02-07-2020 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| محمد صلاح
ففي عالم السياسة الواقعي يكاد يكون الكذب مرادفًا للحكم؛ فأن تحكم يعني أن تُمارِس الخداع، لكن الأخطر من ممارسة الكذب والخداع هو التسويغ الفلسفي الذي يبرر هذه الممارسات، فهل قدر السياسة أن تظل دائمًا مناخ الكذب الأمثل؟ أم من الممكن لأخلاق الواجب، وقيم الصدق أن توجه الفعل السياسي؟ وهل يمكن حقًا تبرير الكذب السياسي من المنظور الفلسفي الأخلاقي؟ أم أن «التبرير» يُعَدُّ في ذاته مجرد محاولات لإضفاء شرعية أخلاقية على اللاأخلاقي بطبيعته لأهداف أيديولوجية براجماتية؟
بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، والعلاقة بين التبرير الفلسفي النظري للكذب والخداع السياسي والتطبيق، يأخذنا كتاب د. حمدي الشريف، مدرس الفلسفة السياسية بكلية الآداب-جامعة سوهاج، والمعنون بـ«فلسفة الكذب والخداع السياسي» وصدر، مؤخرًا، عن دار رؤية للنشر، في رحلة شيّقة بين فلسفة الأخلاق والسياسة والقانون، رابطًا النظريات الفلسفية بتطبيقات عملية، والأفكار المجردة بواقعنا المعاصر، بطرح تحليلي نقدي ومقارن لأهم ما أنتجه الفكر الفلسفي الغربي حول الكذب السياسي بين التبرير والرفض.
يسعى المؤلف من خلال التأصيل لمفهوم الكذب ودلالته، والمقارنة بين موقف الفلاسفة من فعل الكذب، إلى تحليل واستخلاص الحجج المختلفة، والوقوف على أسبابها وخلفياتها، ومسوغاتها ومبرراتها، بهدف نقدها وتفكيكها؛ حتى يتمكن من الوصول إلى قناعة خاصة به بترجيح أحد المواقف على الآخر، أو بالخروج بموقف فلسفي مستقل وشامل.
1. علاقة الكذب بالأسطورة
تُعَدُّ علاقة الكذب بالأسطورة علاقة إشكالية، وغامضة؛ وهو غموض نابع من غموض مفهوم الأسطورة نفسه؛ إذ يتداخل المفهوم مع الظواهر الدينية والفلكلورية، والرموز الحضارية والطقوس الاجتماعية، وغيرها من مجالات الدراسات الأنثروبولوجية، غير أنّ ما يرتبط بموضوع الدراسة هو التركيز على التوظيف السياسي للأساطير، وهنا نجد بإمكاننا التمييز بين نوعين من التوظيف: الأول، وجود أسطورة متوارثة عبر الأزمنة يؤمن بها شعب من الشعوب فعلًا على أنها حقيقة، والثاني تعمُّد صناعة الأساطير من أجل تحقيق أهداف أيديولوجية معينة.
وحتى في النوع الأول الذي يؤمن الناس فعلًا بأسطورة من الأساطير كما لو كانت حقيقة فعلية، فلا يغيب عنا توظيف هذه الأسطورة سياسيًا؛ مثلًا عن طريق استغلال نخبة سياسية حاكمة لأسطورة موجودة بالفعل، بدلًا من صناعتها؛ فالحركة الصهيونية على سبيل المثال لم تبتدع أسطورة أرض المعاد، ولم تسهم في كتابة الأسفار الدينية التي تَعد اليهود بالأرض المقدسة، كما لم تبتكر أسطورة شعب الله المختار، لكنّها وظّفت هذه الأسطورة سياسيًا، رغم أن كثيرًا من قادة الصهيونية ومؤسسيها يمكن ألّا يكونوا من المتدينين، ومع ذلك وظفوا الأساطير التي صيغت في الماضي، لتحقيق أهداف سياسية، وقد صيغت هذه الأساطير نفسها في بداية ظهورها حتى اكتملت في حقبة السبي البابلي وما بعدها، لقد صيغت هذه الأساطير أيضًا بفعل عوامل سياسية، ولأهداف سياسية محضة.
