17-08-2021 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| فريدة أحمد
الملخص التنفيذي
يشكّل فهم واقع جنوب اليمن أهمية ملحّة في الوقت الراهن، وعلى الرغم من أوجه الاختلاف والتوافق بين الجنوبيين خلال مراحل تاريخية مختلفة، والتأثير السياسي الكبير الذي نجم عن العلاقة البينية، بيد أن هناك روابط أعمق وحالة ثراء وطني وجدت طريقها في مجتمع متنوع الخصائص ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وفي مجالات متعددة أخرى، وهو الأمر الذي يستوجب المحافظة عليه ومراعاته. كما اتضح أنّ الهوية الدينية المتماسكة في الجنوب المبنية على التعايش والانسجام، لم تتأثر بالبُعد الطائفي الحاد في حرب اليمن الأخيرة، الذي تحوّل على يد بعض الأطراف اليمنية؛ مثل حزب الإصلاح اليمني - المنتمي أيديولوجياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة الحوثيين المدعومة من إيران؛ إلى صراع قائم على أساس ديني ومذهبي.
نقاط رئيسية
- إن المنظومة النخبوية في شمال اليمن، من سياسيين وخبراء وباحثين ومحللين وغيرهم، دائماً ما تصوّر الجنوب على أنه بؤرة صراع لا منتهية، وأنّ أي توافق بين قواها السياسية لن يكون إلا توافقاً هشاً. ودائماً ما يتم اختزال الصورة اللاتوافقية في حرب يناير 1986، والاستشهاد بها في كل مناسبة وبدون مناسبة، بصورة مستهلكة ومبالغٌ فيها.
- إنّ عدم التفات نفس النخبة في شمال اليمن، للحروب التي خاضها الشمال ابتداءً من الأحداث العسكرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلى حروب المناطق الوسطى في السبعينات، وحرب 1994 التي شنها النظام اليمني السابق على الجنوب، أو حروب صعده الستة، وانتهاءً بالحرب الأخيرة منذ 2015 حتى كتابة الورقة. هو من قبيل المراوغة الدعائية التي تحاول تصوير مستقبل الجنوب في حال استعادة الدولة؛ في مشهد صراع متوالٍ للوصول إلى نتيجة أنّ استقرار الجنوب مرهون ببقائه في الوحدة مع الشمال؛ وهو ما يخالف الوقائع السياسية والعسكرية التي تُثبت أنّ أسوأ موجات الصراع التي شهدها جنوب اليمن، بما يفوق سوء أحداث يناير 1986، كانت قادمة من الشمال أو بسببه.
- إنّ تصوير الجنوبيين على أنهم في خلاف دائم وعدم وفاق، سياسة انتهجها النظام اليمني وغذى هذا الأسلوب الدعائي المستفيدين من تركته، خاصة الأحزاب اليمنية والقوى السياسية الأخرى المناهضة لمشروع استعادة الجنوبيين لدولتهم ونيلهم استقلالهم، وفي مقدمتها حزب الإصلاح اليمني - المنتمي أيديولوجياً لجماعة الإخوان المسلمين.
- إن التجربة الجنوبية بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني، كانت مريرة بلا شك، وتشوبها بعض الأخطاء، لكن من غير المنطقي أن تُقدّم أو تظهر هذه المرحلة بصورة مليئة بالمؤامرات والضغائن الشخصية، دون النظر للواجهة الإيجابية من المنجزات التي حققتها دولة الجنوب السابقة على مختلف المستويات.
- من المؤكد أنه لا يمكن غض الطرف عن الحقائق التاريخية الناجمة عن صراعات عميقة تجذرت في الذاكرة الجنوبية، غير أنّ ذلك ليس سبباً للاستشهاد بمساوئها في كل مناسبة، وتجاهل سياق أحداث توافقية قريبة، على سبيل المثال: الساحات الجماهيرية والالتحام الجنوبي الذي مثل مطالبهم الجامعة عبر "الحراك الجنوبي السلمي" في 2007، أو التوافق في رؤيتهم عن الخطورة التي يمكن أن تشكلها تنظيمات مثل القاعدة وداعش، أو التوافق الذي جمعهم بعد حرب 2015 الأخيرة للقتال في خندق واحد ضد الحوثيين فيما اعتبره كثير من الجنوبيين "غزواً ثانياً" على الجنوب، في إشارة إلى أنّ "الغزو الأول" كان في حرب 1994.
- إن الحوار الجنوبي البيني راهناً، الذي يتولى إدارته المجلس الانتقالي الجنوبي، بادرة جيدة في سبيل فتح أفق نحو توافق أشمل وأوسع على نطاق محافظات الجنوب.
- إنّ المقاربة الأفضل التي تتمثل في الحالة الجنوبية، هو إيجاد رؤية حضارية جديدة تتعامل مع حقيقة التنوع على مختلف الأصعدة، وتوظيفها في سياق إثراء مفهوم التعايش والسلم المجتمعي والوحدة الوطنية بين كل منطقة وأخرى، ضمن إطار الكيان الكبير الجامع المتمثل بالدولة.
- إن قيام دولة جنوبية مستقلة على شكل "اتحاد فيدرالي"، من شأنه تشكيل احتواء قانوني ومنطقي ومتناسب مع أهمية ومكانة كل محافظة في الجنوب، بحيث يضمن خصوصيتها الاجتماعية والإدارية من جهة، ويحافظ على وحدة وتماسك الدولة من جهة أخرى.
وفي ضوء النتائج التي خلصت إليها الدراسة، تم وضع جُملة من التوصيات:
أولاً: للجهات الداخلية
• إن الدخول في حوار (جنوبي بيني)، وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الجنوبيين، حتى مع الذين لا يؤمنون باستقلال الجنوب كحل، ملح وعاجل في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخ اليمن والمفصلية من تاريخ الجنوب، في سبيل توحيد صفوفهم ونبذ الخلافات فيما بينهم، واستبدال لغة الحديث والحوار عوضاً عن لغة السلاح.
• إن الخروج بإقرار لرؤية جنوبية موحدة تتفق عليها كافة الأطراف السياسية، يشكل أهمية بالغة من أجل ترتيب وضع الجنوب السياسي واستقراره وتأمينه.
• إنّ الشكل الفيدرالي لدولة مستقبلية في الجنوب، من شأنه أن يشكّل احتواءً قانونياً ومنطقياً للحالة الجنوبية، ويضمن المحافظة على مكانة وتاريخ كل محافظة وخصوصيتها الاجتماعية والثقافية وغيرها.
• إنّ تشكيل قوة عسكرية موحدة ودمج القوات الجنوبية الحالية تحت إطار جيش جنوبي موحّد، عامل مهم لتقوية النفوذ العسكري الجنوبي على أراضيه.
• إن الاستمرار في مكافحة التنظيمات "الإرهابية" القاعدة وداعش، من قبل القوى العسكرية الجنوبية التي أثبتت موثوقية في محاربتها، سيحد من تنامي عملياتها ونشاطها في الجنوب.
• إن الإقرار بحق الشعب الجنوبي باستعادة دولته كضمانة رئيسية، ستساعد مستقبلاً في إعادة توحيد الشمال الممزق بين الجماعات المتحاربة فيه، أو على الأقل للمساعدة في توجيه الجهود لاستعادة الدولة في الشمال؛ وبدء حوار (شمالي - شمالي) بخصوص المظلوميات الجهوية هناك.
ثانياً: للجهات الخارجية
• إنّ استكمال عملية المفاوضات بشأن إنهاء الحرب في اليمن برعاية إقليمية ودولية، لإنضاج تسوية سياسية شاملة بين الأطراف المتنازعة، لهو أمر ملح وعاجل تجنباً للدخول في مرحلة أكثر خطورة وتعقيدا.
• إن المكانة الإقليمية والدولية التي يحتلها موقع الجنوب الجيوسياسي المرتبط بها مثل: القرن الأفريقي، والبحر الأحمر، والبحر العربي، والمحيط الهندي، تتطلب إدراكاً إقليمياً ودولياً أوسع من الحماية والاهتمام، تجنباً لأي تهديدات أو تحديات قد تواجه المنطقة مستقبلاً.
• إنّ دعم القوات العسكرية الجنوبية التي أثبتت موثوقيتها في تحرير مناطقها من الحوثيين، وكذا تخلصها من تنظيم القاعدة في مساحات جغرافية واسعة من الجنوب، عبر النخبتين في حضرموت وشبوة، والأحزمة الأمنية في لحج وعدن وأبين، يستوجب اهتماماً إقليمياً ودولياً ودعماً ملحاً لهذه القوات لاستكمال مهامها.
• على المتابعين أو المهتمين بالشأن اليمني سواء من العرب أو الأجانب، قراءة الأحداث وتقصي الحقائق بصورة مكتملة، غير متحيّزة أو منقوصة، واستقاء المعلومات من مصادرها الأصلية وشاهديها الحقيقيين؛ وتعزيز المعرفة التاريخية بالمنطقة وجذور الصراعات فيها ودوافعها وأبعادها؛ وأسباب عودة وتوالي دورات العنف فيها.
شكر وتقدير:
يتقدّم مركز سوث24 للأخبار والدراسات لكلٍ من الباحثين والخبراء السياسيين بالشكر والامتنان على تعاونهم ومساهماتهم في دعم هذه الورقة، من خلال سلسلة مقابلات أجراها المركز معهم في شهري يوليو وأغسطس 2021. كما لا يتحمل الأفراد المشاركون المسؤولية عن الآراء الواردة في الورقة، جميع الآراء تعبّر عن رأي الباحثة.
المقدمة
شهد جنوب اليمن سلسلة من الأحداث والأزمات المتلاحقة، التي شكّلت نقطة تحوّل فارقة في تاريخه على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، إذ جاء تركيز الدراسة على مرحلة قيام الجنوب العربي منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، وما تلاها من مراحل تاريخية سياسية، من قيام دولة مستقلة في الجنوب بعد خروج المستعمر البريطاني عام 1967، والدخول في وحدة يمنية لاحقاً عام 1990، على الرغم من أهمية العروج لمراحل تسبقها، إلا أن التسلسل الزمني للأحداث اللاحقة التي أوصلت الجنوب إلى ما هو عليه اليوم، يرتبط بشكل مباشر بأغلب الأزمات المعاصرة، وفي مقدمتها الآثار التي خلّفتها حرب 1994، نتيجة تنامي حدة الخلافات والصراعات بين شركاء الوحدة في الأعوام الأولى من عمر دولة الوحدة، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى انتهائها بصورة مروّعة في نظر الجنوبيين.
إنّ البدء في تصحيح المسار الجنوبي بعد نشوء قضية الجنوب الناتجة عن حرب 1994، وما تبعها من مطالبات ورؤى قدمتها مكونات الحراك الجنوبي، حد تطورها لمطالبات باستعادة دولة الجنوب واسترداد هويته وأرضه واختيار نمط النظام الأنسب إليه بعد حصوله على استقلاله، يشكل جانباً بالغ الأهمية، خاصة بعد اندلاع الحرب الأخيرة في اليمن 2015، التي دمرت ما تبقى من جسور بين الجنوب والشمال، عقب سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء وما تلاها من تدخل للتحالف العربي نتيجة ذلك الانقلاب، وما انعكس من تداعيات لاحقة أثارتها أطراف يمنية مناوئة لمشروع استعادة الجنوبيين لدولتهم؛ وفي مقدمتها حزب الإصلاح اليمني – المنتمي أيديولوجياً لجماعة الإخوان المسلمين، أثر على مسارات الحرب لتتحول باتجاه الجنوب عوضاً عن الاتجاه نحو تحرير العاصمة اليمنية صنعاء.
