30-09-2021 الساعة 12 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| قسم الترجمات
في أوائل 2014، وجدت نفسي في الغرفة الأمامية قليلة الأثاث داخل فيلا مبنية من الطوب المسامي عسير الوصف في عدن تلك المدينة القابعة في جنوب اليمن والتي كانت ذات يوم واحدة من أكثر الموانئ ازدحاما على مستوى العالم. وكان مضيفي رجل حارب في وقت من الأوقات مع أسامة بن لادن في أفغانستان وساعد فيما بعد الفرع المحلي للقاعدة في كسب موطئ قدم له في اليمن.
وأخذ الرجل يسرد كيف أن شخصا تجمعه به قرابة بعيدة وصل إلى مخبأه في جبال أبين في شرق عدن. هذا الزائر، المسؤول العسكري البارز، الذي تنحدر جذوره إلى أبين مثل مضيفي تماما، جاء من العاصمة اليمنية صنعاء حاملا رسالة من الرئيس اليمني آنذاك علي عبد الله صالح كتب فيها: "إذا كنت تقتل الشيوعيين فلا بأس، لكننا لدينا مشكلة في مهاجمتك الأمريكيين".
والد مضيفي، الذي وافته المنية قبلها بسنوات، كان زعيما قبليا صاحب نفوذ في أبين. وفي ستينيات القرن الماضي، استطاع الثوار الاشتراكيون والقوميون تأسيس جمهورية اشتراكية بعد إقصاء القوات البريطانية الذين اتخذوا من جنوب اليمن محمية لهم. وحاول هؤلاء كبح الهياكل القبلية الجنوبية معتبرين إياها رجعية وقاعدة قوة منافسة. ولاذ العديد من زعماء القبائل الذي كانوا يعملون مع البريطانيين بالفرار من البلاد. وترعرع مضيفي في منفى بجدة التي تقع على ساحل البحر الأحمر بالمملكة السعودية، وكان متلهفًا لوطنه الذي يعرفه بالكاد ويسعى للانتقام من الأيديولوجيات اليسارية الذي شعر أنها سلبته مسقط رأسه، ولذلك انضم للمجاهدين لمقاتلة القوات السوفيتية في أفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين. وبعد ذلك، في الفترة السابقة لأول انتخابات برلمانية باليمن عام 1993 منذ اندماج الجنوب مع الجمهورية الشمالية قبل ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، عاد إلى مسقط رأسه بناء على إلحاح من بن لادن وآخرين من "العرب الأفغان" الذين ألهموا من منظور ديني المقاتلين الوافدين إلى أفغانستان لمقاتلة الاتحاد السوفييتي، وكذلك المسؤولين في صنعاء. وبعد عودته إلى جنوب اليمن، شارك الرجل في حملة اغتيال استهدفت المسؤولين الاشتراكيين بمباركة، وربما بدعم نشط من نظام صالح في الشمال.
بعض من أفراد مجموعته لم يضعوا حدودا تجاه الاشتراكيين. في ديسمبر 1992، اتُهمت جماعة كان مضيفي ينتمي إليها بتفجير فندقين يستضيفان مجموعة من المارينز الأمريكيين في عدن. ورغم أن التفجيرين لم يقتلا أي جندي أمريكي لكنهما أثارا الجدل في صنعاء وقتما كان مسؤولوها يحاولون إصلاح العلاقات مع واشنطن. وبابتسامة خبيثة، بالطبع، أخبر مضيفي مبعوث صالح أنه ليس ضالعا في تفجير الفندق.
وفي مخبأهم الجبلي، انتقل مضيفي ورسول صالح نحو إبرام صفقة أكثر إلحاحا في وقت كانت فيه الحرب الأهلية تلوح في الأفق بين صالح وزعماء اشتراكيين جنوبيين سعوا إلى إنهاء اتفاق الوحدة مع الشمال. وكان بإمكان مضيفي لعب دور هام في الحرب التي اندلعت في مايو 1994، حيث تعاون مع كبار المسؤولين العسكريين والاستخباريين في صنعاء وقام بتجنيد العرب الأفغان، ولعب دور القائد حينما ساعدوا في اجتياح عدن وتسوية الصراع بشكل قاطع لمصلحة نظام صالح. وبالمقابل، استعاد النظام أراضي عائلة مضيفي في أبين، وجعله يتقلد دورا بارزا في الأجهزة الأمنية.