وقد أكد بعض الفلاسفة والمفكرين المعاصرين أن للأساطير أدوارًا فعالة في السياسة، حيث ذهب الفيلسوف الألماني «هانز بلومنبرج» إلى أن الأسطورة تُعَدُّ أكثر حيوية وأكثر سرعة في التأثير على الأفراد والجماعات؛ لأنّها قادرة على التغلغل إلى نفوسهم وعقولهم. ولذلك فإن النازيين -مثلًا- لم يكن باستطاعتهم أن ينجحوا في السياسة من دون إنتاج (أساطير جديدة)، وعندما تحدّث المفكرون النازيون عن (أسطورة العرق الآري)، فإنهم كانوا يحاولون، بطريقة غير شرعية، استحضار دلالة بعض الأساطير القديمة، مثلما كانوا يوظفون العلم في كثير من الأحيان بطرق ملتوية، وذلك في اتجاه تدعيم سياستهم العرقية.
ومن الجدير بالذكر أن عملية صناعة الأسطورة لا تتم في كل الأحيان من جانب النخبة السياسية بهدف السيطرة على المحكومين، أو بهدف ترسيخ أفكار ومعتقدات معينة، بل أحيانًا –وهذا يدل على تعقّد مفهوم الأسطورة- نجد أنّ خلق الأساطير القومية، وهي من أهم الأساطير المنتشرة في القرن العشرين، ليس مجرد تأليف من جانب بعض النخب لقصص مختلفة وتمريرها إلى الجماهير. فالواقع أن الناس العاديين قد يكونوا متعطشين لتلك الأساطير؛ فهم في حاجة إلى سماع قصص وحكايات عن ماضيهم، بحيث تصورهم بأنهم أخيار ذوو قبعات بيضاء، بمواجهة القوميات الأخرى ذوي القبعات السوداء. وبالتالي، فإنّ خلق الأساطير القومية هو فعل مدفوع من الأدنى، كما هو مدفوع كذلك من الأعلى.
ومن جانبه، يذهب حمدي الشريف إلى أن أفلاطون في استخدامه لفكرة الأكذوبة النبيلة كان يعتقد «أن قيام الدولة العادلة يتطلّب ترويج أكذوبة من أجل إقناع الناس بأنّهم من معادن متباينة، ومن ثم يُسلِّمون بالتفاوتات الطبقية فيما بينهم، وبأن هذه التفاوتات أمور يستلزمها النظام الطبيعي للدولة». وبالتالي فحتى يمكن لأفلاطون تحقيق ذلك، فإنه لم يخترع أسطورة، بل رجع إلى أسطورة فينيقية قديمة؛ بهدف تدعيم نظريته السياسية في العدالة، وهذا ما يشير إليه المؤلف بأن أكذوبة أفلاطون كامنة في استعماله لهذه الأسطورة، بحيث تصبح الأسطورة وسيلة لإقناع الناس بنظام العدالة على النحو الذي ينظر إليه أفلاطون، مع أن الحقيقة هي أخوّة جميع البشر، رغم كل الاختلافات التي بينهم!
وقد توسّع المؤلف بعمق في تحليل ونقد فكرة الأكذوبة النبيلة عند أفلاطون، وتوظيفه للأسطورة -بل وللدين عمومًا- سياسيًا، وساق آراء بعض المفكرين الذين حاولوا إلى حد ما الدفاع عن أفلاطون، واستبعاد وصفه بأنه من مروجي الكذب السياسي، مثل «روسو»، و«حنة آرندت»، اللذين ذهبا إلى اعتبار أن أفلاطون مبتدع الأكاذيب النبيلة في السياسة يقوم على تأويل غير دقيق له، وبدلًا من ذلك ذهبا إلى أنّه وظّف «الخيال» فقط، غير أنّه لم يقصد إقرار الكذب كمبدأ عام في السياسة، ولم يبحه إلا في بعض الأحيان لخداع العدو مثلًا.