إن اختيار الدراسة تحت هذا العنوان، جاء ملحاً نظراً لطبيعة الأوضاع الحالية بعد الصراع الأخير في اليمن 2015، كما أنّ عملية تفاوض طويلة بين فرقاء الأزمة اليمنية، ووجود حكومة معدومة الفعالية، سبب خيبة أمل كبيرة بالنسبة للكثير من الجنوبيين، الذين يرون أن إنهاء الوضع المتفاقم الذي وصل إليه اليمن وتأثر به الجنوب، لن يبدأ إلا بالبدء في ترتيب الوضع السياسي للبيت الجنوبي أولاً، عبر فتح آفاق شاملة للحوار بالشراكة مع كل الأطراف الجنوبية المعنية والفاعلة بلا استثناء.
وقد تم تقسيم الورقة البحثية إلى ثلاثة محاور رئيسية: حيث اختص المحور الأول بإعطاء لمحة تاريخية عما حدث في الجنوب منذ ستينيات القرن الماضي حتى نيله الاستقلال من الاستعمار البريطاني، ونشوء دولة الجنوب المعروفة بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وصولاً إلى دخولها في وحدة مع الجمهورية العربية اليمنية عام 1990. أما المحور الثاني: فاختص بالتطرق للواقع السياسي وأثره على الاختلاف والتوافق بين الجنوبيين خلال محطات مختلفة. أما في يختص بالمحور الثالث والأخير: فتناول المجتمع في الجنوب وما احتواه من تنوع هوياتي واجتماعي وثقافي، إلى جانب التكوين القبلي والهوية الدينية، وما شكله من عامل استقرار مهم للجنوب، خاصة بعد حرب 2015.
لذا، يتمحور النقاش في هذه الورقة حول إشكالية رئيسية تتعلق بالأثر الذي أحدثه الواقع الجنوبي بمختلف أبعاده التاريخية والسياسية والاجتماعية على التوافق والاختلاف بين الجنوبيين، وإلى أي مدى يمكن خلق نقاط التقاء مشتركة بين الفرقاء تساعد على بناء مستقبل أكثر استقراراً وأمناً في الجنوب.
هذه الأسئلة وغيرها ستحاول الورقة الإجابة عليها، من خلال اعتماد الباحثة المنهج الوصفي التحليلي الذي يقوم على دراسة الظاهرة كما هي في الواقع.
خلفية عامة
موقع جنوب اليمن (1967 - 1990):
هو المنطقة الواقعة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وتشمل أراضي حضرموت والمهرة المتاخمة لسلطنة عمان شرقاً حتى باب المندب غرباً، وتتكون من ست محافظات، هي: عدن، ولحج، وأبين، وشبوة، وحضرموت، والمهرة. ومساحتها حوالي 360 ألف كيلو متر مربع. يحدها من الشمال المملكة العربية السعودية وشمال اليمن، ومن الغرب مضيق باب المندب، ومن الجنوب خليج عدن وبحر العرب، ومن الشرق سلطنة عمان. (1)
خارطة جنوب اليمن حتى العام 1990 (www.internal-displacement.org)
ويتبع جنوب اليمن عدد من الجزر، أهمها: جزيرة سقطرى التي يبلغ طولها 125 كم وعرضها 42 كم. إضافة إلى جزيرة ميون أو جزيرة "بريم" الواقعة على مدخل مضيق باب المندب، إذ تبلغ مساحتها 13 كم، بالإضافة إلى عدة جزر أصغر في خليج عدن.
ومن الناحية الاستراتيجية، فموقع جنوب اليمن يتمتع بأهمية بالغة، نظراً لارتباطه بمضيق باب المندب التي تمر عبره خطوط الملاحة الدولية بالقرب من شواطئ عدن ولحج، فضلاً عن تركّز الثروات النفطية والغازية في شبوة وحضرموت.
عدد سكان جنوب اليمن
قبل عام ١٩٩٠، بلغ عدد سكان جنوب اليمن 3.3 ملايين نسمة. وعقب إعلان الوحدة مع اليمن الشمالي، ووفقا للتعداد السكاني الرسمي للعام ٢٠١٠، بلغ عدد سكان محافظات الجنوب نحو ٥ ملايين نسمة.
وفي حين بلغ سكان الجنوب والشمال قرابة 30 مليون نسمة في العام 2020 وفقا لأرقام البنك الدولي، فإنّ نسبة التركيبة السكانية للجنوب، البالغة 29%، تؤكّد أن الحجم الفعلي للسكان الأصليين يبلغ 8.7 مليون نسمة حتى عام 2020.
ومع تزايد أعداد اللاجئين القادمين من القرن الأفريقي، وارتفاع حالات النزوح الجماعية من شمال اليمن، التي سببتها السنوات الأخيرة من الحرب، فإن العدد التقديري للسكان داخل جنوب اليمن، يناهز 10 مليون نسمة.
عدد سكان جنوب اليمن بالاستناد لحسابات تقديرية لأرقام شاملة للبنك الدولي (سوث24)
أولاُ: لمحة تاريخية عن الجنوب
يُطلق اسم الجنوب العربي سياسياً على المنطقة الممتدة من باب المندب وخليج عدن غرباً، حتى حدود عُمان شرقاً، ويحدها من الشمال اليمن والمملكة العربية السعودية، ومن الجنوب بحر العرب. وهي تشمل منطقة عدن والمحمية الغربية والشرقية والجزر التابعة لها. (2)
تبنت رابطة أبناء الجنوب هذا المسمى منذ عام 1947، بدلاً من التسمية التي كانت متداولة وهي مستعمرة عدن ومحمياتها تأكيداً لانتماء المنطقة للعروبة. وتذكيراً للشعب بذلك والقضاء على معاني التجزئة وتوحيد مشاعر أبناء الجنوب وانتمائهم إلى قُطر واحد، وأن على الجميع أن يواجهوا نظاماً يجب انهاؤه هو الحكم البريطاني. (3)
كان التقسيم الإداري للجنوب العربي يشمل إلى جانب مستعمرة عدن؛ ولايات عدن الغربية والشرقية.
• ولايات عدن الغربية: وهي سلطنة لحج (السلطنة العبدلية) وهي الولاية الرئيسية في محمية عدن الغربية، وعاصمتها الحوطة. وقبائل الصبيحة التي أصبحت فيما بعد جزءاً من سلطنة لحج. والسلطنة الفضلية؛ وكانت تشمل قرابة نصف منطقة أبين الخصبة وعاصمتها زنجبار. ومشيخة العقربي وهي ولاية صغيرة ملاصقة لمستعمر عدن وعاصمتها بير أحمد. وسلطنة العوالق العليا وعاصمتها الصعيد، وسلطنة العوالق السفلى وعاصمتها أحور. وإمارة بيحان وعاصمتها بيحان. وسلطنة يافع السفلى وعاصمتها جعار، وسلطنة يافع العليا التي كانت تنقسم إلى عدة أقسام فرعية مستقلة، تمتلك أغلبها معاهدات منفصلة مع الحكومة البريطانية. والسلطنة العوذلية وعاصتها لودر. وسلطنة الحواشب وعاصمتها المسيمير، ومشيخة العلوي. وإمارة الضالع وعاصمتها الضالع، وكانت إمارة الضالع تشمل منطقة جبل جحاف وبلاد القطيبي وردفان ومشيخة الشعيب، وعاصمتها العوابل. ودثينة وعاصمتها مودية. (4)
خريطة توضح جانب من التقسيم السابق لمحمية واتحاد الجنوب العربي (static.educalingo.com)
• ولايات عدن الشرقية: كانت تضم سلطنة الشحر والمكلا (السلطنة القعيطية)، وسلطنة سيئون (السلطنة الكثيرية) وعاصمتها سيئون، وسلطنة قشن وسقطرى وإقليم قشن الواقع في البر الذي تقطنه قبيلة المهرة وعاصمتها حديبو، الواقعة على الشاطئ الشمالي لسقطرى. وسلطنة الواحدي؛ وكان يوجد بها سلطانان أحدهما في بلحاف والآخر في بير علي ولكليهما معاهدات مع الحكومة البريطانية. (5)
وقد جاء مشروع "اتحاد إمارات الجنوب العربي"، كأول مشروع اتحادي من شأنه توحيد القبائل الجنوبية وتعزيز دورها، وصولاً إلى تحقيق الاستقرار والأمن، وحتى تتمكن الإمارات الجنوبية من رسم رؤية مشتركة لمصيرها السياسي والاقتصادي بما يتناسب مع وضعها الجديد.
كما أن أكبر خطر كان يلوح في الأفق بالنسبة للحكومة البريطانية هو امتداد الزخم الثوري في الكثير من البلدان العربية، وفي مقدمتها جمهورية مصر وما صدرته من حماس إلى بقية الدول من بينها شمال اليمن والجنوب العربي. وفعلاً بدأت الاستراتيجية البريطانية تنكمش مع بروز المشروع الوطني الثاني، وهو تأسيس "اتحاد الجنوب العربي" في بداية عام 1963، بعد انضمام عدن إلى اتحاد الإمارات الذي وحّد المنطقة منذ أواخر الخمسينات. بعد مبادرة لمجموعة من حكام المحميات، هم شريف بيحان ونائب الفضلي والسلطان العوذلي وسلطان يافع السفلى وأمير الضالع وشيخ العوالق العليا، بإجراء مباحثات حول مشروع الاتحاد، والذين توصلوا على إثره إلى صيغة نهائية لإقراره.
يمكن القول أنّ مشروع "اتحاد الجنوب العربي" جاء من إدراك قادة ومشائخ قبائل المناطق الجنوبية، بأن مناطقهم رغم مكانتها وأهميتها؛ ستبقى ضعيفة طالما بقيت منفصلة عن بعضها البعض، وكان السبيل الوحيد لحماية استقلالها من اليمن المجاور على المدى البعيد هو الاتحاد، مع المحافظة على مكانة وخصوصية كل منطقة، خاصة وأن الاتحاد كان يتعرض لبعض الغارات والاعتداءات على المحمية من وقت لآخر، وبالأخص المناطق الحدودية مع اليمن.
وقد دفعت مختلف الظروف الخارجية والداخلية في ستينيات القرن الماضي، بأن يتم تشكيل حركة تحرر وطني تقود النضال ضد الاستعمار البريطاني، فتم تشكيل جبهة التحرير القومية عام 1963. وقد شمل نشاط الجبهة معظم مناطق الجنوب. وفي عام 1966، تم تكوين جبهة منافسة للجبهة القومية، فشكلت جبهة تحرير الجنوب، المؤلفة من: حزب الشعب الاشتراكي، ورابطة الجنوب العربي، وهيئة تحرير الجنوب. (6)
لم تتوافق الجبهتان (الجبهة القومية، وجبهة التحرير)، ودخلتا في خلافات عميقة إلى أن حُسمت النتيجة لصالح الجبهة القومية، بقيادة محمد قحطان الشعبي، ثم اعترفت بريطانيا رسمياً بها، ودعتها لإجراء مفاوضات في جنيف ابتداءً من 20 نوفمبر 1967، وتحقق الاستقلال في 30 نوفمبر. وأُعلن عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، جمهورية عربية مستقلة وعُدّل الاسم في عهد الرئيس سالم ربيع إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في 1971. وبدأ اليمن الجنوبي بتطبيق برنامج اقتصادي يساري بدعم واسع من قبل الاتحاد السوفييتي السابق.
