29-08-2021 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| قسم التحليلات
بعد مرور 14 عاماً على انطلاق الحراك الجنوبي وفعالياته الجماهيرية في جنوب اليمن عام 2007، وما تبعه من أحداث متلاحقة سواء بقيام انتفاضة 2011، أو انقلاب الحوثيين على الدولة في 2014، وما تلاه من انطلاق لعاصفة الحزم في 2015، وما خلفته الحرب من تداعيات إنسانية واقتصادية وسياسية. كل تلك الأحداث المتلاحقة؛ خلقت حالة تغيير عام للوضع في الجنوب، على مستويات عدة، خاصة بعد تحرير الجنوبيين مناطقهم مما اعتبروه غزواً ثانياً عليهم، بقيادة تحالف الضرورة آنذاك (الحوثي وصالح) في 2015، وفي ظل استمرارية محافظة القوى الجنوبية على المكاسب العسكرية والسياسة التي حققتها بعد ذلك؛ بقيادة المجلس الانتقالي الذي نشأ في 2017، رغم محاولة أطراف في حكومة هادي تتبع حزب الإصلاح المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، استعادة السيطرة والنفوذ على المناطق المحررة كبديل عن النظام السابق.
بدا جلياً أن التطور الدراماتيكي لمسارات الحرب؛ سمح للجنوبيين بإعادة تنظيم أنفسهم سياسياً وعسكرياً، وهو أمر كان من المفترض قيامه قبل الحرب حسب ما يرى كثيرون منهم، لولا أن القمع والعنف الذي طال مكونات الحراك الجنوبي من قبل النظام السابق عمل على محاصرتهم وتقييدهم بالقوة، إضافة لمحاولة معارضيه تشتيت قوى الحراك واستقطابها بحلول مؤقتة تتجاوز القضية الجذرية والرئيسية التي خرج الجنوبيون من أجلها.
أما في الوقت الحالي، فالسياسة الجنوبية تعبّر عن أبرز مهام المكونات والتيارات السياسية الموجودة على الساحة، وإن تقاطعت أو اختلفت اتجاهاتها، فهي تتفاعل مع بعضها البعض ضمن عملية معقدة ومؤثرات عدة ترتبط بسياسات الحلفاء ومصالح الأطراف المختلفة. على مستوى أعمق، يمكن القول أن تحليل السياسة الجنوبية يكشف عن مدى درجة فاعليتها واستقلاليتها، خاصة في ظل الاستقطابات الحادة والمؤثرات الإقليمية المحيطة قبل وأثناء الحرب، وهو الأمر الذي يعطي مؤشراً عن مدى استعداد التيارات الجنوبية لمواجهة أي تحديات لا تتعارض مع مشاريعها السياسية، وإن كانت تتقارب مع هذا الطرف أو ذاك أحياناً.
دلائل ملموسة
بطبيعة الحال، لكون المجلس الانتقالي الجنوبي مكوّن سياسي فتي، وإن كان نشؤه استكمالاً لمسيرة الحراك الجنوبي أو كان منبثقاً عنها، إضافة لكونه يشكل القاعدة الشعبية الأوسع من بين المكونات الجنوبية الأخرى القديمة أو الناشئة حديثاً، أو لكونه يسيطر على أجزاء ومساحات جغرافية واسعة في الجنوب، سيكون بلا شك؛ في موضع النقاش الدائم ومثار التساؤلات لدى العديد من الخبراء والمهتمين بالشأن اليمني، خاصة المرتبط بالجنوب.
ويمكن تسليط الضوء على نقطتين رئيستين متعلقة بالسياسة التي ينتهجها الانتقالي الجنوبي، على مستويين داخلي وخارجي، تتحدد في التالي:
أولاً: على المستوى الداخلي
بدت علاقة المجلس الانتقالي الجنوبي مع خصومه في حكومة هادي مترددة سياسياً ومضطربة استراتيجياً، لا سيما بعد سيطرته على الكثير من المواقع في الجنوب، وهو أمر يبدو طبيعياً مع الواقع السياسي الجديد وديناميكيات التغيير العسكرية على الأرض، فالانتقالي يرى ككيان أنه يستطيع فرض نفسه على أي أجندة سياسية مطروحة بناءً على هذه المرتكزات، ولا يقبل بأن يفرّط بالمكتسبات التي كلفته الكثير من أجل الوصول إلى ما وصل إليه سياسياً وعسكرياً.