استعادة أرضه ووضعه ربما كان الهدف الحقيقي لمضيفي على طول الخط، على الأقل من منظور أشخاص جمعتهم به وبعائلته علاقات على مدار سنوات. بيد أن الهجوم على الفندق كان يحمل نبوءة مفادها أن العديد من رفاق السلاح لمضيفي كان لديهم تطلعات أيديولوجية أكبر. وقال مضيفي إنه لم يلعب أي دور في هجوم أكتوبر 2000 الذي استهدف السفينة الحربية الأمريكية "يو إس إس كول"، والتي كانت ترسو عادة في عدن أثناء فترات الراحة بعد إجراء دوريات في الخليج والبحر العربي كجزء من الأسطول الخامس الأمريكي. وجرى تنفيذ الهجوم المذكور بواسطة أعضاء ينتمون لما كان يعرف باسم "الجيش الإسلامي في عدن-أبين"، بيد أنه أقر بمعرفته بعضا من الضالعين في الهجوم.
بحلول الوقت الذي التقينا فيه، كان اليمن في خضم اضطرابات أخرى، حيث تم عزل صالح من منصبه كرئيس أثناء انتفاضة 2011، واتجه المتمردون الحوثيون صوب صنعاء. وكان مضيفي قد انضم لحركة الاستقلال الجنوبي التي ظهرت بعد حرب 1994 واكتسبت زخما في العقد الأول من الألفية الجديدة. وعلى ما يبدو، فضل مضيفي اتخاذ الحيطة تجاه هذا الرهان حيث أنشأ روابط مع الانفصاليين لكنه حافظ في نفس الوقت على العلاقات مع خليفة صالح في الحكم عبد ربه منصور هادي، رفيقه الأبيني الذي كانت عائلته ذات يوم تمثل جزءا من التفاصيل الأمنية لوالده. وكان مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى في صنعاء يدفعون تكاليف إيجار الفيلا المطلة على البحر التي يقيم فيها على حد زعمه. وفي غضون 9 شهور من مقابلتنا والتي امتدح خلالها مزايا الويسكي الأسكتلندي، دأب الإعلام المحلي على اتهامه بالانضمام لداعش.
واتسمت قصة مضيفي بالتلون. من خلال طرق عديدة استهدفت استمرار التكيف مع منعطفات وتقلبات التاريخ اليمني المعاصر، حدثت سلسلة تزاوج للمصالح لكنها غالبا ما انتهت بطريقة مفاجئة وشائكة. المرة الأخيرة التي تحدثنا فيها كانت عبر الهاتف عام 2016. وقبل ذلك بعام، اندلعت حرب أهلية وجد صعوبة في الإبحار داخل مشهدها السياسي. وخوفا من انتقام أعدائه، ترك مضيفي عدن واتجه نحو التضاريس الوعرة في أبين. وقال الرجل إن مسلحي القاعدة والمقاتلين الانفصاليين وغيرهما من الجماعات المسلحة الذين سيطروا على الطرق الواصلة أرادوا قتله عقابا له على تجاوزات الماضي مما يجعل لقاءه معي في عدن مستحيلا.
إساءة فهم اليمن
على مدار الصيف، ومع اقتراب ذكرى 11 سبتمبر، وسحب القوات الأمريكية قواتها من أفغانستان، مكثت بعض الوقت في قراءة الملاحظات التي دونتها خلال عشرات اللقاءات باليمن خلال العقد الماضي. وتساءلت إذا كان بإمكاني العثور على أي دلالات في خضم هذه الضوضاء، لا سيما وأن عقدين فوضويين من الارتباط الأمريكي هناك الذي شكلته أولويات مكافحة الإرهاب، لم تستطع الولايات المتحدة فهم اليمن.
وبحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى اليمن للمرة الأولى عام 2009، كان صالح، الذي دفع ثمنا سياسيا واقتصاديا باهظا في واشنطن والمنطقة بسبب دعمه للغزو العراقي للكويت، والذي وجهت اتهامات لنظامه بحماية بل وتوظيف البعض ممن شاركوا في تفجير "يو إس إس كول"، قد أعاد تقديم نفسه كشريك للولايات المتحدة في "الحرب ضد الإرهاب". وأرادت الولايات المتحدة القضاء على فرع القاعدة باليمن ومنع الدولة من الانهيار والذي قد يخلق ملاذا آمنا للجهاديين. وسعيا وراء تحقيق هذه الأهداف، بدأت الولايات المتحدة في العقد الأول من الألفية الثالثة فصاعدا التعاون بشكل وطيد مع صالح الذي كان يعبر عن حماسه تجاه هذا السعي أثناء لقاءاته مع مسؤولين أمريكيين.
وبدلا من القضاء على القاعدة في اليمن، تسبب نهج واشنطن الذي يضع أولوية للجانب العسكري في تقوية شوكة التنظيم ومنحه زخما أكبر. وبحلول عام 2010، في أعقاب سلسلة من التفجيرات الفاشلة، حذر مسؤولون أمريكيون من أن القاعدة في شبه الجزيرة العربية التي تشكلت من خلال الاندماج بين فرعي التنظيم في السعودية واليمن قبل عام من ذلك التاريخ التهديد الأكبر الذي يمس الأمن القومي الأمريكي. وأضافوا أن أنور العولقي، المواطن الأمريكي من أصل يمني والذي أصبح لاحقا داعية ديني ينتمي لقاعدة شبه الجزيرة العربية كان بالنسبة للقاعدة واحدة من أنجح الشخصيات القيادية والمجندين الدوليين.
وفي ذات الأثناء، سعى صالح إلى استغلال علاقته المزدهرة مع الولايات المتحدة، والدعم العسكري والمالي المرتبط بالتعاون في مكافحة الإرهاب، وانعدام الثقة الأمريكية في بعض من حلفاء النظام المحليين من أجل إقصائهم خارج صندوق المحادثات مع القوى الخارجية وتعزيز قبضة عائلته على السلطة. أما الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ضغطت من أجلها القوى الغربية لتعزيز استقرار الدولة فقد سقطت في قارعة الطريق. وبدأت النخبة اليمنية في التذمر والتحذير من معاناة مستقبلية للدولة المدنية. واعترف المسؤولون الغربيون بإخفاقات صالح لكنهم دائما صريحين في أسباب عدم قدرتهم على الضغط عليه من أجل الإصلاحات. وأخبرني مسؤول أوروبي في ملاحظة رمزية عام 2009 قائلا: "مكافحة الإرهاب تأتي في المقام الأول والثاني وربما الثالث في قائمة الأولويات الغربية".
بيد أن مكافحة الإرهاب لم تكن تمثل نفس القدر من الأهمية بالنسبة لعامة اليمنيين الأكثر انشغالا بفارق شاسع بفشل النظام وفساده وسيادة القانون المتداعية. وفي عام 2011، قاد الغضب الشعبي بشأن هذه المشكلات الانتفاضة التي قسمت النظام إلى نصفين. وهاجم الموالون لصالح المحتجين وكذلك عناصر الجيش والقبائل والغرماء السياسيين الذين انضموا إلى الانتفاضة مما أشعل معارك شوارع في صنعاء والمدن الأخرى.
وجمدت الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية الدعم العسكري لكنها سعت أولا للإبقاء على صالح، حيث قال مسؤول أمريكي لصحيفة النيويوركر في أبريل 2011: "إذا ذهب صالح، فإن النتيجتين الأكثر احتمالا هما الفوضى أو حكومة ليست صديقة للولايات المتحدة بنفس الدرجة". بيد أن هذا النهج لم يستطع التحمل، حيث تنحى صالح في نهاية المطاف بفعل ضغوط من دول عربية خليجية أعقبها مبادرة أممية تتعلق بعملية انتقال سياسي.