لم يكن اليمن الشمالي أفضل حالاُ قبل ثورة 1962 إبان حكم الإمامة، إذ ظل بلداً معزولاً اجتماعياً واقتصادياً وثقافيا لوقت طويل، لدرجة أنه حتى العام 1950ـ حين كان العالم يدرس إمكانية الوصول إلى القمر ـ لم يكن في اليمن الشمالي لا كهرباء ولا إذاعة حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أنشأ البريطانيون محطة بث في عدن عام 1946، ولم يكن يسمعها سوى ثلاثة أشخاص فقط، يوجد لديهم ثلاثة أجهزة راديو، هم: الإمام أحمد وولي العهد البدر والقاضي أحمد الحضراني (7). وبعد ثورة 1962، تمت الإطاحة بأول رئيسين جمهوريين في اليمن الشمالي – عبد الله السلال وعبد الرحمن الإرياني بين عامي 1967 و1974 على الترتيب. ثم اُغتيل الرئيس إبراهيم الحمدي الذي خلف الإرياني عام 1977، واغتيل خلفه أحمد الغشمي بعد توليه منصبه لما يقارب تسعة أشهر، وهو ما هيأ لاحقاً لصعود علي عبدالله صالح لتولي السلطة عام 1978.
كما أن حروب المناطق الوسطى في شمال اليمن أو ما تُعرف بـ (حرب الجبهة) في ثمانينات القرن الماضي؛ كانت من أشد الحروب فتكاً بين نظام صنعاء وعناصر الجبهة القومية الديمقراطية المناهضة للنظام، وقد امتدت لما يقارب الخمس سنوات بين الطرفين. إذ كان الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن يدعم أفراد الجبهة؛ نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية وتفشي الظلم في المناطق الوسطى.
وبالعودة لليمن الجنوبي، وتحديداً في 13 يناير عام 1986، اندلع صراع بين جناحي الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم، انتهى بسيطرة الجناح الذي كان يقوده على سالم البيض ضد الجناح الآخر بقيادة الرئيس علي ناصر محمد الذي لجأ إلى الخارج؛ كما لجأ على إثر الصراع المئات من المدنيين والعسكريين لشمال اليمن، منهم الرئيس الحالي لليمن؛ عبدربه منصور هادي. إذ عدً هذا الصراع نقطة سوداء في التاريخ السياسي للجنوب.
ينبغي القول، أن الصراعات الداخلية في اليمن الشمالي واليمن الجنوبي من حيث الرؤية الشمولية، اختلفت حسب طبيعة محركاتها أو تراكماتها سواء سياسية أو اجتماعية، وحسب المكونات الداخلية لتلك المجتمعات. فلم يكن الصراع مقتصر على الجنوب وحده بعيداً عن الشمال، أو العكس. بل ربما أن اليمن الشمالي تفوّق في صراعاته على الجنوب لاعتبارات عديدة منها دينية ومذهبية وجهوية، سنتطرق لها لاحقاً في سياق الورقة.
وحدة على طريق النهاية
في 22 مايو عام 1990، توصل الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني لدولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حينها علي سالم البيض، مع الرئيس علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية العربية اليمنية، إلى اتفاق إقامة وحدة اندماجية بين الدولتين، وهو ما تم التوقيع عليه في العاصمة عدن آنذاك، والذي اعتبر الكثير من السياسيين اليمنيين على الجانبين الشمالي والجنوبي الاتفاق؛ مفاجأة سريعة غير متوقعة.
إذ تمثلت أبرز الادعاءات بذهاب الجنوبيين للوحدة لأسباب تتعلق بانهيار الاتحاد السوفيتي، الداعم للاقتصاد الجنوبي، وهذا الأمر وحده غير دقيق، فالشريك الشمالي كانت له مطامع لإقامة وحدة مع الجنوب، "نظراً للتطور الاقتصادي الملحوظ في البنية التحتية والمجالات الإنتاجية كافة؛ الزراعية والصناعية والتجارية. وحدث هذا التطور بفعل الدعم السوفياتي الاشتراكي، الذي كان على شكل معونات وامتيازات واستشارات وخبرات، وكذلك بفعل تركز الثروة في الجنوب. إذ مثلت هذه المستجدات دافعاً إضافياً لتوجه الشمال في السعي للوحدة مع الجنوب". (8)
كما أن دولة الجنوب "حققت جوانب كثيرة من الأمن، والعدالة الاجتماعية، وبناء الانسان، ومعهما توفير فرص العمل لكل القادرين عليه، وفتحت فرص التأهيل والتدريب والتعليم من الابتدائي حتى الجامعي مجاناً، وانشأت نظاماً متكاملا للتعليم الفني والتقني؛ وهو ما كان يسمى "البوليتكنيك"، واهتمت بالثقافة والفن والرياضة والشباب وبناء المعرفة، وكفلت للمرأة حقوقها الاجتماعية والمدنية والسياسية كاملة، وكان قانون الأسرة مثالاً للتقدم الاجتماعي على هذا الطريق. وكفل القانون الترقي الوظيفي حسب المؤهلات لكل المواطنين دون تمييز، وأقامت نظاماً صحياً شمل كل المواطنين. بالإضافة لإنشائها شبكة طرقات حديثة على طول وعرض البلاد بمساحات واسعة، وإقامتها للجسور والسدود لخزن المياه وتوزيعها للأراضي الزراعية، وتوفير مياه الشرب النقية والكهرباء وخدمات البريد والاتصالات. وانشأت نظام للتجارة الداخلية، وطورت ميناء عدن تطويراً شاملاً، ووفرت الخدمات الساحلية للصيادين، وانشأت المطارات المدنية في حضرموت والمهرة وشبوة إلى جانب تطوير مطار عدن، وأخذت تتدرج في بناء مساكن للمواطنين (9)". كل هذه الأسباب وما سبقها، كانت دوافعاً مهمة لتحقيق الوحدة مع الجنوب.
وعلى ضوء قيام وحدة 1990، تم تشكيل مجلس رئاسي حسب اتفاقية الوحدة التي نصت على أن يتم انتخاب رئيس ونائب للرئيس عبر جلسة برلمان مشتركة بين الشمال والجنوب. وبالفعل تم انتخاب علي عبد الله صالح رئيساً للمجلس، وعلي سالم البيض نائباً. غير أن الانقسام بدى واضحاً على مستويات عدة منها الميزانيات المالية وبعض القرارات المستقلة، فضلاً عن بقاء القوات المسلحة والأمن والعملات الرسمية في كيانين منفصلين هيكلياً.
وخلال تلك الفترة، حدثت صدامات وتوترات بين الطرفين، ما سمح لعلي عبد الله صالح بأن يعيد تحالفاته مع القوى القبلية والدينية متمثلة في حزب التجمع اليمني للإصلاح – فرع الإخوان المسلمين في اليمن، ليكونوا ثقلاً موازناً للحزب الاشتراكي، وليكونوا رديفاً لحزب المؤتمر الذي يتزعمه علي عبد الله صالح، في ظاهره معارضة، لكنه شكل في باطنه كتلة واحدة؛ حسب مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر عن تأسيس الحزب (10). كما أنّ القوى الدينية الشمالية لم تكن منسجمة مع فكرة الوحدة اليمنية، إذ كانت ترى اليمن الجنوبي ماركسي وامتدادا للاتحاد السوفيتي. إلى أن بدأ منسوب التوتر يعلو حد البدء في سلسلة اغتيالات لكوادر سياسية وعسكرية جنوبية وصلت لـ 158 حالة اغتيال؛ ما بين عامي 1991 و1993 (11)، اتهمت بارتكابها بعض العناصر الجهادية؛ خاصة وأن تلك الفترة شهدت عودة مجاميع من الجهاديين العائدين إلى اليمن من أفغانستان. غير أنها لم تكن الجهة الوحيدة المتورطة بتلك التصفيات، إذ أن تعقيدات الفترة الانتقالية جعلت من الصعوبة تحديد الجهات الضالعة في تلك الأعمال. (12)
جاءت الانتخابات البرلمانية عام 1993، في ظل أجواء متوترة تبادلت فيها الأطراف الاتهامات بالتزوير والتلاعب بالنتائج بين الأحزاب المتنافسة، على اعتبار أنّ هناك تعاون بين حزب المؤتمر وحزب الإصلاح ضد الحزب الاشتراكي اليمني، بسبب تقلص عدد النواب الاشتراكيين في البرلمان مقابل عدد نواب المؤتمر الذين استحوذوا على أكثرية المقاعد، يليهم حزب الإصلاح ثم الاشتراكي.
وإثر تصاعد الخلافات والفشل في حل الأزمة السياسية واعتكاف عدد من قادة الاشتراكي من بينهم نائب الرئيس علي سالم البيض في عدن، بعد ذلك؛ انتهت الأزمة، مؤقتا، بالتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق في يناير 1994، لكن سرعان ما بدأت الصدامات من جديد خلال الأشهر الأولى من التوقيع، إلى أن تطورت للدخول في حرب عسكرية بين القوات الشمالية والجنوبية، كانت أولى شرارتها في 28 إبريل/نيسان 1994، وأحد أهم شعاراتها التي رُفعت من جانب القوات الشمالية (الوحدة أو الموت)، بعد خطاب ناري ألقاه الرئيس علي عبدالله صالح في ميدان السبعين، وأبدى فيه استعداده بسخاء غريب تقديم مليون شهيد حفاظاً على الوحدة، وهاجم بضراوة من أسماهم "دعاة الانفصال" (13). استعان صالح في الحرب، إلى جانب حليفه حزب الإصلاح – فرع الإخوان المسلمين في اليمن، بالعناصر الجهادية، واعتبروها حرباً مقدسة بين مسلمين وكفار، وأفتى عضو حزب الإصلاح ورجل الدين عبد الوهاب الديلمي، بقتل المدنيين والنساء والأطفال في الجنوب، واستباح دماءهم وأموالهم (14). وقد أثارت الفتوى ردود فعل محلية وعربية عريضة واستنكرها عدد من العلماء المسلمين؛ من بينهم محمد سيد طنطاوي مفتي الديار المصرية، الذي قال: "إن الفتوى تشعل نار الحرب وتساهم في قتل الأبرياء مع أن الإسلام ينهي عن قتل المسلم تحت أي ظرف من الظروف" (14). بالإضافة لاستنكارها من قبل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز بقوله: " إن من أفتى بها ليس أهلاً للفتوى".
كان لهذه الحرب مزيج متداخل ومتشابك من الآثار والتداعيات الكارثية المعقدة والمركبة على دولة الوحدة، ووقعها كان أشد على محافظات الجنوب، مما أدى إلى ميلاد القضية الجنوبية (15). ثم انطلاق الحراك الجنوبي الحاضن والمعبر عن القضية في 7 يوليو 2007، عبر جمعيات المتقاعدين العسكريين الجنوبيين، وقبله ظهور حركات ومكونات منذ 1994، للتعبير عن سوء مآلات الوضع والآثار والنتائج التي خلفتها الحرب، والنمط الجديد الذي أديرت به البلاد بعد ذلك في ظل الحزب الواحد الحاكم لأكثر من ثلاثين عاماً، رغم وجود التعددية السياسية ظاهرياً.