وقد اعترف المؤلف بوجاهة هذا التفسير، لكنه رأى أنّه غير صحيح لأسباب عدة؛ ويقف على رأسها أنّ روسو نسي -أو بالأحرى تناسى- البعد الإرادي لإحداث تزييف متعمد في أذهان الناس، وكذلك تناست آرندت أنّ أفلاطون ينظر إلى هذه الأكذوبة على أنّها وسيلة فعّالة يمكنها أن تُقنع الناس بالتفاوت الطبقي فيما بينهم، والمحافظة على النظام الهرمي الذي تقوم عليه دولته المثالية.
من هنا يتقاطع توظيف الدين مع توظيف الأسطورة في المجال السياسي، وكما أشار المؤلف فإنّ الأسطورة تُمثِّل عند أفلاطون عنصرًا ضروريًا لقيام العدالة، وبالتالي لجأ أفلاطون إلى أسطورة المعادن الثلاثة؛ لضمان استقرار نظام دولته المثالية.
وكذلك فقد أشار المؤلف إلى دور الأسطورة في فكر فلاسفة آخرين، ومنهم «ليو شتراوس» الذي نعى عليه المؤلف فاشيته وتبريره للكذب والخداع من جانب النخبة السياسية التي رأى فيها النموذج الحقيقي للسياسة المثالية، رغم ادعائه الديمقراطية. الأكثر من ذلك هو تبرير شتراوس توظيف الدين نفسه «من خلال دعوته لاستعمال الدين بوصفه أداة نافعة في العملية السياسية، بل ومن خلال إقراره بمشروعية توظيف الأساطير الدينية من أجل تحقيق الهدف السياسي الأسمى (النظام الديمقراطي الليبرالي)؛ لأنّ ذلك من شأنه -وفقًا لما يراه- أن يخدم السياسة على نحو أفضل».
لقد اتخذ المؤلف موقفًا نقديًا واضحًا من الواقعية السياسية، سواء عند مكيافيلي، أو عند والتزر، وانتهى إلى نتيجة أساسية، وهي أن «والتزر بدأ من مكيافيلي وانتهى إليه، بل وتجاوزه في سياسة الكذب والخداع إلى حد كبير
ويتضح موقف المؤلف الصارم في رفضه التام لشتى أنماط توظيف الأساطير في السياسة، مهما كانت الغايات التي يدّعي أصحابها بأنّها نبيلة. ولم ينتقد المؤلف استخدام الأسطورة فحسب، بل انتقد أيضًا دور الأيديولوجيا، في ضوء أفكار ماركس، في ترسيخ علاقات القوة والهيمنة في المجتمع، خاصة حين تتخذ الأيديولوجيا معنى قلب الحقائق وتحريفها عن معناها الأصلي، أي حين تصبح وعيًا زائفًا، أو انعكاسًا لمصالح طبقية خاصة.
لكن وكما يرى المؤلف، فإنّ أخطر ما في الكذب السياسي هو التوظيف النفعي للدين، وكذلك صناعة الأساطير، سواء قومية أو دينية، لتحقيق أهداف معينة. وهذا لا يعني أنّ اللجوء إلى الأكاذيب واختلاق الأساطير مقصور فحسب على الدولة الدينية، بل يمتد إلى كل الأنظمة السياسية الأخرى بما في ذلك الأنظمة السياسية المدنية (أو العلمانية). وتتمثّل فائدة الأساطير هنا في إضفاء الشرعية السياسية على طابعها السلطوي.
