16-10-2021 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | قسم التحليلات
منذ إعلان الوحدة اليمنية في تسعينات القرن المنصرم حتى هذه اللحظة الراهنة، التي يشدد فيها المجتمع الدولي على تسوية سياسية شاملة تنهي الصراع الدائر في اليمن، تمتلك الدولة اليمنية، حديثة العهد، سجلاً فوضويا من الاتفاقيات السياسية التي لا تُنفذ، وعادة ما تفضي إلى اندلاع الحروب، إذ اعتاد اليمنيون عموما والجنوبيون خصوصا هذه التراتبية المعكوسة التي تضع الاتفاقات قبل الحرب وليس بعدها.
أبرز التسويات السياسية بعد الوحدة اليمنية:
ليست هذه المرة الأولى التي يؤكد فيها المجتمع الدولي على الحل السياسي في اليمن، فهناك العديد من التسويات السياسية التي تستحق الذكر وإعادة النظر:
1- "اتفاقية الوحدة الاندماجية" بين دولتي اليمن الشمال والجنوبي في مايو 1990، التي فشلت في دمج الدولتين العربيتين في دولة واحدة ضمن مسارات الشراكة السلمية، إذ سرعان ما دب الخلاف وبدأت الأزمة الأمنية والسياسية بين الطرفين انتهت باغتيال عشرات الكوادر والسياسيين الجنوبيين.
2- لحل الخلاف المتصاعد بين شريكي "الوحدة" تم الإعلان عن "وثيقة العهد والاتفاق" في 18 يناير 1994 في العاصمة الأردنية عمّان [1]. فشلت الاتفاقية في ردم الخلاف السياسي المتصاعد بين الطرفين، واندلعت الحرب التي آلت لسيطرة الشمال اليمني على الجنوب، واجتياح العاصمة عدن في 7 يوليو 1994.
3- "المبادرة الخليجية" في نوفمبر 2011، التي وقعها نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح مع أحزاب المعارضة اليمنية، وقضت بنقل السلطة إلى الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي. أكّد هادي أنه لم يتسلّم سوى العلم الجمهوري [2]، واستمرت بالمقابل سيطرة الرئيس السابق على المؤسسات العسكرية والمدنية لسنوات لاحقة.
4- "مخرجات الحوار الوطني"، صنعاء مارس 2014، التي قضت بتوافق جميع القوى والأحزاب اليمنية على انتقال اليمن من نظام الدولة المركزية إلى نظام الدولة الاتحادية، غير أنّ الجماعة الحوثية التي دخلت في حلافة سياسية وعسكرية مع الرئيس صالح وحزبه، أسقطت العاصمة صنعاء عسكريا في 21 سبتمبر 2014. اعتبره الطرف الآخر انقلابا على مخرجات الحوار الوطني وعلى شرعية الرئيس هادي وعلى المبادرة الخليجية.
5- "اتفاق الرياض" في نوفمبر 2019، التي وقعتها الحكومة اليمنية مع المجلس الانتقالي الجنوبي، عقب مواجهات عسكرية في أغسطس من نفس العام، انتهت بسيطرة المجلس، الذي يدعو لاستقلال الجنوب على عدن وعدة محافظات جنوبية أخرى. لم تنجح الاتفاقية التي جاءت لتركيز جهود الحلفاء الاسميين في مواجهة الحوثيين، وعوضا عن ذلك، شنت القوات الموالية للحكومة معركة أبين في 11 مايو 2020، استمرت حتى أواخر يوليو تموز من نفس العام.
لم يقتصر الأمر فقط على الاتفاقات المحلية. فعلى الصعيد الخارجي، لم تستجب الأطراف المحلية للقرارات الأممية والتوصيات الدولية، أيضا. ففي حرب العام 1994 صدر عن المنظمة الأممية القرار 924 والقرار 931 بوقف إطلاق النار وتوجه طرفي الصراع للحل السياسي، كذلك كان التوجه الرسمي العربي والخليجي، الا أنّ القوات الشمالية استمرت في تقدمها جنوبا وسيطرت بالقوة على أراضي اليمن الجنوبي.