وخلال 3 أعوام من ذلك التاريخ، فشلت المرحلة الانتقالية. وفي سبتمبر 2014، استطاع الحوثيون، تلك الحركة الزيدية الشيعية التي تطورت إلى ميليشيا متمردة مسلحة خلال 6 سنوات من الحرب ضد نظام صالح في أوائل الألفية الراهنة، السيطرة على صنعاء، بدعم من صالح. وبعد ذلك، في فبراير 2015، استطاع الرئيس هادي، الزعيم الانتقالي الذي حل محل صالح عام 2012 والأكثر تطلعا للشراكة في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب" الهروب من الإقامة الجبرية في صنعاء، وتتبعته قوات الحوثيين-صالح في عدن. وفي هذه المرحلة، تدخلت السعودية التي ترى أن الحوثيين وكلاء غريمتها الإقليمية إيران، وحاولت منع الهيمنة الحوثية المطلقة وبدأت في حملة مكثفة من القصف الجوي. بضغط من الرياض وأبوظبي، تعهدت واشنطن أن تقدم الدعم، وبدأت بجدية أكثر الحروب الأهلية دموية في تاريخ اليمن.
اللحى والأيديولوجيات
كان تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الأكثر استفادة من اشتداد وتيرة القتال. ففي وسط الفوضى، استطاع مقاتلو التنظيم والأنصار المحليين له في أبريل 2015 انتزاع السيطرة على المكلا، مدينة الميناء التي تقع في جنوب شرق اليمن. وانتشرت شائعات مفادها أن مقربين من النظام السابق سهلوا عملية الاحتلال. لم يكن هذا التوقع بالشئ الجديد، إذ أن العديد من اليمنيين كانوا قد سخروا من إعادة صالح اختراع نفسه كشريك للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، واحتضنوا مفهوما مفاده أن العديد من الهجمات التي تبناها القاعدة جرى تنفيذها حقا بواسطة "لحى" بمعنى من خلال مسلحين يعملون بموجب تعليمات من فصيل بالنظام أو آخر. واعتقد الكثيرون أن عناصر النظام كانت تستخدم هؤلاء "اللحى" لتخليص أنفسهم من خصومهم مع الارتباط في نفس الوقت بالولايات المتحدة في مطاردة الجهاديين. ولم يستطع أحد تقديم دليل قاطع على مثل هذا التواطؤ. لكن نظام صالح كان يروق له بالتأكيد استخدام العرب الأفغان بطريقة مماثلة في حقبة التسعينيات.
وفي كل الأحوال، كان تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية حقيقة ويمتلك قدرا من الدعم الشعبي إذ أن عقودا من الإخفاقات الحكومية وفضائح الفساد والاستبدادية العميقة بالإضافة إلى استعداد صالح وهادي السماح للولايات المتحدة بتنفيذ ضربات عن بعد استنادا على معلومات استخبارية غير مؤكدة ساهمت في منح مصداقية للسرد الذي يتبناه القاعدة والذي استمر حتى بعد أن قتلت الولايات المتحدة صاحب القدرة الأكبر على الدعاية للتنظيم أنور العولقي، في هجوم بطائرة مسيرة. وتسببت هجمات مماثلة في قتل عدد كبير من المدنيين بينهم نجل العولقي. وعلاوة على ذلك، قاموا بقتل أشخاص يشتبه بانضمامهم لقاعدة شبه الجزيرة العربية رغم أن عائلاتهم أشاروا إلى أن ذويهم سُلبوا من حقهم في اتخاذ الإجراءات الواجبة، مما أشعل الغضب بين عامة اليمنيين الذين اعتبروا هذه الوفيات انتهاكا للقانون الرسمي والعرفي لا يمكن التسامح معه. وفي ذات الأثناء، فإن مناصري الحريات المدنية بالولايات المتحدة وصفوا تلك الضربات، مثل التي قتلت العولقي، بالإعدام خارج نطاق القانون.