في المقابل، لدى الانتقالي الجنوبي حالة من الجمود السياسي مع خصومه، والتي تنتهي أحياناً برد فعل غير محسوب، وهذا يجعله يخسر عنصر التحكم ويقع في فخ الاستدراج بسهولة. بمعنى أنه ينتظر ساعة الصفر ولحظة تفجير الوضع من قبل خصومه، ثم يتحرك مع الجماهير ويستصدر بيانات تنديد بعد وقوع الضرر، وهو الأمر الذي يضعف من قدرته على التحكم في مسارات الحدث، ما يتيح للطرف الذي قام بالفعل أن يتحكم في النتائج. مع قول ذلك، لا يعني أن رد الفعل الذي يتخذه طرف ما غير ملح، بيد أن استخدام ردود الأفعال السياسية المدروسة ستعطي بلا شك نتائج مثمرة على كل ما يوجه ضد هذا الطرف أو ذاك، ويمكن تحويلها في المقابل إلى مكاسب.
على سبيل المثال: إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي الإدارة الذاتية وحالة الطوارئ في 25 إبريل 2020، نتيجة تعنت الحكومة اليمنية القيام بواجباتها وتسخيرها لموارد وممتلكات الشعب في تمويل أنشطة الفساد وتهرّبها من تنفيذ اتفاق الرياض، حسب ما جاء في بيانه، أتاح كرد فعل؛ على وضع آلية لتسريع تنفيذ الاتفاق بتشكيل حكومة مناصفة بين الشمال والجنوب، وتم تعيين محافظ للعاصمة عدن ومدير أمن، فأعلن الانتقالي تخليه عن الإدارة الذاتية لاحقاً ليتيح للتحالف العربي استكمال مسار تطبيق الاتفاق مع الطرفين. أي أن الانتقالي لم يكن ليحصل على ذلك؛ لولا رد الفعل المدروس على ما يوجه ضد الشعب بشكل عام وضده بشكل خاص.
أما بالنسبة لخصوم الانتقالي من الجنوبيين أنفسهم سواء المؤيدين لمشروعه السياسي باستقلال الجنوب؛ أو غير المؤيدين، فهو لم يحسن منذ نشوئه التعامل معهم، أو محاولة استقطابهم، كما غاب عنه ترتيب علاقاته مع الجنوبيين المحيطين، وغاب عنه أيضاً العمل السياسي المنظم معهم بشأن القضية الجنوبية؛ نتيجة إصراره على تقديم أولوية كل ما هو خاص عما هو عام. وهذا أفقد الأطراف الجنوبية الأخرى الثقة فيه إلى حدٍ ما. بيد أنً مبادرته الأخيرة في فتح أفق نحو حوار جنوبي بيني؛ وإن عدّت خطوة متأخرة، فهي شكّلت تقدماً وأهمية يمكن لها أن تقرّب بين وجهات النظر وتستكشف القصور والمساحة المشتركة بين الأطراف المتحاورة.
على الجانب الآخر، لم تكن الأمور أحسن حالاً مع مناصري الانتقالي الجنوبي نفسه، فقد دخل معهم في إشكاليات بينية تتطلب منه فتح أفق للحوار معهم بالمثل؛ لمعالجة تباين وجهات النظر في الأمور السياسية والخدمية التي ينجم عنها ضيق في الأفق أحياناً، وخلق عوامل ثقة بينية متبادلة، بمعنى أدق؛ ليس من الصواب اتباع سياسة إهمال المناصرين على حساب فتح المجال للتحاور مع المخالفين فقط.
