، إلى وجود تفاهمات غير معلنة بين الطرفين، وأن أيّ اختلافات صغيرة لن تؤثر على العلاقات الأساسية.
لماذا لم ينفّذ التنظيم عمليات في مأرب؟
على الرغم من الحضور القوي لتنظيم القاعدة في وادي عبيدة، إلا أن التنظيم لم ينشط عملياتياً في معظم محافظة مأرب، وهو ما أثار تساؤلات كثيرة حول الأسباب الكامنة وراء ذلك.
هناك عدة أسباب تفسر عدم تنفيذ القاعدة لعمليات في وادي عبيدة. في مقدمة هذه الأسباب أن الوادي خارج سيطرة الحكومة المركزية، ولا توجد فيه قوات حكومية يمكن استهدافها. الأمر الآخر، أنّ القوات التي تسيطر على المحافظة، من طرف الحكومة المعترف بها دوليا، ليست من أهداف التنظيم. فعناصرها وعناصر التنظيم اشبه برفقاء السلاح، وخاضوا حروبا مشتركة ضد خصوم آخرين. ويذكّر هذا الوضع في وادي عبيدة، بالوضع الذي كان سائداً في محافظة شبوة خلال فترة حكم محمد صالح بن عديو (نوفمبر 2018 – ديسمبر 2021)، القيادي الموالي لحزب الإصلاح. آنذاك لم ينفّذ التنظيم أية عملية في المحافظة طيلة تلك الفترة.
إلى جانب ذلك، يُراعي التنظيم حساسية قبائل عبيدة من تنفيذ أية عمليات داخل الوادي، وهو ما قد يفسّر نفي التنظيم صلته بالتفجيرات التي استهدفت محسوبين على القوات الحكومية في ديسمبر 2022.
من المهم أيضاً ملاحظة أن التنظيم اعتبر أن تلك التفجيرات كانت محاولة من طرف ثالث للإضرار بالعلاقة بينه وبين قبائل المحافظة، حيث حث البيان الصادر عنه القبائل على "إحسان الظن بإخوانهم المجاهدين"[28]، مما يلمح إلى وجود طرف ثالث يسعى لخلق فتنة بين القاعدة والقبائل.
مناطق التواجد
رغم أن تنظيم القاعدة يتحرك عادةً في الخفاء ويتنقل بين المناطق، مما يجعل تتبع تحركاته أمراً صعباً، إلا أنه من خلال رصد الغارات الأمريكية والمعلومات الواردة من بعض المصادر، يمكن تحديد بعض مناطق تواجد التنظيم في وادي عبيدة، وهي: (الصمدة، عرق آل شبوان، حصون آل جلال، حدباء آل عوشان، المسيل والكولة).
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه المعلومات قد تكون في بعض الأحيان تقديرات استخباراتية، تتغير من حين إلى آخر، وربما تكون غير دقيقة في بعض الحالات.
ملخّص
تتعدد العوامل التي جعلت من وادي عبيدة في مأرب ملاذاً آمناً لتنظيم القاعدة، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
التضاريس الجغرافية: تتميز المنطقة بتضاريس وعرة وكهوف ووديان عميقة، مما يوفر غطاءً مثالياً للتنظيم وأعضائه ويصعب على القوات الحكومية الوصول إليها.
القبائل: وجود قبائل قوية ومؤثرة في المنطقة ساهم في تقديم الحماية والدعم اللوجستي للتنظيم.
غياب سيطرة الدولة: ضعف سيطرة الحكومة على المنطقة، خاصة في ظل الصراع الدائر في اليمن، سمح للتنظيم بالتحرك بحرية وتوسيع نفوذه.
الفقر والبطالة: انتشار الفقر والبطالة بين الشباب جعلهم عرضة للتجنيد في صفوف التنظيم، الذي يوفر المال والسلاح.
الأيديولوجيا المتطرفة: استغل التنظيم انتشار الأفكار المتطرفة بين بعض الشباب في تجنيدهم وتعبئتهم.
التاريخ الطويل للصراعات: تاريخ المنطقة الطويل من الصراعات القبلية والحروب الأهلية خلق بيئة خصبة لنمو التنظيمات المتطرفة.
حزب الإصلاح والحوثيون: ساهم النفوذ الكبير لحزب الإصلاح في المحافظة، وتقاربه الأيديولوجي مع تنظيم القاعدة، في تعزيز حضوره وتسهيل عمليات التجنيد. وحتى في حال سيطر الحوثيون على كامل وادي عبيدة في مأرب، فقد يلجأ التنظيم للتنسيق مع الحوثيين لمواجهة خصوم مشتركين في الجنوب، على غرار ما يحصل في أبين وشبوة.[29]
تحديات
وفي ضوء ما سبق، يشكّل وجود تنظيم القاعدة في محافظة مأرب، وخاصة في وادي عبيدة، تحديًا كبيرًا لجهود مكافحة الإرهاب في اليمن. إذ إنّ هناك عدة عوامل تجعل العلاقة بين التنظيم والقبائل معقدة:
التاريخ المشترك: ترتبط القبائل بتنظيم القاعدة بعلاقات قديمة، حيث قدم التنظيم دعماً مادياً وعسكرياً للقبائل في صراعاتها ضد الحكومات المركزية، مما خلق شعوراً بالولاء المتبادل.
المصالح المشتركة: تتقاطع مصالح القبائل مع مصالح التنظيم في بعض الأحيان، مثل المعارضة للحكومة المركزية أو الأطراف الأخرى في الصراع.