وفي أوائل 2016، قمت بمحاورة عنصر بارز في مجال تجنيد أعضاء جدد، وقاضيا داخل النظام القضائي المتنامي للتنظيم. وكان قاعدة شبه الجزيرة العربية قد وصلت آنذاك إلى ذروتها في اليمن. وكان تفسير الرجل لدوافع الناس للانضمام للتنظيم يقترن برغبة في خدمة الذات كنوع من الدعاية لأنفسهم. بيد أنه أيضا كان متفهما للمظالم التي يعاني منها عامية اليمنيين بشكل أفضل من معظم المسؤولين الغربيين أو خبراء مكافحة الإرهاب الذين قابلتهم. وقال الرجل إن الإخفاقات الحكومية وهجمات الطائرات المسيرة كانت بمثابة أفضل وسائل لتجنيد أعضاء جدد، وكذلك تأجج الحرب الأهلية مع الحوثيين والتي كانت بمثابة غطاء طائفي نموذجي بالنسبة لقاعدة شبه الجزيرة العربية. وعاد الرجل بشكل متكرر للحديث عن فكرة العدالة وغيابها تحت كنف الحكومات اليمنية المدعومة من الولايات المتحدة. وأردف قائلا: "الهيمنة الأمريكية على الدول الإسلامية والعربية جعلت الناس تتحدث وتطلب العدالة. لقد جاءت منظمتنا لإعادة تلك الفكرة إلى المكان الذي تنتمي إليه… ما تزال الولايات المتحدة والغرب تستأجر أنظمة تقمع شعوبها بينما تنعم بالثراء. ولذلك سوف يبقى هذا التنظيم، وستظهر تنظيمات أخرى تستند على هذه الأيديولوجية".
وإلى حد كبير، لم يكن القاضي مهتما بمناقشة الهجمات على الغرب، بما يتماشى مع التحولات في استراتيجيات القاعدة على المستوى العالمي حيث بات التنظيم يركز على الصراعات المحلية. وكان ناصر الوحيشي، زعيم قاعدة شبه الجزيرة العربية آنذاك، رئيسا للعمليات العالمية للتنظيم. وعقد الوحيشي مشاورات مع الأجنحة الأخرى للتنظيم بهدف تبني نهج تدريجي ومتكرر لحكم المناطق الخاضعة لسيطرتهم، مستشهدا بتجربة مؤقتة حينما قام التنظيم بتأسيس "إمارة" في جنوب اليمن عامي 2011 و2012، مصورا نفسه باعتباره بديلا أكثر تمكنًا ومسؤولية من الحكومة اليمنية يضرب بجذوره داخل القيم والثقافة اليمنية والإسلامية بدلا من كونه ممثلا محليا للحركة العابرة للحدود. وبات زعماء القاعدة مترددين في استخدام اسم التنظيم على المستوى المحلي، لا سيما وأن قاعدة شبه الجزيرة العربية لديه تجربة في تغيير علامته المميزة، حيث تم إطلاق اسم "أنصار الشريعة" على الجناح المحلي المختص بالعمليات، كما أن التنظيم حكم المكلا من خلال جماعة أطلقت على نفسها اسم "أبناء حضرموت". وعلاوة على ذلك، روج تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية لنفسه باعتباره الجماعة الوحيدة القادرة حقا على منع هيمنة الحوثيين على الأراضي السنية.
وبصرف النظر عن كيفية وصف التنظيم لنفسه، لم تستمر ذروة قاعدة شبه الجزيرة العربية طويلا. ففي أبريل 2016، استطاعت قوى محلية مدعومة من الإمارات العربية المتحدة أن تطرده خارج معقله في المكلا واقتلاع جذوره من مناطق عديدة في عدن. ولاحقا، شن التنظيم تمردا في الجنوب وصل ذروته عام 2017 ولكن مزيجا من هجمات شنتها قوات إماراتية وأمريكية خاصة بالإضافة إلى ضربات بالطائرات المسيرة قتلت الوحيشي عام 2015 وخليفته قاسم الريمي عام 2020، بجانب التصدعات السياسية الداخلية التي ربما دفعت بعضا من أعضاء القاعدة للتحول إلى مخبرين ضد زملائهم مما جعل التنظيم بمثابة ظل لما كان عليه سابقا. ويبدو العديد من قيادات وأعضاء التنظيم حاليا يولون معظم اهتمامهم في كيفية نجاتهم الشخصية، كما تباطأت وتيرة الإنتاج الإعلامي الغزير للقاعدة، بل أن العديد من مقاتلين باتوا يقاتلون الحوثيين تحت لواء قيادات عسكرية وزعماء قبائل بعيدا عن التنظيم بإشراف من الحكومة والتحالف الذي تقوده السعودية. وأصبح آخرون بمثابة أسلحة يتم استئجارها للمشاركة في المعارك الضروس التي قوضت تماسك القوات المناوئة للحوثيين منذ بداية الحرب.