2. الواقعية السياسية ومنطق الضرورة
من بين أهم الاتجاهات الفلسفية التي تبرر الكذب والخداع السياسي هي «الواقعية السياسية» Political Realism، التي يُعَدُّ مكيافيلي أبرز منظريها وأهمهم في العصر الحديث. وقد اجتهد المؤلف في بحث موقف مكيافيلي من الكذب والخداع، رغم الصعوبات الظاهرة والتعقيد الكامن في هذا الموقف، وبالتالي جاء تحليل المؤلف في نهاية المطاف تحليلًا منصفًا لا يخلو من نقد موضوعي؛ حيث قرأه في ضوء واقعه الأليم الذي عاصره في إيطاليا، مما دفعه (أي مكيافيلي) إلى تبني بعض الآراء التي تُعَدُّ صادمة، بيد أنّها واقعية.
وطبقًا للواقعية السياسية، على الحاكم أن يتخذ كل ما يلزم من قرارات لمنع الدولة من الانهيار، أو لترسيخ دعائمها، بما في ذلك الخداع والكذب، بل والقسوة والوحشية إذا لزم الأمر، وغيرها من الصفات السلبية، لكن هذا لا يعني أنّ على الحاكم أن يحكم دائمًا بهذه الطريقة، أو ألّا يكون رحيمًا بشعبه. ومن هذا المنطلق يرى المؤلف أنّ «دعوة مكيافيلي في هذا الجانب لا ينبغي أن تُفهم على أنّها دعوة للشر، وإنما على أنّها تستهدف إصلاح الدولة من الفساد الذي لحق بها، وأن القراءة الدقيقة لأفكار مكيافيلي تُظهر لنا أن وسائل الكذب والخداع تُعَدُّ مؤقتة -رغم كونها ضرورية- وليست وسائل دائمة بعد تأسيس دولة مدنية قوية».
تطرّق المؤلف إلى أحد المفكرين الذين اقتفوا أثر مكيافيلي في فلسفته الواقعية، وتبريره لأدوات الكذب والخداع وغيرها في حالات محددة، وهو الفيلسوف الأمريكي المعاصر «مايكل والتـزر» Michael Walzer، الذي سوَّغ في فلسفته كل أدوات العنف والكذب والخداع، في حالات الضرورة القصوى فقط، لا سيما في حالة أساسية، وهي حالة الحرب على الإرهاب، وقد تفطّن المؤلف لما وراء هذا التنظير ذي الصبغة الأمريكية الاستعمارية، ناقدًا موقف والتزر، موضحًا أنّه موقف مُراوِغ يهدف أولًا إلى تجميل صورة أمريكا وتقديم أعذار ومسوغات لجرائمها وممارساتها في حق الشعوب العربية والإسلامية.
لقد اتخذ المؤلف موقفًا نقديًا واضحًا من الواقعية السياسية، سواء عند مكيافيلي، أو عند والتزر، وانتهى إلى نتيجة أساسية، وهي أن «والتزر بدأ من مكيافيلي وانتهى إليه، بل وتجاوزه في سياسة الكذب والخداع إلى حد كبير، وذلك بنهجه السياسي البراجماتي الذي لا تحده حدود؛ فالكذب والخداع عند مكيافيلي أدوات ضرورية في يد الأمير، وهي المصير المحتوم لرجل الدولة عند والتزر».
هكذا فإن المؤلف يحرص على ألا تكون دراسته مجرد وصف لآراء فلاسفة، أو عرض لأفكارهم بحيث تقف على الحياد بين أفكار فلاسفة السياسة، بل نجده يتخذ موقفًا نقديًا تجاه كل المذاهب الفلسفية التي تبرر الكذب والخداع السياسي، ونجد ذلك أيضًا في نقده لـ«مذهب النتائج» Consequentialism، لا سيما مذهب «المنفعة العامة» الذي يُعَدُّ أحد أهم أشكاله وأكثرها انتشارًا في الفلسفة، والذي يرى أنّ سعادة المجموع هي مقياس خيرية الأفعال، مما يعني أنّ الكذب السياسي يصبح مبررًا إذا كان يُحقق منفعة أو يزيل ضررًا لأكبر عدد من الناس.