تكرر ذات الموقف العربي والدولي في حرب 2015 التي شنها الحوثيون وأنصار الرئيس صالح على عدن جنوبا، غير أنّ الموقف العربي بدا أكثر حدة من سابقه، ولأسباب تتعلق بالبعد الطائفي وخطر التدخل الإيراني في اليمن، وتهديدات الأمن المائي في باب المندب وخليج عدن، تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية عسكريا. بالمقابل استمر الحوثيون في شمال اليمن في رفض القرارات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، ناهيك عن عدم استجابة الجماعة اليمنية، المستمر، لمبادرات السلام والدعوات الدولية والأممية لإنهاء الحرب.
ثمة اعتقاد سائد في أوساط النخبة بشمال اليمن، ترى بأنّ السلام لا يتحقق إلا عن طريق الغلبة العسكرية الأحادية الجانب. على الرغم من أنّ ذلك يتناقض مع مبادئ الحكم الرشيد وقواعد التكافؤ السياسي والديمقراطية، إلا أنه من جانب آخر يبدو مناقضا تماما للأسس التي قامت عليها "اتفاقية الوحدة اليمنية" بين الشمال والجنوب.
الوحدة اليمنية في ضوء السرديات الأحادية:
كان اليمن الشمالي قبل توقيع الوحدة مع الجنوب، يخضع لسيطرة ما يعرف بـ "اليمن الأعلى أو شمال الشمال" موطن الجماعة الزيدية. وعلى الرغم من أنّ هذه السيطرة تركزت في حكم أئمة الدولة الزيدية لما يقارب الألف عام، الا أنّ أثرها استمر في الكمون في صدارة المشهد السياسي إلى يومنا هذا، فطبيعة الأحداث التي رافقت وتلت الثورة ضد النظام الزيدي الملكي في سبتمبر 1962، انتجت نظام جمهوري بقيادة عسكرية ودينية وقبلية من ذات المنطقة الزيدية. لتستمر السيطرة الأحادية الجانب في التمدد شمالا فيما يصفه اليمنيون بـ "المركز المقدس".
بعد أن دخل الشمال بمشروع "الوحدة" مع الجنوب، استمرت القوى العتيقة في شمال اليمن في احتكار الحكم والسلطة. حيث تابعت هذه القوى تمددها في ظل عدة سرديات أحادية، مثل: وضع الوحدة اليمنية في سياق وطني يؤسس للعنف ضد الجنوب تحت شعار "الوحدة أو الموت"، كذلك محاولة الترويج لأيدلوجيا الوحدة الإسلامية بهدف محاربة وقتل القيادات والكوادر الجنوبية واستصدار الفتاوى الدينية التي تجيز ذلك [3]. لتتناسل سرديات التوحيد العقائدي والوطني كي يتم الدفع بالجماعات والتنظيمات المتطرفة القادمة من أفغانستان إلى جنوب اليمن بغية السيطرة عليه.
خارجيا، ثمة تحول عالمي تزامن مع السرديات الأحادية الآنفة الذكر، إذ تشكلت الوحدة اليمنية وأيدلوجيا الوحدة الإسلامية في تسعينات القرن المنصرم، لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي وانتقال العالم لسيطرة القطب الأحادي بقيادة أمريكية. هناك الكثير من الروابط بين أفغانستان واليمن، صنعت هذا التحول وشاركت فيما بعد في إنتاج الوحدة اليمنية. فسيناريو الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي يطابق سيناريو حرب اليمن الشمالي على الجنوب من حيث استخدام العناصر والجماعات الإسلامية المتطرفة أو ما يسمى بـ "المجاهدين العرب"، أو من حيث التموضع القطبي.