ثانياً: تأثير الواقع السياسي على الجنوب
إن الإقصاء والتهميش الذي تعرض له شريك الوحدة السياسية واخراجه من معادلة الحكم، وما نتجت عنه حرب 1994، من تبعات وآثار مدمرة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك؛ فرض واقعاً سياسياً جديداً. وقد بدأ الرفض الجنوبي لهذا الواقع بعدة حركات وفصائل جنوبية، من بينها؛ حركة موج، وتيار إصلاح مسار الوحدة في الحزب الاشتراكي، وحركة حتم، التكتل الوطني، ثم اللجان الشعبية، وملتقى أبناء محافظات الجنوب، وتيار المستقلين، ثم حركة تاج، وأخيراً جمعيات المتقاعدين العسكريين والمدنيين. حتى توّج كل ذلك بالحراك الوطني السلمي الجنوبي الذي انخرط فيه الشعب بكامل فئاته المجتمعية، وذابت فيه كل هذه المكونات بما في ذلك أغلب المنحدرين من الجنوب في الأحزاب اليمنية. وقد شكلّت حركة التسامح والتصالح التي انطلقت من جمعية ردفان الخيرية الأرضية الخصبة والمناسبة لذلك (16). بالإضافة إلى توسع نشاط مكونات الحراك وفصائله وفعالياته داخل جنوب اليمن وخارجه، كان أهمها المجلس الأعلى للحراك السلمي لتحرير واستقلال الجنوب، والمجلس الأعلى للثورة السلمية وغيرها من المكونات الأخرى. إذ أدى كل مكون منها وظيفة تصب في مصلحة قضية الجنوب.
جسّد التكاتف والتماسك الجنوبي في الفترة منذ 2007 حتى الحرب الأهلية الأخيرة في اليمن 2015، صورة حقيقية للتعاون في مواجهة الأزمة المعقدة والشائكة التي مر بها الجنوب. رغم محاولة الضغط على قياداته من قبل الحكومة اليمنية إبان حكم الرئيس صالح، من خلال الاعتقالات التعسفية والتعذيب، وضرب المتظاهرين بالرصاص الحي وقتل المئات من الجنوبيين العزّل في الاحتجاجات الشعبية، التي بدأت بالمطالبة بتعديل مسار الوحدة. بيد أنّ الرد القاسي والعنيف من قبل النظام، صعّدها للمطالبة بدعوات الاستقلال واستعادة الدولة الجنوبية السابقة إلى حدود ما قبل 1990، المعروفة بـ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
برزت محاولات متكررة لتأجيج الخلافات بين الجنوبيين من خلال الإعلام الرسمي الحكومي، واتهامات لقادة الحراك الجنوبي بانتماءات خارجية، كما برز استحضار الصراع المسلح في 13 يناير 1986، بين أجنحة الحزب الاشتراكي في كل مناسبة رسمية. إذ كان الهدف من تسليط الضوء عليها إفشال أي توافق أو تقارب جنوبي، وعلى وجه الخصوص "عملية التصالح والتسامح"، التي تمت في 13 يناير من عام 2006، لتكوّن الأرضية الصلبة وعامل الثقة الذي يرتكز عليه الحراك الجنوبي. على سبيل المثال، يقول أحد المساهمين في تأسيس مشروع التصالح والتسامح، أحمد عمر بن فريد، عن ذلك: "عقب الاجتماع بجمعية ردفان في 2006 التي رعت فعالية التصالح والتسامح، قامت السلطة بتشميع الجمعية، وحدث هجوم إعلامي رسمي ضد مشروع التصالح والتسامح، وهي ظاهرة غريبة جداً لكنّهم فعلوا ذلك لأنهم يدُركون أنّ هذا المشروع خطير في بعده الوطني وما يمثله من أرضية لانطلاق تهديد لأهدافهم ومطامعهم". (16)
وجد الجنوبيون، أنه من الضروري تأسيس حراكاً سلمياً قوياً، يطوي معه صفحة الماضي التي كانت أحد أسباب اندفاع قادة النظام الاشتراكي نحو "وحدة غير محسوبة"، سهلّت للنظام اليمني في صنعاء، اجتياح الدولة التقدّمية الفريدة في جنوب الجزيرة العربية بالقوة العسكرية في عام 1994، مستغلاً الخلاف الذي كان حديثاً بين نخبها السياسية آنذاك، وطرد حكّامها إلى المنفى، ومضى بتفكيك مؤسسات الدولة والسيطرة عليها بشكلٍ كامل. (17)
في فبراير 2011، وبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية ضمن ثورات الربيع العربي، أعلنت بعض القوى الجنوبية انضمامها لخيار الثورة، بما فيها بعض فصائل الحراك التي اعتبرت الثورة امتدادًا متطورًا لنضالهم. مع تباين اتضح لاحقًا بين هذه القوى، في مدى اندفاعها خلف خيار الثورة، بين من اعتبرها خيارًا استراتيجيًّا للتغيير وإصلاح الأوضاع، كالأحزاب السياسية والقوى السياسية الأخرى الموجودة في الشمال، وتلك التي نظرت إليها كخيار تكتيكي مرحلي لإسقاط النظام أو إضعافه بما يسهل تحقيق هدفها لاحقًا (18). غير أن انضمام الجنرال علي محسن الأحمر للثورة (19)؛ مع عدد من القادة العسكريين، وتصدر حزب الإصلاح اليمني مشهد ساحات الثورة، جعل من الأصوات الجنوبية الداعمة للثورة اليمنية أن تتراجع وتنسحب، مقابل ارتفاع أصواتها وعودتها إلى ساحات الحراك الجنوبي، مستقلةً تماماً عن ساحات ثورة 2011، حيث اعتبرت أن علي محسن الأحمر الرجل الثاني بعد صالح في البلاد، وهو من قاد حرب 1994 على الجنوب، بالإضافة للعداء التاريخي بين معظم الجنوبيين وحزب الإصلاح الذين كانوا أعضاؤه حلفاء صالح الرئيسيين في حرب 1994، إلى جانب الأحمر والعناصر الجهادية.
محطات بين الاختلاف والتوافق
كانت أبرز التحديات التي تواجه القضية الجنوبية بعد 2007، هو عدم وجود حامل سياسي بارز يمثل مختلف المكونات الجنوبية بالتوافق، لتقديم القضية العادلة أمام الجهات الدولية المهتمة بالشأن اليمني. وهي حالة طبيعية نشأت مع الوقت؛ في ظل محاولات نظام علي عبد الله صالح ضرب الحراك من الداخل، فضلاً عن محاولاته الفاشلة لاستقطاب قيادات الحراك بالمال، بالإضافة للخلافات التي نشأت بعد ذلك حول الزعامة والتمثيل والأحقية بالأقدمية، أو حتى بعض الخلافات في إطار الأسس النظرية للقضية الجنوبية، التي يؤصّلها البعض بقضية ذات جذور تاريخية تعود لما بعد 1967، بينما يعتبرها البعض الآخر بأنها نشأت نتيجة عن حرب صيف 1994.
غير ذلك، عانت مكونات الحراك الجنوبي من عزلة إقليمية ودولية من حيث عدم التفاعل معها أو التعامل مع قياداتها، كما ظل الحيّز الإعلامي مغلقاً في وجهها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي أيضاً، سوى عن بعض التغطيات الخجولة من وقت لآخر عندما تمادت سلطات صنعاء في قمع الحراك، غير أن ذلك لم يكن كافياً أو منصفاً بالنسبة للجنوبيين. ومن أجل كسر التعتيم الإعلامي؛ أطلقوا قناة فضائية من لندن في 11 فبراير 2009 تحت مسمى "عدن „ بجهود وتمويل ذاتي من بعض أبناء الجنوب في الخارج، الأمر الذي لم يستحسنه نظام صالح، واستطاع السطو على نفس تردد القناة، وقام بتغييرها إلى مسمى "يمانية". وبعد جهود حثيثة متواصلة بذلها مسؤولو القناة؛ تمكنوا في 27 مايو 2010، من إطلاق قناة "عدن لايف" بإمكانيات أفضل، وغطت معظم الفعاليات الاحتجاجية في الجنوب. (20)
في مقابل ذلك، كانت الثورة اليمنية في 2011؛ تحظى بدعم وتغطية إعلامية على المستويات الإقليمية والدولية، نتيجة ارتباط سياقاتها بثورات دول المنطقة مثل تونس ومصر وليبيا، التي حظيت هي الأخرى باهتمام دولي كبير، كلحظة تاريخية فارقة ومهمة في منطقة الشرق الأوسط، والعالم ككل. بيد أن ذلك لم يشفع للثورة في اليمن أو مثيلاتها في الدول العربية، على أن تحظى بقيادة موحدة تجمعها أو تمثل حركتها، إذ كانت متشظية ومنقسمة على نفسها. وقد كانت المكونات اليمنية تتصارع فيما بينها البين في الساحات؛ على مستوى التمثيل والزعامة والمنصات، ما يعني أن تلك الحالة التي خلقتها الظروف اللحظية، لم تكن حصراً على الحراك الجنوبي، الذي تستشهد بتعدد فصائله وخلافاته النخب الشمالية في كل مناسبة أو بدون.
غير ذلك، كانت المكونات اليمنية المتعددة والمنقسمة على نفسها؛ تتحرك بدعم من الممولين الخارجيين، إذ كانوا يمارسون نفوذاً كبيراً عليهم من حيث فرض الأجندات السياسية والإنسانية المرتبطة بالثورة. فعلى سبيل المثال؛ تحولت توكل كرمان، وهي أحد أهم نشطاء الثورة اليمنية في 2011؛ وعضو في حزب الإصلاح اليمني، وحصلت لاحقاً على جائزة نوبل للسلام، تحولت من شخص يعاني من أزمات مالية في 2010، إلى مليونيرة تدير مؤسسات تنفق ملايين الدولارات بتمويل قطري (21). إذ أصبحت بعد الثورة تدير شبكة واسعة من الناشطين اليمنيين الفقراء في أكثر من دولة. وأحد الأدلة التي تثبت أيضاً دعم قطر لمكونات الثورة في اليمن، المكالمة الهاتفية المسربة بين ضابط المخابرات القطري "ناصر المري"، وهو يطلب من حسين الأحمر، أحد أبناء الشيخ القبلي المعروف عبد الله بن حسين الأحمر، وأحد الذين انضموا للثورة اليمنية لاحقاً، يطلب منه التحرك لإفشال المبادرة الخليجية التي جاءت من أجل حل الأزمة في اليمن (22)؛ وصوّر حسين الأحمر للقطريين خلال المكالمة أنه يسيطر على ساحات الثورة.