وقد انتقد المؤلف مذهب المنفعة، موضحًا بلغة بسيطة وسهلة الصعوبات المختلفة التي تواجهه، ومنها أنّه طبقًا للموقف النفعي، يجوز للحكومة أن تكذب على المواطنين، بأن تقوم بالتضحية بأحد الأبرياء مثلًا، متهمة إياه بأنّه هو الذي قام بهذه الجرائم، وذلك من أجل أن يعود الأمن والاستقرار إلى المجتمع. فعلى الرغم من أنّ هذا الفعل ينتهك حقوق هذا الفرد، فإنّه يعود بالنفع على المجتمع، وهي آلية مكيافيلية بامتياز. غير أنّ هذا الفعل يتعارض بشكل صارخ مع ما يقول به أعلام «المذهب الحدسي» Intuitionism (وهو مذهب يحدد مدى الصواب الأخلاقي طبقًا لطبيعة الفعل الأصلية، وليس عن طريقة أي عوامل أخرى خارجية) من أنّه لا يجوز إطلاقًا إدانة شخص من غير سند أو تهمة، أو حرمانه من حقوقه دون وجه حق، من أجل المنفعة التي سيحصل عليها الآخرون، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم غالبية أفراد المجتمع.
ولم يفت المؤلف أن يشير إلى نقطة شديدة الأهمية، وهي ظهور مذهب «نفعية القاعدة الخاصة» Specific Rule Utilitarianism، للفيلسوف الإنجليزي المعاصر «ريتشارد م. هير» Richard M. Hare، الذي حاول تحت انتقادات مذهب المنفعة العامة أن يخلص إلى حلول لمعضلة قابلية القواعد للإلغاء، فرأى أنّ القواعد الأخلاقية «كلية» (الكلية) Universal، لكنها ليست بالضرورة ذات طابع «عام» (العمومية) General، بل يمكن أن تكون القاعدة مركبة، وخاصة مع ضرورة إجراء التعديلات التي تستلزمها الحالات الجزئية المعينة، أي يمكن أن يكون الكذب، طبقًا لهذه القاعدة، صائبًا وأخلاقيًا إذا ما كنا نستطيع تعميم القاعدة «الخاصة»، التي تؤسس لفعل الكذب الفردي، في كل الحالات المشابهة.
3. الكذب بين أوغسطين وكانط
من أهم ما جاء في الكتاب، المقارنة الشيقة بين فلسفة أوغسطين وكانط، حيث يُعَدُّ كل منهما من الفلاسفة القليلين الذين اتخذوا موقفًا صارمًا ضد الكذب، وإن كان كانط أشد صرامة، حيث لم يسوّغ اللجوء إلى الكذب تحت أي مبرر، أو في أي ظرف من الظروف، فضلًا عن كونه انطلق من أساس فلسفي عقلاني، في حين انطلق أوغسطين من مبادئ الأخلاق الدينية المسيحية. ويوضح المؤلف أن أوغسطين نظر إلى الكذب كفعل لا أخلاقي، وكخطيئة، مستندًا إلى تعاليم الكتاب المقدس، وإرشادات المسيحية التي تزدري الكذب، وتحث على التمسك بفضيلة الصدق. كذلك ذهب أوغسطين إلى أنّ الأكاذيب مرفوضة لأنّها تُولّد المزيد من الأكاذيب، وبالتالي فهي رذائل وحالة من حالات الضعف الإنساني، بل وتؤدي إلى وقوع شرور أخرى عديدة لأنّها تفتح الباب على مصراعيه لتسويغ الأكاذيب وشرور خطيرة.