ثانياً: على المستوى الخارجي
تمكنت الفواعل المحلية والإقليمية المناهضة للانتقالي الجنوبي في سياستها الإعلامية، من إقناع المتابعين والمهتمين بالشأن اليمني؛ على أن الانتقالي مجرد تابع ينفذ سياسات أبوظبي في جنوب اليمن، غير أن الوقائع والتجارب لم تثبت أي من هذه الادعاءات؛ فالتوافق بين الإمارات والانتقالي حسب مراقبين؛ طبيعي في مرحلةٍ كهذه، خاصة بعد الدعم المقدم منها لتحرير مناطق عديدة في الجنوب. فأبوظبي مع وحدة اليمن واستقراره وأمنه في خطابها الرسمي، ورغم ذلك هي تدعم الانتقالي الجنوبي الذي يرفع شعار استقلال الجنوب واستعادة الدولة، كما أن علاقة أبوظبي مع القوات المشتركة في الساحل الغربي جيدة، وتحظى تلك القوات بدعم كامل منها، على الرغم من ترجيح حدوث تفاهمات بين تلك القوات وبين الإخوان؛ أو بينها وبين الحوثيين، لكن مع ذلك بقت علاقتها جيدة مع الإمارات التي تعتبر هذين الطرفين من ألد خصومها في المنطقة. بمعنى أكثر وضوحاً، فالإمارات تدعم الانتقالي رغم موقفه الثابت المناهض للوحدة، وتدعم قوات طارق صالح رغم موقفها الثابت المتمسك بالوحدة، بيد أنها لم تستطع أن تملي على أيً من الطرفين موقف محدد من قضية البقاء في الوحدة أو عدم البقاء فيها، كل طرف يحتفظ بمشروعه السياسي بشكل مستقل.
علاوةً على ذلك، فالسعودية بعد تدخلها نتيجة الأزمة التي حدثت بين حكومة هادي والانتقالي في أغسطس 2019؛ وخروجها باتفاق الرياض في نوفمبر من نفس العام، لم يسمح لها بفرض موقف محدد على الانتقالي لتغيير مشروعه السياسي وموقفه من الوحدة، ورغم ذلك رعت الرياض الاتفاق ودخل الانتقالي في حكومة مناصفة وهو يتمسك بموقفه وأدبياته المعلنة المعبرة عن استقلال الجنوب واستعادة دولته إلى ما قبل حدود 1990. وقد عبَّر نص "اتفاق الرياض" على ذلك في ديباجته التي تقول: "التزاماً من تحالف دعم الشرعية في اليمن بالمرجعيات الثلاث مبادرة مجلس التعاون الخليجي وآليتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني الشامل وقرار مجلس الأمن رقم 2216 والقرارات ذات الصلة ومقررات مؤتمر الرياض"، إذ جاء هذا النص نتيجة رفض الانتقالي إعلان تمسكه بالمرجعيات الثلاث –خاصة مخرجات الحوار- وإصرار الشرعية على تضمين المرجعيات الثلاث ضمن "اتفاق الرياض"، فجاءت ديباجة الاتفاق لتعلن التزام "تحالف دعم الشرعية" بهذه المخرجات، وعدم الإشارة إلى أي التزام بها من قبل الطرف الثاني في الاتفاق "المجلس الانتقالي الجنوبي" وهو ما يعطي مؤشراً إلى تمسك الانتقالي بموقفه من استعادة الدولة حتى في تعامله مع السعودية.
هذه المعادلات تتعلق بالموقف العربي ككل، إذ لا يمكن للانتقالي الجنوبي مثلاً الذهاب للتطبيع مع إيران، لمجرد إثبات اختلافه مع السعودية، فموقفه الخارجي مرتبط بأمن واستقرار أرضه بالدرجة الأولى من أي تهديدات إيرانية، ومرتبط بأمن العمق الخليجي والعربي ثانياً. كما لا يمكنه الذهاب بالمثل للتطبيع مع الإخوان المسلمين في اليمن ليثبت أنه يختلف مع الإمارات، رغم أن باستطاعته فعل ذلك لو أراد، بيد أنّ موقفه ثابت تجاههم، نتيجة التاريخ الدموي الذي خلفه الإخوان في الجنوب، وكان سبباً رئيسياً في دماره إبان حرب 1994 وما تلاها؛ بمشاركة النظام اليمني السابق، حسب ما يرى ذلك كثير من الجنوبيين.
لذا، بقدر ما تعكس تلك التوصيفات الإعلامية ادعاءات غير دقيقة، فهي تضع الانتقالي الجنوبي في مواضع حرجة أحياناً؛ عندما تغرّد بعض القيادات المحسوبة عليه بتغريدات فردية، يمكن أن تُسيء لموقف الانتقالي الجنوبي الرسمي؛ ككيان سياسي يُفترض أنه مستقل في قراراته وعلاقاته الخارجية بالدول الأخرى، وهو الأمر الذي يعزز من الانطباع المرسوم عنه مسبقاً.