وبالحديث عن المبادرة الخليجية، فهي لم تكن رهان مرضي بالنسبة للكثير من قوى الحراك الجنوبي، إذ أنها لم تذكر القضية الجنوبية والحراك الجنوبي سوى في فقرتين: الأولى، تحت بند مؤتمر الحوار الوطني. والثانية، في الوقوف أمام القضية الجنوبية بما يفضي لحل وطني عادل يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه (23). بمعنى أنها حصرت حل القضية الجنوبية تحت سقف الوحدة، الذي يرى الكثير من الجنوبيين أن الأساس الذي قامت عليه غير سليم، وانتهت مشروعيته باندلاع حرب 1994 على الجنوب. وكان تبرير الرفض أيضاً؛ أن قضية الجنوب يفترض أن يتحاور على أساسها (طرفين سياسيين)، وليس مجموعة أطراف، وما يمثله الحوار الوطني لم يكن مناسباً لهذه الخصوصية. وهو الأمر الذي عبّرت عنه معظم قوى الحراك الجنوبي لاحقاً بأنها غير معنية بالحوار الوطني، الذي بدأت أولى جلساته في 13 مارس 2013، واستمرت لمدة عشرة أشهر؛ حتى 25 يناير 2014. إذ شاركت قيادات جنوبية محدودة العدد؛ من بينها القيادي محمد علي أحمد، الذي انسحب لاحقاً من المؤتمر بشكل كلي، احتجاجاً على قيام رئاسة المؤتمر "بخلق انشقاقات داخل مكون الحراك الجنوبي المشارك في الحوار"، على حد قوله. (24)
على هذه الخلفية، يمكن القول، أن محاولة إبراز الخلافات الجنوبية – الجنوبية باستمرار، من قبل النخبة في شمال اليمن، واستدعائها أمام الإعلام المحلي والإقليمي والدولي، وفي ذات الوقت؛ التغاضي عن الخلافات الشمالية – الشمالية المتجذرة؛ بما فيها قضية صعدة وحروبها الست التي تطورت لاحقاً لانقلاب على السلطة في سبتمبر 2014. أو تجاهل مظلومية أبناء تهامة؛ وغيرها من القضايا، كان يوحي إلى تعمد واضح في إبهات الصوت الجنوبي، وهو رديف للقمع الذي كان يمارسه نظام صالح في بدايات انطلاقته، ولكن على هيئة أخف، كما يراه جنوبيون، مما ألغى معه أي فرصة محتملة للتغيير. لولا انتباه القلة من الشماليين على أهمية عدم تجاهل القضية الجنوبية والحراك الجنوبي الذي عدّ وليدها الأساس، وإعطاء القضية حقها من التفسير الواضح لمن لا يدركها، أو مواجهة من يحاولون تشويهها وحرف مسارها.
وهو الأمر ذاته بالنسبة للمجتمع الدولي، الذي يتم تأطير الجنوبيين فيه بصورة صراع لا منتهية، إذ تعيق هذه المقاربة الملتبسة التعامل مع الجنوبيين في أشد الملفات حساسية في اليمن (قضية الجنوب)، لقاء تصدير رؤى وأفكار غير دقيقة، تمارسها العديد من النخب الشمالية عبر مراكزها البحثية أو إعلامها أو عبر المؤثرين المنحازين على منصات التواصل الاجتماعي. خاصة تلك التي تتعارض مصالحها السياسية والاستراتيجية مع مصالح الجنوبيين؛ الذين يطالبون باستعادة دولة الجنوب إلى ما قبل حدود 1990. هذه الرؤى تلتقطها جهات أجنبية أو خبراء غربيين على أنها حقائق مطلقة ومصادر قطعية يمكن الاعتماد عليها؛ على الرغم من عدم دقتها. إذ أثبت الجنوبيون أن هناك محطات توافق عديدة فيما بينهم البين، بغض النظر عن الخلافات في الماضي أو الحالية التي خلقتها ظروف الحرب، الذي لا تخلو منه أي مرحلة من مراحل تاريخ اليمن الحديث على مستوى الشمال والجنوب، بيد أن أولى محطات التكاتف والتوافق الجنوبي كانت إبان انطلاق الحراك الجنوبي والعمل بشكل متوازٍ بين مكونات الداخل والخارج على السواء في خط واحد وانسيابي، معبراً عن وحدة الهدف والمصير، وإن اختلفت وسائله. وإن لم يكن هناك كيان واحد يوحّدهم.
كما يشترك الجنوبيون في منظورهم عن الخطورة التي يمكن أن يشكلها وجود الجماعات "الإرهابية" في اليمن، والذين يؤكدون من خلاله دوماً أن الجنوب بيئة طاردة للقاعدة وداعش وأي جماعات دينية قائمة على العنف. خاصة وأن أغلب ما يزيد عن 70% من عناصر تنظيم القاعدة في اليمن؛ هم من جنسيات عربية وأوروبية وأخرى (25). ويرى الجنوبيون أنهم أكثر من أثبت جدية في محاربة القاعدة، حتى أولئك الذين كانوا ينتمون للحكومة اليمنية السابقة قبل "الانقلاب" الحوثي على الدولة في 2014. على سبيل المثال: قاد اللواء الركن سالم علي قطن، قائد المنطقة العسكرية الجنوبية، حرباً ناجحة ضد تنظيم القاعدة في 2012، مما دفع مسلحيها إلى الفرار من معاقلهم في محافظتي أبين وشبوة، خصوصاً زنجبار عاصمة محافظة أبين ومدينة جعار المجاورة، وهو الأمر الذي إلى أفقده حياته أثناء تعرضه لتفجير انتحاري في عدن، نفذه انتحاري صومالي من أعضاء التنظيم (26). كما قاد اللواء محمود الصبيحي، قائد المنطقة العسكرية الرابعة، حملة ناجحة أخرى ضد تنظيم القاعدة في مديرية المحفد بمحافظة أبين في 2014، وتعرض لأكثر من محاولة اغتيال على إثرها (27). وكلا القائدان العسكريان ينتميان لمحافظات جنوبية.
وعلى صعيد التوافق والاختلاف، يرى جنوبيون " أن الكل متفق على أن الجنوب اُحتل ونُهب واُضطهد وشُردت كفاءاته وهُمشت؛ وشُوه تاريخه وجُهّلت أجياله وأفُقر وحُرم من كل حقوقه الإنسانية، كما أن الغالبية تتفق على حق الشعب الجنوبي باستعادة دولته وهويته وتاريخه ومكانته بين الشعوب ومؤسساته، لكن الجميع يتخوف من الجميع سيما السياسيون. وعلى ذلك يمكن القول بأن أهم الأدوات التي يجب التركيز عليها لضمان تقارب أكبر بين الجنوبيين وتحقيق مصالح مشتركة أكبر، تبدأ ببناء مؤسسات الدولة وتزويدها بالكفاءات الوطنية ذات الخبرة والرؤية والقدرة على الإنجاز. (28)
كما يرى آخرون أنه "على الرغم من حجم الضرر الذي لحق بالجنوب طوال السنوات الماضية، جعل من نقاط التوافق في أن تكون الأقوى والأكثر حضوراً، وذلك نتيجة طبيعية للاستحقاقات السياسية والاقتصادية التي ينتظرها أبناء الجنوب في المرحلة المقبلة، ونتيجة حتمية لحجم المؤامرة والخذلان والغدر الذي تعرضوا له في الماضي؛ عندما فكروا وبشكل عاطفي التمسك بمشاريع قومية وإن كان على حساب هويتهم الأصلية". (29)
مكونات ما بعد الحرب في اليمن 2015
نشأت العديد من المكونات السياسية بعد الحرب الأخيرة في اليمن 2015، على مستوى الشمال والجنوب، فبعد انقلاب الحوثيين في 21 سبتمبر 2014 على الدولة، ومواصلتهم الهجمات للسيطرة على مناطق في الجنوب بعد سقوط مناطق عدة في شمال اليمن، وبعد قيام عاصفة الحزم في 25 مارس 2015.
أوجدت معارك التحرير في العاصمة عدن ومحافظات الجنوب واقعاً جديداً، وأفرزت معها قيادات ميدانية من أنصار الحراك الجنوبي وبعض المنتمين للجماعات السلفية إلى جانب مجاميع مدنية مختلفة؛ للقتال في صف واحد ضد ما أطلقوا عليه "الاحتلال الثاني" للجنوب، بعد حرب 1994. وقد شكل انضمام قوى الحراك الجنوبي مكسباً سياسيا مهما لحكومة هادي، أمام المجتمع الدولي لإقناعه بقدرتها السياسية على استيعاب جميع الفرقاء السياسيين وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية.
غير أن واقع القوى العسكرية وديناميتها في غالبية المناطق الجنوبية بدأت تتغير، وهو الأمر الذي خلق معه دورات من الأحداث المتتالية، مما مكّن بعض القوى الجنوبية لاحقاً من تشكيل أهم مكوّن سياسي نشأ بعد الحرب ممثلاً بـ (المجلس الانتقالي الجنوبي)، الساعي لاستقلال جنوب اليمن، حسب ما أعلن في أدبياته، ويرأسه عيدروس الزبيدي. إذ يشكل الانتقالي الجنوبي عامل قوة مهم في ميزان القوى على الأرض، ومن الصعب تجاوز حضوره السياسي والعسكري كطرف أساس في معادلة الحرب اليمنية. وتستند قوته الرئيسية الأكبر على القاعدة الشعبية الواسعة التي يحظى بها في محافظات الجنوب، وهي ميزة مكّنته في أن يكون واحداً من أفضل المكونات السياسية على المستوى التنظيمي والإداري في الداخل والخارج. إضافة لسيطرته على جغرافية واسعة في جنوب اليمن، منها العاصمة عدن وحضرموت الساحل وسقطرى وأجزاء من شبوة وأبين وكامل محافظتي الضالع ولحج. (30)
علاوةً على ذلك، فالمجلس الانتقالي الجنوبي، كيان سياسي يمثّل مطالب قطاع واسع من الجماهير الجنوبية التي كانت بداية حركتها في 2007، ممثلة بالحراك الجنوبي. وعلى الرغم من أنّ الحراك الجنوبي ينضوي تحت مظلته عدد من المكونات الجنوبية الأخرى، بيد أن الانتقالي الجنوبي امتلك القاعدة الشعبية الأوسع والأكثر قبولاً وتفاعلاً مع القضية السياسية بعد الحرب، نظراً لوضوح رؤيته وأهدافه، بالإضافة إلى القوة العسكرية التي يمتلكها؛ ممثلة بالأحزمة الأمنية في عدن ولحج وأبين، والنخبتين في حضرموت وشبوة. والتي أثبتت نجاحها في حفظ الأمن والاستقرار؛ في الأماكن الواقعة تحت نفوذها. على سبيل المثال: أشاد تقرير فريق الخبراء الدوليين عام 2019، بدور قوات الحزام الأمني والنخبتين الشبوانية والحضرمية في مكافحة الإرهاب، واصفاً إياها «بأنشط القوات في مكافحة تنظيم القاعدة وداعش في شبه الجزيرة العربية (31)». وهذه ميزة أخرى تعزّز من موقف الانتقالي الجنوبي الذي يحاول فرض سلطة أمنية قوية؛ ساعياً بذلك لتحييد الجنوب عن الفوضى والصراع - حسب ما يعلنه باستمرار-.