ورغم إدانة أوغسطين للكذب بشكل صارم، مرتكزًا على «أخلاق الأمر الإلهي»، فإنه يذهب في المقابل إلى أنّ «هناك مستويات مختلفة للكذب طبقًا لدرجة الضرر الذي ينتج عنه، كما أنّ بعض الأكاذيب تُعدّ أقل، أو أكثر خطورة، من البعض الآخر، ومن ثمّ، تختلف حسب مستوى الإثم الديني واللوم الأخلاقي: فهناك أكاذيب لا تُغتفر؛ لأنّها أكاذيب محظورة تمامًا، وهي تلك الخاصة بالكذب في مجال العقيدة الدينية. وهناك أكاذيب يمكن غفرانها، وهي تلك التي قد تُسبِّب الأذى للشخص نفسه، ولكنها تعود بالنفع على الآخرين».
هكذا نجد أنّ أوغسطين يشدّد أكثر على رفض الأكاذيب المتعلقة بمجال العقيدة الدينية، ولم يحظر أكاذيب أخرى بالكلية، رغم كراهتها، وهذا نابع من مرجعيته الدينية، والتي ربما تذكرنا بالتحسين والتقبيح الشرعيين عند متكلمي الأشاعرة المسلمين، حيث يكون معيار الحكم على أخلاقية أو لا أخلاقية الأفعال هو الشرع أو النص الديني وليس العقل.
أما كانطـ فيمثل جانب العقل، وهو ربما يذكرنا أيضًا بالتحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة، حيث يكون معيار الحكم على أخلاقية أو لا أخلاقية أو التحسين والتقبيح تجاه كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع. وهذا ما يجعل كانط مختلفًا عن أوغسطين تمامًا في هذا الجانب، من حيث إنّه كان أكثر تشددًا في عدم تسويغه للكذب تحت أي ظرف من الظروف، وجعل أخلاق الواجب أساسًا لا يقبل المساومة للأفعال الإنسانية، وقانونًا كليًا يرجع إليه الإنسان في الحكم على أفعاله وممارساته، ولم يُفرّق بين حالة وأخرى، إلى الحد الذي جعل نظريته الأخلاقية تتعرض للنقد من أكثر من وجه، فضلًا عن أنّه لم يستند في تحريم الكذب على الدين، بل على العقل العملي، وأنّ الصدق قيمة في ذاته مهما كانت النتائج في كل ممارسة على أرض الواقع.
ورغم ذلك فإنّ كانط لم ينكر إمكانية أن يكذب الإنسان، لكن مع اقتناعه بصحة الأوامر الأخلاقية المطلقة، فقد يضطر الإنسان -كما أشار المؤلف على لسان كانط- أن يكذب كذبة معينة، لكنه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يجعل منها قانونًا كليًا يأمر بالكذب؛ لأن وجود هذا القانون سيمتنع معه وجود أي وعد من الوعود، وهدم المسلمات التي تتفق مع الواجب.
بيد أنّ كانط لم يتنبه إلى أن اللجوء إلى الكذب أحيانًا لا يكون استنادًا إلى نتائج أو تحقيق منفعة، بل يكون ضرورة في ضوء مبدأ أخلاقي أسمى وهو مبدأ الحفاظ على حياة الآخرين، فحين يمتنع إنسان ما عن إخبار مجرم بمكان أحد الأشخاص الذي يريد قتله، أو حين نبوح بمعلومات كاذبة للعدو لحفظ الوطن، فإن هذا لا يندرج بالضرورة تحت مذهب المنفعة أو النتائج، وكما أشار المؤلف على لسان «سالي سيدجويك» Sally Sedgwick، فإنّ «كانط تغافل عن إمكانية أن يكون لدى المرء واجب مطلق (وليس مجرد رغبة) في إنقاذ حياة الأبرياء».
ونلاحظ على طول صفحات الكتاب أنّ المؤلف يميل إلى تبني موقف كانط في أخلاق الواجب؛ حيث إنّه اتخذ موقفًا نقديًا تامًا من كل الفلسفات التي حاولت أن تبرر الكذب والخداع السياسي، من أفلاطون، ومكيافيلي، وليو شتراوس، ووالتزر، وفلاسفة مذهب المنفعة العامة، وغيرهم.
قبل 19 يوم
قبل 20 يوم