الوعود المادية: يقدم التنظيم وعوداً مادية وعسكرية للقبائل، مما يشجعها على تقديم الحماية والدعم.
لذا فإنّ الحماية القبلية تجعل مكافحة الإرهاب أكثر تعقيدًا، حيث يصعب استهداف عناصر التنظيم دون مواجهة القبائل التي توفر لهم ملاذاً آمناً. كما تمكن هذه الحماية التنظيم من التخطيط وتنفيذ عملياته الإرهابية وتوسيع نفوذه.
تداعيات إقليمية ودولية
يتجاوز تأثير وجود تنظيم القاعدة في مأرب، وخاصة في وادي عبيدة، الحدود المحلية ليشكل تهديدًا إقليميًا ودوليًا. إذ يعتبر الوادي قاعدة انطلاق لعمليات التنظيم الإرهابية التي يمكن أن تستهدف دولًا أخرى في المنطقة. وفقًا لمصادر خاصة، تم الإعداد والترتيب للعملية التي استهدفت الأمير محمد بن نايف داخل قصره في جدة في منطقة وادي عبيدة بمأرب.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يستغل التنظيم وجوده في مأرب، حيث يحظى بحماية كاملة من القبائل المتعاطفة معه، لتجنيد عناصر من دول أخرى، مما يضاعف من حجم المخاطر. هذا التوسع في قدرات التنظيم قد يسهم في زعزعة استقرار الأمن الإقليمي والدولي، حيث يمكن أن يوجه التنظيم نشاطاته نحو أهداف خارجية باستخدام وادي عبيدة كمنطلق.
مقترحات وحلول
لمواجهة هذه التحديات المتعلقة بتنظيم القاعدة في وادي عبيدة، من الضروري تبني مجموعة من الخطوات العملية:
الحوار والمصالحة مع القبائل: يجب التركيز على تعزيز الحوار والمصالحة مع القبائل التي تحتضن التنظيم أو توفر له الحماية. يجب تقديم حوافز اقتصادية واجتماعية لهذه القبائل مقابل دعمها للعملية السياسية والتخلي عن حماية عناصر التنظيم.
مكافحة الفقر والبطالة: للحد من تجنيد الشباب في صفوف تنظيم القاعدة، يجب معالجة الأسباب الجذرية المتمثلة في الفقر والبطالة من خلال توفير فرص العمل والخدمات الأساسية في المناطق القبلية. التنمية الاقتصادية في هذه المناطق ستكون عاملًا حاسمًا في قطع مصادر تجنيد التنظيم.
تعزيز الحوكمة وسيطرة الدولة: يجب تعزيز قدرات الحكومة المركزية وتوسيع نطاق خدماتها العامة في المناطق النائية التي يغيب عنها حضور الدولة. إن وجود مؤسسات حكومية قوية في مأرب ووادي عبيدة سيسهم في تقويض نفوذ تنظيم القاعدة وتقليص مساحة حركته.
مكافحة الفكر المتطرف: يجب العمل على نشر الوعي والتسامح، ودعم المؤسسات الدينية المعتدلة لمواجهة الأفكار المتطرفة التي يستغلها التنظيم لتجنيد الشباب وتعبئتهم. يمكن أن تلعب البرامج التعليمية والدينية المعتدلة دورًا كبيرًا في تحجيم تأثير التنظيم.
التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب: تعزيز التعاون الدولي وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول أنشطة تنظيم القاعدة في اليمن سيكون ضروريًا لمواجهة التهديدات العابرة للحدود، بما في ذلك دعم وجود قوات مكافحة إرهاب في مأرب.
فك الارتباط بين القاعدة وحزب الإصلاح: يعتبر فك الارتباط بين تنظيم القاعدة وحزب الإصلاح في مأرب من أهم الخطوات لمكافحة الإرهاب. على الرغم من أن حزب الإصلاح يمثل جزءاً من السلطة الشرعية في مأرب، إلا أن ارتباطه بالتنظيم يعقد جهود مكافحة الإرهاب ويمنح التنظيم غطاءً سياسيًا. يجب أن تعمل الحكومة المركزية والقوى الدولية على الضغط لفك هذه العلاقة، من خلال تعزيز الحوكمة ودعم البدائل السياسية.
الخاتمة
يبقى وادي عبيدة نقطة محورية في ديناميات الصراع الدائر في اليمن، إذ يمثل ملاذًا آمنًا لتنظيم القاعدة بفضل تعقيدات العلاقة بين التنظيم والقبائل، وغياب سيطرة الحكومة المركزية، وتواطؤ بعض القوى المحلية. معالجة هذا الوضع تتطلب جهدًا شاملًا، يبدأ من تعزيز الحوكمة، مرورًا بتوفير التنمية الاقتصادية، وصولًا إلى الحوار مع القبائل.
وفي ظل التهديدات الإقليمية والدولية التي يمثلها تنظيم القاعدة من خلال عملياته وتوسعه، يبقى التعاون الدولي أمرًا ضروريًا لمكافحة الإرهاب في اليمن. فالاستقرار في وادي عبيدة سيكون جزءًا من استقرار اليمن والمنطقة بشكل عام.
إبراهيم علي
اسم مستعار لخبير متخصص في شؤون الجماعات المسلّحة وباحث غير مقيم في مركز سوث24، أخفى هويته لأسباب شخصية.
- الآراء الواردة في هذه الورقة تعكس وجهة نظر المؤلف.