وبنظرة سريعة لمواقف الانتقالي، بدى أن تأييده لبعض القرارات السيادية التي تتخذها الدول المجاورة، لا يعني أنه يوافق عليها أو يتبناها، هي تعبّر عن تلك الدول من منطلق مصالحها القومية لاعتبارات ربما أمنية أو اقتصادية أو لموازين قوى إقليمية ودولية يستوجب منها التفاعل معها. وإن أيد الانتقالي الجنوبي بعض القرارات السيادية أحياناً للالتقاء مع مصالح الجوار؛ فهي على الأقل لا تتعارض مع مشروعه السياسي حسب ما يرى هو. مع الإشارة إلى أن مواقف التأييد؛ لا تعبر بالضرورة عن السياسة الجنوبية بشكلها العام؛ ولا تعبّر عن موقف الشارع الجنوبي ككل - مثل التطبيع مع إسرائيل.
المتوقع من سياسة الانتقالي
يبدو أنه بات من الضرورة للمجلس الانتقالي الجنوبي مراجعة سياساته الداخلية والخارجية، ومحاولة إعادة صياغتها من جديد وفق مقاربة تواكب التطورات السياسية في المنطقة، بصورة تضمن مصالح محافظات الجنوب بالدرجة الأولى، وتضمن محافظته هو ككيان؛ على المكتسبات السياسية والعسكرية التي حققها على الأرض، إذ يبدو أن السياسة المعتدلة والبراغماتية هي الأجدى للتعامل في المنطقة. لذا، لن يكون من الخطأ القول؛ أن على الانتقالي الجنوبي قراءة الأحداث جيداً والتعامل معها بسرعة ومرونة واستقلالية، أو كما ذكر كارل سميث في كتابه اللاهوت السياسي، "الحاكم السيادي هو الذي يقرر في حالة الاستثناء". إذ بينت الأحداث المتسارعة أن حالة العداء والصداقة بين الدول الخليجية والعربية فيما بينها أو مع بعض دول الإقليم غير ثابتة، وهو ما يرجّح أن ينتهج الانتقالي سياسة يرتب فيها علاقاته الخارجية بناءً على أولوياته؛ وليس حسب أولويات حلفائه.
عملياً، فالانتقالي يمتلك نقاط قوة كبيرة على الأرض؛ وهو ما ناقشته ورقة سابقة في مركز سوث24؛ بينت نقاط القوة والضعف بين مراكز القوى المختلفة في اليمن (1)، غير أن جنوب اليمن بموقعه الجيوسياسي بالغ الأهمية، يشكل علامة استراتيجية فارقة في المنطقة، فباب المندب لا يعد صمام أمان واستقرار لدول الخليج والمنطقة العربية فقط، بل عامل استقرار للملاحة الدولية والتجارة العالمية. وهو ما يستدعي من القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً التعامل بنوع من الإدراك مع الفواعل المحلية المسيطرة على المناطق التي تهدد المصالح الإقليمية والدولية.
علاوةً على ذلك، فالحملات الموجهة ضد الانتقالي الجنوبي من خصومه، التي تحاول تحريض قاعدته الشعبية ضده بادعائها تبعيته المطلقة للحليف الاستراتيجي "دولة الإمارات"، من شأنها إما أن تدفع الانتقالي إلى التحوّل من التحالف مع الإمارات إلى التبعية أو الخصومة، وفي كلا الحالتين يكون الطرف الخصم للانتقالي قد نجح من وراء رسم هذه الصورة بشأنه أمام جماهيره، وهو ما يستدعي وجود خطط إعلامية جيدة في مواجهة الإعلام المضاد؛ كي يضمن بقائه في حالة الحليف وفق ما يخدم أهدافه الاستراتيجية ويعزز من استقلاليته.
زميلة وباحثة في الشؤون السياسية في مركز سوث24 للأخبار والدراسات
- الصورة: عيدروس الزبيدي، خلال زيارة أحد مرافق المجلس الانتقالي الجنوبي، وتظهر على يمينه علمي دولتي الإمارات والسعودية (رسمي)