يمكن القول أنّ تنوع الأطياف السياسية تحت مظلة الانتقالي الجنوبي، من قادة الأحزاب اليمنية كالاشتراكي والرابطة والمؤتمر، وغيرها من الشخصيات الاجتماعية والقبلية في الجنوب، ميزة تُحسب للانتقالي الجنوبي، وهي حقيقة تضعف دعاوى عدم قبوله للتنوع. في المقابل، يرى بعض الجنوبيين أن الانتقالي الجنوبي ليس الممثل الوحيد للجنوب، وإن كان يتصدر المشهد السياسي أو يتعرض للضغوطات وحده. إذ يعتبرون أن "محاولة المجلس الانتقالي الجنوبي احتكار تمثيل الجنوب عبر فصيل سياسي بعينه، هو عين المشكلة التي أوصلت الجنوب منذ تأسيسه للاحتراب وعدم الاستقرار، وأن الجنوب وطن للجميع وليس من حق أحد فرض خيار سياسي على البقية"(32). ويرى جنوبيون آخرون، "أن الانتقالي مكوّن مقبول شعبياً، مقارنة بالمكونات التي نشأت لظروف لحظية، بالإشارة لـ الائتلاف الوطني الجنوبي، إذ نشأ أثناء فترة محاصصة سياسية بعد التوتر السياسي الذي حصل في أواخر يناير 2018 في العاصمة المؤقتة عدن، بين حكومة بن دغر والمجلس الانتقالي الجنوبي، إذ كان الائتلاف يتوقع إقالة بن دغر من رئاسة الحكومة، في ظل فشلها المستمر وتعثر أدائها، لضمان حجز مقاعد في أي تشكيل يتكوّن من نصيب الجنوب في الحكومة الجديدة". (33)
فيما يتعلق بوضع المكونات الجنوبية، قد يبدو أن طريقة التشكيل والنشأة لا تشكل أهمية؛ بالقدر الذي تشكّله أهمية الأداء والتأثير الذي تحدثه، سواء على مستوى الداخل أو الخارج، إذ أن القدرة والتأثير داخلياً يتحقق بتوفير المصالح للمجتمع، وفي مقدمتها توفير الخدمات الأساسية التي تمكّن المجتمع في الجنوب من أداء وظائفه، بالإضافة إلى حفظ الأمن والاستقرار. فهذا التأثير هو من يفرض الحضور الشعبي لهذا المكون أو ذاك تلقائياً. أما التأثير الخارجي، يتحقق بالقدرة على التخاطب مع المجتمعين الإقليمي والدولي بأسس قائمة على الدبلوماسية والذكاء وحسن العرض؛ للمصالح التي يمكن لقادة الجنوب تحقيقها للخارج حال استعادتهم لدولتهم، وإن أخذنا تقديرياً مطالب النسبة الأعلى في الجنوب لهذا الحل.
ثالثاً: المجتمع في الجنوب
يشكل المجتمع في جنوب اليمن مزيج متنوع من الهويات المحلية والأفكار والثقافات، التي اكتسبها من حضاراته السابقة في جنوب شبه الجزيرة العربية. والمجتمع الجنوبي بطبيعة الحال، يعبر عن نفسه كما تعبر المجتمعات العربية الأخرى؛ بعاداته وتقاليده وأعرافه التي نشأ عليها واكتسبها، والتي تتغير أحياناً بتغير الظروف المحيطة به والعوامل المرتبطة بها؛ سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية وغيره.
وقد أسهمت سياسات الصهر القسري والتهميش الذي تعرض له الجنوب بعد الوحدة اليمنية عام 1990، وما صاحب تلك السياسات من استفراد بالسلطة وممارسات عنيفة، أسهم بإذابة الهوية الجنوبية وخصوصيتها، وغيب معها روح الانتماء لموروثاتها الاجتماعية والفكرية والثقافية. وهذا الأمر لم يقتصر على الفترة التي تلت الوحدة اليمنية فقط، بل بما سبقها؛ نظير الحالة السياسة العامة في العالم العربي مطلع خمسينيات القرن الماضي، والمد القومي الذي بلور معه واقع جديد في المنطقة، تأثر به الجنوب بمختلف أنظمته السياسية للحكم كما تأثرت به كثير من الدول العربية.
الهويات المحلية وتنوعها
ترتبط الهوية بمجمل السمات التي تميز الأشخاص والجماعات، كما ترتبط بنسق من الأحداث التاريخية التي بدورها تحدد الأدوار الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع. إذ أنه لن يتقدم مجتمع ما؛ إلا إذا وعى فيه الفرد بأهمية الذات والانتماء لهذه الهوية.
"ويعتبر تنوع الهويات المحلية في أي مجتمع، ميزة تساعده على التنافس لتحقيق أكبر قدر من النجاحات في مختلف الأصعدة، بالإضافة إلى أن التنوع الهوياتي يعد المدخل الرئيس للحد من العنصرية بكل أشكالها وأنواعها، إذ كلما تألف المجتمع من أعراق وأجناس وألوان وأديان وطوائف مختلفة أسهم ذلك في بناء أجيال أكثر نضجا وتقبلا للآخر". (34)
كما أن "الهويات المتنوعة في أي بلد، تعد عامل إثراء وتنوع، فتعدد اللهجات والعادات والمناخات الجغرافية والزراعية، كلها تعتبر جانب إيجابي إذا حضرت دولة تضمن العدالة والمساواة، أما الخلافات؛ فغالباً ما يكون سببها غياب العدالة وضعف مؤسسات الدولة التي تضمن الحقوق". (35)
في جنوب اليمن، تتميز كل محافظة بخصائص مختلفة عن الأخرى، لكن الشعور الجمعي بالانتماء للأرض والمصير الواحد المشترك؛ يبقى هو الرابط الأقوى. ولا يعني أن تنوع الهويات المحلية وخصائصها المختلفة، هو عامل يقود إلى نسبة أقل في التوافق، بل على العكس؛ إن هذا الأمر هو أكثر ما يميز البنية الداخلية لكل منطقة في الجنوب، إذ يجب مراعاة هذا التمايز والمحافظة عليه. خاصة وأن حل القضايا الوطنية وغيرها تكمن نتائجه في مساعي الأفراد، وهو ما يستوجب وجود هذا التنوع والاختلاف في الرؤى والأفكار، المبني على تنوع الخصائص الثقافية والاجتماعية في المجتمع الجنوبي؛ مما يترجم حلولاً تصب في صالح تلك القضايا، وقبل كل شيء لصالح المجتمع ككل.
إن الهويات والخصائص المحلية المتعددة في الجنوب والتي كسبها أبناؤه عبر التاريخ؛ كانت انعكاسا حقيقيا لما يتمتع به أبناء الجنوب من موروث ثقافي وتاريخي اكتسبوه نتيجة انفتاحهم على العالم، حيث اشتهروا بالتجارة والتنقل بين دول العالم، وعلى وجه الخصوص دول شرق آسيا. وبالتالي تأثروا وأثروا في الثقافات الأخرى (36). كما أن الميزة التي يمتلكها الجنوب منذ قرون هي التنوع العرقي والديني والفكري؛ وهي من صنعت معظم النجاحات التي تحققت في الجنوب؛ سواء على صعيد السلطنات والإمارات الجنوبية ما قبل الاستقلال وحتى ما بعده. (37)
وقد كانت العاصمة عدن أنموذجا حيا وواضحا لفكر التنوع العرقي والديني والفكري، فعرقيات مثل اليمنيين والحضارم والصومال والفرس والهنود والباكستانيين إلخ...، وأديان كالإسلام وهو السائد؛ ومعه اليهودية والمسيحية والبوذية والطوائف المختلفة لكثير من الأديان، بالإضافة إلى الأفكار السياسية والثقافية والدينية المختلفة، التي كونت نسيجاً متنوعاً ومتماسكاً في آن واحد استطاع يوماً ما بفضل القوانين السائدة والوعي المرتفع، أن يجعلها منافساً قوياً لأقدم دول التحضر والثقافة على مستوى المنطقة مثل مصر والعراق والجزائر وغيرها. (38)
وفي إطار التنوع اللغوي في الجنوب، فالمهرة وسقطرى على سبيل المثال، أكثر ما يميزهما إلى جانب الموقع الاستراتيجي والطبيعة الخلابة، هي اللغة السامية القديمة غير المكتوبة، "رغم أن أصل اللغة واحد بالنسبة لهما، لكن اللغة المهرية بدأت تشق طريقها في اتجاه والسقطرية في اتجاه مع مرور السنين والانعزال، لكن تبقى اللغتين تحت المظلة العامة التي تنتمي إلى اللغات العربية الجنوبية القديمة". (39)
بناءً على ما سبق، يمكن القول أن الترويج للانقسامات والصراعات المناطقية في الجنوب، القائمة على اختلافات سياسية بين النخب؛ وربطها بالبعد التاريخي والتنوع الاجتماعي والثقافي متعدد الخصائص؛ الذي يعتبر ميزة كما سبق وتم الإشارة إليه، وبصورة تقلل من منطقة عن الأخرى أو تستنقص من مكانتها، فيه خطورة بالغة عندما يتم تضليل الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي بهذه الصورة، التي تغذي الصراعات والأحقاد؛ وهو الأمر المقصود من ورائه إحداث انهيار مجتمعي مع الوقت ثم عدم استقرار.
كما ينبغي القول، أنّ الحديث عن الانقسامات الجنوبية بهذه الصورة المبالغ بها؛ دون النظر للصورة الشاملة لخلافات مجمل أطراف الازمة اليمنية وتعقيداتها؛ التي شكلت علاقة ارتباطية طردية؛ خاصة بعد اندلاع حرب 2015، والتي ظهرت بناءً على متغيرات عديدة، من بينها غياب الدولة، والتغذية المالية، والاستقطابات الخارجية وغيرها، وقياس هذه الانقسامات على جهة دون الأخرى؛ غير منطقي وغير عادل.
في كتابه الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، أشار آرنت ليبهارت، أنه "بعد حكم الدكتاتورية، تظهر الانقسامات العميقة بين قطاعات السكان وغياب الإجماع الموحد لها، كما ترتفع الأصوات التي تطالب بتحقيق التوازن والمساواة، وتتعلق تلك الإشكاليات والمطالب التي تنادي بها المكونات المجتمعية بشكل رئيس بالهوية وبشكل الدولة والمطالب السياسية والاقتصادية (40)". إذ يبدو هذا الأمر طبيعياً، ويحدث في اليمن الآن نتيجةً للنمط المركزي السابق في الحكم.
وعلى صعيد الرؤية الجنوبية بالنسبة للغالبية منهم؛ فهم يطرحون تصوراتهم عن الحل لقضية الجنوب وفقاً لما يرونه مناسباً لهم، على نحو مستقل عما تطرحه النخب الشمالية. وهذا الحل له علاقة بالتنوع الاجتماعي في الجنوب، إذ يفترض أن يضمن حل (دولة فيدرالية جنوبية)، الاستقلال الإداري لكل محافظة، بحيث تضمن ممارسة شؤونها بصورة قانونية تتعلق بخصوصيتها الاجتماعية والثقافية. وفي نفس الوقت يسمح للكيان الأكبر ممثلاً بدولة الجنوب أن يمارس صلاحياته وفقاً للمصالح المشتركة. وقد عبرت قيادات جنوبية كثيرة عن رؤيتها للحل في الأخذ بالنظام الفيدرالي سابقاً، وذلك ضمن سياق عدة خطابات تم بثها لكل من السيد علي سالم البيض، وعبد الرحمن الجفري في مهرجان أقيم بمدينة المكلا في 27 إبريل 2014 (41). بالإضافة إلى خطابات ألقاها رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، في أكثر من مناسبة، عن إقامة دولة فيدرالية جديدة بعد استقلال الجنوب، تحقق العدالة في توزيع السلطة والثروة والشراكة الوطنية في صناعة القرار. (42)
إن احتفاظ كل محافظة بهويتها الثقافية والاجتماعية، وما يتضمنه ذلك من عادات وأنماط سلوك وقيم، يشكل أهمية في السياق الذي يحفظ لكل محافظة خصوصيتها، على سبيل المثال: كانت هناك اعتراضات على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني التي أقرت الأقاليم، عندما قسّمت الجنوب إلى إقليمين، إقليم عدن وإقليم حضرموت. إذ أن التقسيم لم يراع البعد التاريخي لكل محافظة ومكانتها؛ عندما تم ضم بعض المحافظات الجنوبية الاستراتيجية إلى الإقليمين، كما أنه حصر المحافظات النفطية مع بعضها البعض، وترك المحافظات فقيرة الموارد وكثيرة السكان في إقليم منفصل، وهو الأمر الذي قد يمهد لصراعات في المستقبل إن تم الأخذ بهذا الشكل من النظام. لذا غلب الطرح على لسان كثير من القادة الجنوبيين، عن شكل الدولة المستقبلية في الجنوب بـ (النظام الفيدرالي) القائم على ست محافظات، وتضاف إليها جزيرة سقطرى محافظة سابعة، كحل عادل يحفظ لكل منطقة خصوصيتها وانتمائها، في إطار دولة واحدة.