اعترف مسؤولون أمريكيون أنهم لم يكونوا متيقنين بشكل تام من هوية شركائهم في اليمن.
وأدت الحملة المناهضة لقاعدة شبه الجزيرة العربية إلى خلق تعقيدات داخل التحالف الذي تقوده السعودية لمحاربة الحوثيين والذي تأسس على التعاون مع قوات محلية جرى تجنيد وتدريب معظم عناصرها بواسطة الإمارات العربية التي كانت الشريك الرئيسي للسعودية في تلك الحرب في ذلك الوقت. واعترف مسؤولون أمريكيون أنه بالرغم من أن قواتهم الخاصة تعاونت مع الإمارات في اليمن، لكنهم لم يكونوا متيقنين تماما من هوية شركائهم اليمنيين. وسرعان ما دخلت مسألة هوية القوات المحلية بؤرة الاهتمام. العديد من المقاتلين المدعومين من الإمارات شكلوا المجلس الانتقالي الجنوبي، المؤيد للاستقلال والذي استطاع إقصاء حكومة هادي من عدن في أعقاب معارك شوارع هناك في أغسطس 2019. وقال المجلس الانتقالي الجنوبي إنه يخطط لإنشاء دولة جنوبية مستقلة. وعلى غرار ما كان يفعله صالح، يحرص قيادات المجلس على تسويق أنفسهم باعتبارهم شريكا قديرًا للولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب.
تغلغل السلفيين
استفادت الإمارات من شبكة من الدعاة المرتبطين بمدرسة دار الحديث السلفية الدينية، إذ أن العديد من خريجيها كانوا قد حاربوا الحوثيين أثناء مناوشات حول المعهد الديني في الشمال في بدايات الألفية الجديدة قبل أن يتم إخلاؤه ضمن صفقة أبرمتها الحكومة أوائل 2014. واكتشف المسؤولون العسكريون الإماراتيون أن السلفيين من أكثر المقاتلين كفاءة وتنظيما وحماسة في اليمن. وفي وقت لاحق، ترأست قيادات سلفية حملات انطلقت من الأراضي السعودية صوب قلب الحوثيين في صعدة منذ عام 2016 فصاعدا، وكذلك شاركوا في الهجوم الذي وقع عام 2018 على ساحل البحر الأحمر باليمن، وفي الغارات التي شنوها داخل مناطق سيطرة الحوثيين في محافظة البيضاء باليمن عام 2021 على الحدود القديمة بين الشمال والجنوب.
ويوضح تطور شبكة دار الحديث منذ 2015 الطفرات التي اعترت السلفيين اليمنيين كنتيجة للحرب. وكان مقبل الوادعي مؤسس دار الحديث يتبنى بشكل مكشوف منهجا طائفيا وينتقد بصراحة التأثير الغربي لكنه أبدى معارضته لحملة القاعدة العالمية العنيفة. روجت دار الحديث لوجهة نظر عالمية غير سياسية و"هادئة" تضمنت طاعة أولي الأمر المسلمين بما يتماشى مع آراء رجال الدين السلفيين في المملكة السعودية. بيد أن وقائع القتال حول مقر دار الحديث في صعدة الذي اندلع في العقد الثاني من الألفية الحالية كان له تأثيره على نهج أتباع السلفيين تجاه العنف. التعاليم الطائفية للوادعي الذي وصف الزيديين بالكفار والزنادقة، واتهم علماءهم بالترويج لـ "بدع ضالة" تم استخدامها بالفعل كمبرر لتدمير مقابر وأضرحة الزيديين دون رفض حكم صالح الذي كان زيديا. في عام 2015، أصدر يحيى الحجوري، الزعيم الحالي للشبكة السلفية فتوى تمنح أنصاره الضوء الأخضر لحمل الأسلحة كإجراء للدفاع عن النفس.