ولاحقا، عندما اندلعت الثورة الشبابية في صنعاء مطلع العام 2011 ضد نظام الرئيس السابق صالح، اضطر الأخير لتوقيع المبادرة الخليجية ونقل السلطة إلى نائبه عبدربه منصور هادي ذي الأصول الجنوبية. غير أنّ الرئيس السابق بعد أن تنحى تحالف مع الجماعة الحوثية والقوى العتيقة في شمال اليمن. في سبتمبر 2014 أطاح الحوثيون بالرئيس هادي لتعود غلبة الحاضنة الزيدية إلى صدارة المشهد اليمني مرة أخرى، وهي العودة الأشد وضوحا والأكثر تطرفا، إذ ترى هذه الحاضنة الحكم والسلطة من منظور عقائدي حكرا عليها.
هذا الاعتقاد الذي تؤكده الممارسات العنيفة للحوثيين في الشمال تجاه الأطراف الأخرى، يجعل من حديث المجتمع الدولي عن تسوية سياسية ترسم معالم دولة اتحادية هدفاً صعب المنال.
الوحدة اليمنية في ضوء السردية الاتحادية:
مرة أخرى، توجهات الحوثيين العسكرية والعقائدية في شمال اليمن تُحدد مصير أي تسوية سياسية، إذ تبدو الإشارة الأممية والدولية إلى قيام دولة اتحادية، مجرد تعابير دبلوماسية مستهلكة، بالمقارنة مع استمرار الحوثيين في الحرب والتقدم العسكري.
فالتسوية السياسية الشاملة التي يتم الدفع بها تؤسس لسردية اتحادية تتصادم مع نزعة السيطرة الأحادية لدى شمال اليمن. إذ يبدو الحديث عن ضرورة إشراك كل الأطراف الفاعلة في الأزمة اليمنية إلى جانب المرأة والشباب، وكأنه محاولة استنساخ سيناريو ما يسمى بـ "بمؤتمر الحوار الوطني في صنعاء". بالمقابل سيكرر الحوثيون سيناريو "انقلابهم" السياسي والعسكري مرة أخرى.
ومع أخذ سيطرتهم الكاملة على شمال اليمن، بعين الاعتبار، سيسعى الحوثيون، لإقناع بقية الأطراف "الشمالية" بفكرة السيطرة الأحادية على الجنوب، بالقوة. ومثلما لا يبدو مشروع الدولة الاتحادية منسجما مع طبيعة الجماعة اليمنية شمالا وسلوكها المنافي للحوكمة الرشيدة ومبادئ المساءلة القانونية والتكافؤ السياسي والاجتماعي، فهو إلى حد ما لا يبدو دافعا لأي مقاومة في شمال اليمن تسعى لقتال الحوثيين.
مقابل ذلك، يبدو أنّ الجنوبيين ليسوا في وضع يجعلهم يبحثون عن إعادة تكرار تجربة جديدة لصيغ الوحدة مع الشمال. إذ أنّ المتغيرات السياسية والعسكرية قد صنعت مشهدا يصعب معه إعادة ترميم شراكة سياسية من هذا القبيل. يعزز مثل هذا الواقع في نظر الخبراء المحليين، خيار حل الدولتين وعودتهما لوضع ما قبل الوحدة اليمنية عام 1990.
بالمحصلة، يمكن القول أنّ التسويات السياسية السابقة في اليمن، طالما انتهت بحروب شرسة قادت لاتفاقات جديدة، لكنها لم تنجح في إنتاج واقع سياسي وأمني مستقر، خصوصا عندما يتعلّق الوضع بمصير جنوب اليمن. إنّ قراءة سريعة بتراتبية هذه الأحداث، يعزز من ضرورة وضع استراتيجيات أخرى لا تكرر نفس الأخطاء التي أدت إلى إبقاء الأطراف الجنوبية مجرّد "ضحايا".
باحث مقيم في مركز سوث24 للأخبار والدراسات
- الصورة: مركبة (من توقيع وثيقة العهد والاتفاق في يناير 1994 في الأردن، وعقب توقيع اتفاق الرياض في السعودية في 5 نوفمبر 2019)