على هذه الخلفية يمكن القول، أن الاستفادة من هذا التنوع والخصوصية الاجتماعية لن تتأتَى، إلا إذا بُنيت على عدة أسس "أولها دستور يمنح الحقوق الكاملة والشاملة لكل فئات المجتمع دون تمييز أو تحيز لفئة دون غيرها، بالإضافة إلى مؤسسات توعية حقيقية تستخدم منابر الدين والتربية والإعلام، لخدمة الفكرة وبناء الأجيال على أهميتها وقدرتها على خدمة الأفراد والجماعات داخل المجتمع، بالاستفادة من مهارات وقدرات ومواهب كل فئة من الفئات التي يتكون المجتمع منها، مع استخدام أمثلة حيوية في المجتمعات المتنوعة التي استطاعت من خلال تنوعها أن تتصدر مجتمعات ودول العالم". (43)
لذا، فإن المقاربة الأفضل التي تتمثل في الحالة الجنوبية، هو إيجاد رؤية حضارية جديدة تتعامل مع حقيقة التنوع على مختلف الأصعدة، وتوظيفها في سياق إثراء مفهوم التعايش والسلم المجتمعي والوحدة الوطنية بين كل منطقة وأخرى، ضمن إطار الكيان الكبير الجامع المتمثل بالدولة. فزمن إلغاء الخصوصيات الصغرى وصهرها ضمن خصوصية كبرى وبوسائل قهرية وقمعية، قد مضى. وهذه الرؤية الجديدة المبنية على تجارب الماضي في الجنوب، هي على الأرجح ما يسعى الجنوبيون العمل وفقها، عبر إيجاد أرضية مشتركة من شأنها إنشاء دولة فيدرالية مفترضة في المستقبل، تحفظ لكل منطقة خياراتها ومكانتها وأهميتها.
التكوين القبلي الجنوبي
ظهرت القبيلة في المجتمع الجنوبي والعربي بشكل عام قبل ظهور التكوينات القطرية الحديثة والحدود الجغرافية والسياسية، حيث كانت تمثل الكيان الجامع لكل مجموعة أو تجمع بشري متجانس يتزعمه شيخ قبلي، وقد لعبت القبيلة أدواراً مهمة عبر التاريخ كأحد جماعات الضغط المؤثرة على الأنظمة السياسية المتعاقبة في الجنوب بكافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما أن الحوكمة القبلية في الجنوب، أظهرت مدى أهميتها وجدواها في تأمين مناطقها وخفض تأثير الصراع على مجتمعاتها المحلية بعد قيام الحرب الأخيرة في اليمن 2015.
وبالنسبة للفترة التاريخية إبان الوجود البريطاني في الجنوب، كان طابع السياسة البريطانية المباشر مع القبائل طابع مرن، يعتمد على عقد المعاهدات والولاءات مع السلاطين والأمراء وزعماء القبائل، بالقدر الذي يتناسب ومكانة كل منهم، لكسب ود القبائل واستقطاب زعماءها. لكن على الرغم من ذلك، كان البريطانيون يعتمدون في سياستهم على مبدأ "فرق تسد" بين القبائل، لأنهم رأوا أن فائدة هذه السياسة كبيرة في تعميق الفجوة ونشر الخلافات بين القبائل، حتى لا يقوموا بتشكيل جبهة وطنية قوية موحدة تهدد وجودهم هناك.
أما فترة حكم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، فلم يكن للقبائل تأثير يذكر بالقدر الذي كان التأثير القبلي كبيراً في اليمن الشمالي، ومع ذلك فقد اسُتغلت القبائل الجنوبية من قبل النظام في المراحل الأولى للاستقلال، من أجل تثبيت سلطتها آنذاك (44). كما عمل النظام على تحجيم دورها وأفقدها جزء من كياناتها وسلطتها لمصلحة أجهزة الدولة ومؤسساتها. وهذا يبدو أتاح حالة من الاستقرار النسبي في المجتمع الجنوبي، وأحدث تقدماً نسبياً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. (45)
بعد الوحدة اليمنية عام 1990، عمل نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، لعقدين من الزمن على شراء ولاءات قبلية واسعة على مستوى المحافظات الجنوبية، بعد أن كان دورها خافتاً في دولة الجنوب السابقة؛ وهو ما أتى على حساب وحدة النسيج القبلي والمجتمعي كهدف من أهداف ضمان فرض سيطرة وهيمنة نظام الحكم الفردي، إضافة إلى ضمانه عدم الوقوف أمام جرائم الفساد التي كان يمارسها. إذ عمل نظام صالح على نشر الفوضى والجهل والصراعات وإحياء الثارات بين أبناء محافظات الجنوب المختلفة، وبين أبناء المحافظة الواحدة نفسها، للتشويش عليهم وإشغالهم عن متابعة شؤون محافظاتهم وتلبية احتياجاتهم، خاصة المحافظات النفطية، وإعاقة أي تغيير أو تقدم من شأنه النهوض بها. إذ كان يستفيد منها ويستنزف مقدراتها وثرواتها عبر استغلال رجال القبائل وإشراك بعضهم في عمليات النهب وتأمين المواقع النفطية والغازية لصالح سلطاته.
وعلى الرغم من محاولة نظام صنعاء تصدير ثقافة مغايرة في الجنوب، "إلا أن المجتمع القبلي كان يميل إلى حبه للسكينة وميله للنظام والقانون، نتيجة عوامل ثقافية واجتماعية كثيرة، فبالإضافة إلى الوازع الديني ودور المذهب الصوفي المسالم البعيد عن السياسة والتشدد الديني؛ فإن هناك عوامل أخرى من بينها احتكاك شعب الجنوب بالشعوب والثقافات الأخرى نتيجة الهجرات المتعددة؛ وتعرّفهم على الأنظمة في دول الاغتراب، ومحاولة تطبيقها في مناطقهم، وهذا الأمر ساعد الجنوبيين في القدرة على الفصل بين القبيلة كنظام اجتماعي تكافلي، وبين الدولة كنظام حكم". (46)
على سبيل المثال: "محافظة شبوة، رغم تركيبتها الاجتماعية والقبلية المعقدة؛ ورغم صراعاتها القبلية القديمة، إضافة للعوامل المذكورة سابقاً؛ عن محاولات نظام صنعاء العمل على تفتيت النسيج الاجتماعي وإثارة النعرات المناطقية والقبلية، غير أن الصراع في شبوة تحول اليوم إلى صراع بين (مشروعين)، مشروع جنوبي تحرري؛ ومشروع شمالي يستكمل ما بدأه النظام السابق من (احتلال)؛ كما يطلق عليه كثير من الجنوبيين. وأنه على الرغم من محاولة استدعاء المناطقية والعصبية القبلية نحو هذا الصراع، فهذه الدعوات لا تتجاوز المواقع الإلكترونية ومنصات وسائل التواصل والصحافة الصفراء، فالعلاقات الاجتماعية في شبوة وأواصر القربى بين القبائل هي الغالبة". (47)
على ضوء ما سبق، يمكن القول، أن تحقيق الاستقرار وتعزيز وحدة الصف الجنوبي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أهمية التكوين القبلي للمجتمع، لتحويل هذا العنصر الذي يشكل أساس المجتمع في الجنوب، إلى ميزة إيجابية تحقق الأهداف الوطنية المرجوة، وتقطع الطريق على المشاريع المناهضة للتماسك القبلي التي تسعى لاستغلال الفراغ القائم في العلاقة بين المكونات السياسية والقبلية؛ بهدف تحويل القبيلة إلى مؤثر سلبي على المشاريع الوطنية؛ خاصة الساعية لخلق وفاق واصطفاف جنوبي، وحرفها عن المشاركة الايجابية في تحقيق تطلعات وآمال الجنوبيين.
ويمكن العمل في هذا الإطار على عدة جوانب:
- العمل على تأمين المحافظات في الجنوب وحمايتها، وهو الدور الذي قامت به القبائل الجنوبية للحد من تأثير سيطرة الحوثيين عقب سقوط الدولة في 2014، إذ حافظت القبائل على تماسك مجتمعاتها المحلية وأدارت مناطقها بنفسها.
- دفع القبائل في الجنوب وتوعيتهم بخطورة الجماعات "الإرهابية"، وفي مقدمتها (تنظيمي القاعدة وداعش)، التي تتواجد في مناطق مثل أبين وشبوة، ومحافظات شمالية أخرى، والإبلاغ عن هذه الجماعات من أجل معاقبة كل من يتستر عليها أو يأويها أو يحميها.
- التنسيق مع المنظمات الدولية لتأمين القوافل الإغاثية ومرور المساعدات الخارجية والمشاركة في إيصالها للمستهدفين دون التقطع لها أو عرقلتها.
الهوية الدينية
الهوية الدينية هي نمط يتشكل على قاعدة الانتماء إلى معتقد ديني، يتمثل بطائفة دينية أو فرقة أو مذهب، إذ يعتبر الدين هو العامل الحاسم في بناء وتكوين هذا النوع من الهوية، وتتمدد علاقة الهوية الدينية بالدين من خلال النصوص المقدسة. (48)
في اليمن شمالاً وجنوباً، وعلى الرغم من أن الدين السائد هو الإسلام، إلا أنه لم يعرف الخلافات الدينية القائمة على المذهبية؛ إلا بعد الثورة الإسلامية في إيران التي سعت إلى تصدير ثورتها على الطريقة الخمينية المتشددة إلى الدول العربية؛ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. فشمال اليمن تشكل فيه الطائفة الزيدية نسبة كبيرة؛ إلى جانب نسبة أقل ممن يتبعون المذهب الشافعي، أما الجنوب فيتبع أهله المذهب الشافعي ككل، وعلى الرغم من ظهور هذه الفروقات والعصبيات المذهبية بصورة أخف نسبياً؛ إلا أنها لم تتبلور أو تظهر في صورتها الخطيرة؛ إلا بعد الربيع العربي الذي عصف بالمنطقة العربية عام 2011. وتطورت معه الانقسامات الطائفية إلى حد الاقتتال، وكان اليمن ممن تأثر بذلك.
بالنسبة للجنوب، وإن كانت مقومات الهوية فيها مبنية على تنوع ثقافي واجتماعي وعرقي ولغوي، غير أن مقومات الهوية الدينية كانت أعمق وأوثق في العلاقات؛ خاصة وأن الإسلام هو السائد كدين إلى جانب أديان أخرى بنسب أقل مثل: المسيحية والهندوسية في عدن واليهودية التي كانت في حبان شبوة؛ قبل اختفائها مع هجرة اليهود إلى فلسطين فيما عرف بعملية (بساط الريح) في 1948.