بيد أن شبكة دار الحديث كانت قد تشرذمت بالفعل مع بداية الحرب، إذ أدت الخصومات الشخصية والاختلافات العقائدية إلى انقسام خريجي المدرسة، وفقا لما أخبرني إياه نفس الزعيم السلفي بشأن إذا ما كان ينبغي عليهم المشاركة في عمليات الهجوم ضد الحوثيين أم الاكتفاء بالدفاع عن النفس، وهوية الحاكم الصحيح لليمن. وباتت قيادات الفصائل السلفية العديدة باليمن حاليا غارقة في المناظرات الجدلية لدار الحديث. لكن بالإضافة إلى البراعة العسكرية، ذاق بعضهم طعم السلطة على نحو يتخطى التزامهم الصارم بالقضايا الدينية. العديد من المقاتلين الشباب تحت قيادتهم لديهم وجهة نظر أولية أكثر عالمية. ولا يبدي البعض أي اهتمام بالأيديولوجية السلفية ويأملون فقط في دفع أموال لهم، بينما يركز آخرون بشكل رئيسي على الأبعاد الطائفية للحرب. وبالرغم من أن المقاتلين السلفيين الذين قمت بمحاورتهم في ساحل البحر الأحمر عام 2018، وفي عدن عام 2019 أنكروا بشكل قاطع أي علاقات تربطهم بتنظيم قاعدة شبه الجزيرة العربية، لكنهم يصفون الحرب بأنها دينية في المقام الأول وصراع بين السنة والشيعة.
أزمة مُخزنة
تثير كافة هذه التطورات سؤالا حول إذا ما كان التركيز المستمر على العلامة الجوفاء المميزة لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وتهديدها العابر للقارات رغم انعدامه إلى حد كبير يمثل إلهاء عن مشكلة حقيقية قيد التخزين تهدد مستقبل اليمن مفادها وجود عشرات الآلاف من المقاتلين أصحاب الدوافع الدينية في صفوف الجانبين بالحرب الأهلية. وعلى غرار الكثيرين من نظرائهم السلفيين، فإن العديد من المقاتلين الحوثيين يرتبطون في غمار سرد شديد الطائفية، ويتم دفعهم للقتال من أجل أسباب دينية. وعادة ما يوجه الحوثيون اتهامات للحكومة والسعوديين بالعمل بجانب القاعدة، ويصفون خصومهم المقاتلين بـ "المرتزقة" أو "الإرهابيين". من السهل أن نتخيل اليمن فيما بعد الحرب حيث سيلجأ أي طرف ساخط من النظام الجديد سواء كان ذلك تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية أو كيانا شبيها له، أو فصيل نخبوي، أو قوة خارجية تملك أجندة إقليمية، أو كافة ما سبق، إلى الاستفادة من هذا الوريد المشبع بالطائفية بين الجنود السابقين واستخدامهم لتحقيق غاياتهم الخاصة.
الأمر يحتاج فهمًا أكثر عمقا لهوية من يقاتل على الأرض، والتدبر المتزايد بشأن كيفية جلب هؤلاء نحو مجتمع أكثر شمولا واستقرارا.
ينبغي أن تبدأ المناقشة الآن حول كيفية التعامل مع هؤلاء المقاتلين والمشكلات الاجتماعية المرجح أن يخلقونها بمجرد انقضاء الحرب الحالية (وبالطبع المشكلات التي تسببوا فيها بالفعل). شن المزيد من ضربات الطائرات المسيرة أو غارات القوات الخاصة لردع الناس عن الانضمام لقاعدة شبه الجزيرة العربية ليست هي الإجابة المطلوبة، على الأقل بالنسبة لليمن. المطلوب هو فهم أكبر لهوية من يحارب على الأرض، والتفكير المتزايد بشأن جلبهم إلى مجتمع أكثر شمولا واستقرارا، بقدر ما قد يمثل ذلك من تحديات.