إذ أن التسامح والتعايش الديني في الجنوب قبل الاستعمار البريطاني وبعده، هو أكثر ما كان يميز الجنوبيين، حتى أن الصراعات البينية التي اندلعت بعد الاستقلال لاحقا، لم تكن دوافعها دينية، بل كانت لتفاوتات سياسية أو قبلية أحياناً. كما أنّ "الحضارمة قبل ذلك؛ بهجراتهم إلى جنوب شرق آسيا وجزر إفريقيا وغيرها، تركوا بصمات بارزة في نشر الدعوة الإسلامية السمحة والعمل في التجارة". (49)
ينبغي القول، أنّ التوافق الجنوبي كان على أساس القبول بهذا المزيج والتنوع الديني على أرضه، وبعد الحرب الأخيرة في اليمن 2015؛ كان على أساس واحدية الهوية الدينية السائدة، المتمثلة بالإسلام الشافعي؛ مقابل المد الشيعي (الإثنى عشري) (50) الذي تحوّل إليه الحوثيين على الجهة المقابلة. على الرغم من أن الجنوبيين في الأساس خاضوا حربهم دفاعاً عن أرضهم بعيداً عن الاعتبارات الدينية الطائفية التي اتخذتها جماعات وأحزاب دينية أخرى في مواجهة الحوثيين. بيد أنهم دخلوا في حربهم هذه مكرهين وإن كان البعض اعتبرها حرباً طائفية، فهي بالنسبة لهم بالمقام الأول وطنية ومصيرية، ولن يحل محل الولاء الوطني؛ ولاء للجماعة الدينية كما تفعل بقية الأطراف المتحاربة في اليمن على الجانبين؛ سواء من الحوثيين أو حزب الإصلاح اليمني- المنتمي إيديولوجياً لجماعة الإخوان المسلمين.
علاوةً على ذلك، لم يؤثر الصراع الذي أخذ بعداً طائفياً في شمال اليمن، على العلاقة بين ما يُعرفون بـ (السادة) (51) في الجنوب وبين غيرهم من الجنوبيين، إذ أن العلاقة استمرت فيما بينهم منسجمة ومتوافقة. ولم تنح إلى الشكل الذي وصل إليه الوضع في الشمال من تعصب وتمييز ضد غير المنتمين لما يعرف بالسادة أو (الهاشميين)، أو ضد الأقليات "كالبهائيين على سبيل المثال، الذين سلبوا حريتهم من قبل الحوثيين واعتقلوا بطريقة لا تراعي الأصول القانونية". (52)
الخاتمة
أظهرت الورقة من خلال ما تم التطرق له في المحاور الثلاث، أن ما يحدث من واقع متجدد في الجنوب؛ وما يربطه من مسارات في الماضي، سواء قبل الاستقلال من الاستعمار البريطاني في 1967، أو ما تلاه من قيام لدولة مستقلة موحدة في الجنوب لثلاثة عقود، وبعد ذلك من قيام وحدة سياسية بين دولتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عام 1990، وما يرتبط بهذه المسارات من أحداث تاريخية معاصرة؛ خاصة بعد حرب 1994؛ ونشوء الحراك الجنوبي وما تلاه من أحداث الربيع العربي 2011؛ الذي تأثرت به اليمن وكان أن سقطت بعده الدولة بصعود الحوثيين في 2014. كل هذه المسارات التاريخية والسياسية والاجتماعية المترابطة والمعقدة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن بقاء الوضع العام بالنسبة لليمن شمالاً وجنوباً، خاصة في وضع الحرب الحالي؛ دون أي تقدم على المستوى العسكري والسياسي في اليمن لما يقارب 7 سنوات، وحتى على مستوى إيقاف الحرب والبدء في عملية تسوية وسلام شامل بين فرقاء الأزمة، أثبتت أن ما وصلت إليه اليمن ينذر بمستوى خطير ومتقدم من الصراع، والذي إن لم يحسم بحل من قبل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، فإن عواقبه وتداعياته ستكون وخيمة على شمال وجنوب اليمن؛ وعلى مختلف فرقاء الأزمة بلا استثناء.
كما أنّ ملامح الواقع الجنوبي والمقاربات الحية للمسارات التاريخية والسياسية والاجتماعية؛ التي تم استعراضها في الدراسة بين ما كان وما هو كائن في الوقت الحاضر، والتي ظهرت أوجهها بالاختلاف تارة وبالتوافق تارة أخرى بين الجنوبيين، تشي بأنه بات من الضرورة تصحيح الوضع (الجنوبي الداخلي)، من خلال السعي لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، بدون أي مصلحة عدا مصلحة الجنوب لإخراجها من هذا الوضع المتأزم، وذلك عبر حوار جنوبي بيني. والذي على الأرجح؛ أن فعاليات هذا الحوار قد بدأت منذ لحظة كتابة الورقة، إذ وجه المجلس الانتقالي الجنوبي دعوة عبر لجنة حوار وطني جنوبي أعلنها في 28 شهر يونيو، لمختلف القوى الجنوبية بلا استثناء، سواء التي تدعم استقلال الجنوب أو لا تدعمه، وذلك للتوصل إلى صيغة عمل وقواسم مشتركة تحدد مستقبل جنوب اليمن في ظل التحديات التي يواجهها.
وتأسيساً على ما سبق، خرجت الدراسة بعدد من النتائج أهمها:
- إن عدم إيجاد حل نهائي للأزمة في بلد غارق بالحرب كاليمن بشماله وجنوبه؛ لما يقارب سبع سنوات، ينذر بمستوى متطور وخطير من الصراع.
- بالنظر للمسار التاريخي والسياسي، ثبت أن قيام حرب 1994 بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي، وما أفرزته من تداعيات خطيرة، أسقط معنى الوحدة السياسية بين الشريكين، وهو الوضع الذي ساهم باتساع رقعة المظالم إلى الحد الذي تطورت معه المطالبات بـ استقلال الجنوب، وعودتها إلى حدود ما قبل 1990.
- إن الصراع الجنوبي القائم على المناطقية، الذي تروّج له النخب في شمال اليمن، لا يوجد على مدى تاريخ الجنوب الحديث والمعاصر، إذ كانت الصراعات بين الجنوبيين سياسية وعلى مستوى السلطة فقط، ويتم استدعاء النعرات المناطقية فيها أحياناً.
- إن محطات التوافق السياسي الجنوبي عديدة راهناً؛ مقارنة بمحطات الاختلاف في الماضي، منها على سبيل المثال: الالتحام الجنوبي في الحراك الجنوبي 2007، والقتال في خندق واحد ضد الحوثيين 2015، ومحاربة التنظيمات "الإرهابية" مثل (القاعدة وداعش) التي يتواجد جزء منها في الجنوب، عبر القوات العسكرية الجنوبية.
- إن الهويات والخصائص المحلية المتعددة من اجتماعية وثقافية وغيرها، التي اكتسبها الجنوبيون عبر التاريخ، هي أكثر ما يميّز بنية الجنوب الداخلية، ومن الأهمية بمكان المحافظة عليها ومراعاتها.
- إن أكثر من اضطلع بدور حماية المجتمعات المحلية بعد سقوط الدولة بصعود الحوثيين في 2014، هي القبائل، إذ أنها حافظت على تماسك مناطقها من الانهيار وأدارتها بنفسها.
- إن التسامح والتعايش الديني في الجنوب قبل الاستعمار البريطاني وبعده، هو أكثر ما كان يميز الجنوبيين، إذ ثبُت أن الصراعات التي اندلعت فيما بينهم في مراحل تاريخية مختلفة، لم تكن دوافعها دينية، بل كانت لتفاوتات سياسية أو قبلية أحياناً.
- إن الجنوبيين خاضوا حربهم وحرروا مناطقهم في 2015 وما تلاها، لاعتبارات وطنية ومصيرية، ليس لاعتبارات طائفية أو مذهبية كما فعلت بعض القوى الدينية، مثل حزب الإصلاح اليمني – المنتمي أيديولوجياً لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن، أو الحوثيون.
وفي ضوء النتائج التي خلصت إليها الورقة، تم وضع جُملة من التوصيات:
أولاً: للجهات الداخلية
• إن الدخول في حوار (جنوبي بيني)، وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الجنوبيين، حتى مع الذين لا يؤمنون باستقلال الجنوب كحل، ملح وعاجل في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخ في اليمن والمفصلية من تاريخ الجنوب، في سبيل توحيد صفوفهم ونبذ الخلافات فيما بينهم، واستبدال لغة الحديث والحوار عوضاً عن لغة السلاح.
• إن الخروج بإقرار لرؤية جنوبية موحدة تتفق عليها كافة الأطراف السياسية، يشكل أهمية بالغة من أجل ترتيب وضع الجنوب السياسي واستقراره وتأمينه.
• إن الشكل الفيدرالي لدولة مستقبلية في الجنوب، من شأنه أن يشكل احتواءً قانونياً ومنطقياً للحالة الجنوبية، ويضمن المحافظة على مكانة وتاريخ كل محافظة وخصوصيتها الاجتماعية والثقافية وغيرها.
• إن تشكيل قوة عسكرية موحدة ودمج القوات الجنوبية الحالية تحت إطار جيش جنوبي موحد، عامل مهم لتقوية النفوذ العسكري الجنوبي على أراضيه.
• إن الاستمرار في مكافحة التنظيمات "الإرهابية" القاعدة وداعش، من قبل القوى العسكرية الجنوبية التي أثبتت موثوقية في محاربتها، سيحد من تنامي عملياتها ونشاطها في الجنوب.
• إن الإقرار بحق الشعب الجنوبي باستعادة دولته كضمانة رئيسية، ستساعد مستقبلاً في إعادة توحيد الشمال الممزق بين الجماعات المتحاربة فيه، أو على الأقل للمساعدة في توجيه الجهود لاستعادة الدولة في الشمال؛ وبدء حوار (شمالي-شمالي) بخصوص المظلوميات الجهوية هناك.
ثانياً: للجهات الخارجية
• إن استكمال عملية المفاوضات بشأن إنهاء الحرب في اليمن برعاية إقليمية ودولية، لإنضاج تسوية سياسية شاملة بين الأطراف المتنازعة، لهو أمر ملح وعاجل تجنباً للدخول في مرحلة أكثر خطورة وتعقيدا.
• إن المكانة الإقليمية والدولية التي يحتلها موقع الجنوب الجيوسياسي المرتبط بها مثل: القرن الأفريقي، والبحر الأحمر، والبحر العربي، والمحيط الهندي، تتطلب إدراكاً إقليمياً ودولياً أوسع من الحماية والاهتمام، تجنياً لأي تهديدات أو تحديات قد تواجه المنطقة مستقبلاً.
• إن دعم القوات العسكرية الجنوبية التي أثبتت موثوقيتها في تحرير مناطقها من الحوثيين، وكذا تخلصها من تنظيم القاعدة في مساحات جغرافية واسعة من الجنوب، عبر النخبتين في حضرموت وشبوة، والأحزمة الأمنية في لحج وعدن وأبين، يستوجب اهتماماً إقليمياً ودولياً ودعماً ملحاً لهذه القوات لاستكمال مهامها.
• على المتابعين أو المهتمين بالشأن اليمني سواء من العرب أو الأجانب، قراءة الأحداث وتقصي الحقائق بصورة مكتملة، غير متحيّزة أو منقوصة، واستقاء المعلومات من مصادرها الأصلية وشاهديها الحقيقيين؛ وتعزيز المعرفة التاريخية بالمنطقة وجذور الصراعات فيها ودوافعها وأبعادها؛ وأسباب عودة وتوالي دورات العنف فيها.
زميلة في مركز سوث24 للأخبار والدراسات باحثة في الشؤون السياسية
- لتحميل البحث والإطلاع على قائمة المراجع باللغة العربية (انقر هنا)
- الصورة الرئيسية: "انترنال ديسبليسمينت"