لقد سألت مرارا وتكرارا مسؤولين سعوديين وإماراتيين عن توقعاتهم بما سيصبح عليه العديد من المقاتلين، الذين قاموا مع حلفائهم اليمنيين بتدريبهم بشكل مباشر وغير مباشر، عندما تضع الحرب أوزارها، لا سيما إذا انتهت بتقلد الحوثيين سلطة معتبرة. وقال مسؤول إماراتي إن هذه المشكلة سوف تخص الأمم المتحدة التي يتعين عليها التعامل معها. أما بالنسبة للمسؤولين السعوديين فقالوا إن كافة القوات اليمنية سوف يتم دمجها في الجيش الوطني، في افتراض مسبق على ما يبدو على أن الحلفاء اليمنيين للرياض سوف يشرفون على هذه القوة. وقالت الأمم المتحدة إنها تملك فقط الخطوط العريضة لخطة تستهدف إعادة التعبئة ودمج المقاتلين في اليمن، وهو تعهد قد يكون هائلا ومكلفًا ومشروطًا باتفاق سلام لا يضم فحسب المعركة الرئيسية بين الحوثيين وقوات هادي لكنه يمتد إلى غرماء آخرين على امتداد البلاد. واعترف المسؤولون الأمريكيون الذين تحدثت إليهم أنهم يشعرون بـ "قلق عميق"، لكنهم أشاروا إلى عدم امتلاكهم سياسات محددة جاهزة للتعامل مع دمج المقاتلين بعد انتهاء الحرب.
حروب اليمن الأبدية
لم تستطع السنوات الأخيرة مما تطلق عليه واشنطن "الحرب على الإرهاب" إلا إفراز القليل فيما يتعلق بسبر أغوار تعثر سياسات مكافحة الإرهاب في أماكن مثل اليمن.، حيث تقوم الأهداف قصيرة المدى بالتشويش على التحليل الملائم لما يحدث. أجد صعوبة في تصديق أن الولايات المتحدة سوف تغير سبلها أو تقرر تنفيذ ما تحتاج إليه من فهم أكثر عمقا لليمن وشعبها من أجل وضع سياسة أفضل. وقالت إدارة بايدن إنها ترغب في إنهاء "الحروب الأبدية" التي شاركت فيها الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، بالإضافة إلى أشياء أخرى تعتمد على التركيز على التهديدات الداخلية وصراع القوة مع الصين. لقد أدى تشديد الأمن والمراقبة إلى جعل حدوث الهجمات الإرهابية الكبرى داخل الولايات المتحدة أقل احتمالا بفارق شاسع مقارنة بما كان عليه الوضع قبل عقدين، مما يجعل أماكن مثل اليمن أقل أهمية بغض النظر عن حجم تواجد القاعدة هناك مع الأخذ في الاعتبار أن التنظيم في جميع الحالات بات يركز أكثر على الأهداف المحلية. تريد الأصوات القوية في دوائر السياسات بواشنطن أن ترى نهاية الضلوع الأمريكي في الحرب اليمنية بأسرع وقت ممكن. البعض ممن ينتمون لهذا المعسكر يملكون دوافع ترتبط ببواعث قلق إنسانية وإحساس مفاده أن الولايات المتحدة متواطئة في حرب هائلة مدمرة. البعض الآخر يبدو مدفوعا أكثر بنفاد الصبر من أجل تخليص الولايات المتحدة من هذه الفوضى المستعصية في منطقة لم تعد تمثل أولوية استراتيجية حيث باتت الأنظار تتجه صوب المحيط الهادئ.
ولكن إرث التأثير الأمريكي في اليمن سوف يبقى على مدار عقود حتى في حال فك الولايات المتحدة ارتباطها، إذ أن الحروب اليمنية تتكسر ثم تتكرر. وقد يحتج بعض اليمنيين بأن هناك خطة أو مؤامرة كبرى وراء التدخل والانسحاب الأمريكي، استهدفت غرس الفوضى والإبقاء على اليمن في حالة من الوهن والاستكانة، بجانب سائر مناطق العالم الإسلامي العربي.
أما آخرون سيقولون للأسف أن الأمر برمته بكل بساطة كان مجرد سوء فهم.
بيتر سالسيبري
خبير متخصص بالشأن اليمني في مجموعة الأزمات الدولية
المصدر الأصلي بالإنجليزية: مجموعة الأزمات الدولية
ترجمه إلى العربية: مركز سوث24 للأخبار والدراسات
- الصورة: منازل تعرضت للتدمير في عدن خلال هجوم الحوثيين صالح في 2015 (رويترز)