05-05-2022 الساعة 6 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | عبدالله الشادلي
تُعاني حضرموت، كبرى محافظات جنوب اليمن، من التلوث البيئي الناجم عن استكشاف النفط.
لقد بلغ التلوث النفطي في المحافظة حدوداً كبيرة مؤخراً، وأصبح يُهدَّد حياة السكان في مناطق الامتياز، ما دفع عشرات الأسر إلى الاستقرار في مدينتي سيئون والمكلا الرئيسيتين ومناطق أخرى بعيدة؛ خوفاً من الإصابة بالأمراض.
وتعمل شركات النفط في حضرموت، بأقل الخسائر الممكنة لتسيير العمل، ما يدفعها إلى القيام بممارسات تضر بالبيئة المحيطة بها أحياناً، مع غياب الرقابة ودور الهيئة العامة لحماية البيئة، وفقا لمصادر تحدّثت لـ«سوث24».
وتسبب عدم التزام شركات النفط العاملة في حضرموت بمعايير السلامة العامة، بظهور أمراض سرطانية طالت الأطفال، مثل: سرطان الحلق الذي يصيب عادة المدخنين وكبار السن، وفقاً لما قاله الدكتور أحمد باخلعة، اختصاصي الجراحة العامة وجراحة الأطفال، لـ "سوث24".
تكتُّم
وسط تكتم الجهات الحكومية، على الأضرار الجسيمة التي سببتها مخلفات النفط، والأمراض التي لحقت بكثير من المواطنين، تشير المعلومات التي وصل إليها «سوث24» من خلال أحاديث متفرقة مع سكان مناطق الامتياز في حضرموت، إلى أنّ معظم الأمراض في تلك المناطق يتصدرها: سرطان الرئة والدم والكبد والحلق فضلًا عن أمراض الربو.
وحول هذا، قال الدكتور أحمد باخلعة، إن "القرب من شركات النفط قد يسبب أمراضاً في الجهاز التنفسي، والتهاب القصبات الهوائية، وضيق النفس، وأمراض الحبال الصوتية والاختناق، والتصلب الرئوي والربو، والسرطان في حالات متقدمة إذا لم يتم تداركها وعلاجها فور الكشف عنه".
وأضاف: " من باب الأمانة العامة لا يجب أن نُنكر أن هذه الشركات ربما قد تكون السبب وراء انتشار هذه الأمراض. ينقصنا الدليل العلمي فقط. مع الأسف ليس في استطاعة أحد الخوض في هذه الأمور الشائكة".
وعزى باخلعة صمت المستشفيات والمؤسسات والمنظمات حول التلوث البيئي الناجم عن شركات النفط، إلى "المصالح المشتركة بين الشركات وبعض المؤسسات وما تتحصل عليه من دعم". وأضاف: ""الدعومات التي تتحصل عليها المؤسسات، ليست حباً في مرضى السرطان وإنما مقابل التزام الصمت".
لكنَّ المدير التنفيذي لمؤسسة حضرموت لمكافحة السرطان، الدكتور وليد البطاطي، يرى أنَّه "ليس من الشرط أن تكون جميع تلك الأمراض ناجمة عن شركات النفط".
وأضاف البطاطي في حديثه لـ«سوث24»: "صحيح تصلنا حالات سرطان كثيرة، منها من مناطق امتياز نفطي ومنها من مناطق أخرى. تلك الحالات لا نستطيع علميا أن نجزم أن سببها تلوث أو غازات ناجمة عن تلك الشركات. من أجل إثبات ذلك علميا، يتطلب الأمر أخذ عينات من التربة والمياه وغيرها".
تلوث ومخلفات صلبة في منطقة غيل بن يمين بحضرموت 28 أبريل 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)
وبالنسبة لمدير فرع الهيئة العامة لحماية البيئة بحضرموت، سالم باقحيزل، "مشكلات النفط أصبحت الهمّ الأكبر في المحافظة".
وقال باقحيزل لـ "سوث24": "يجب الوقوف على هذه المشكلات ومعالجتها ومعالجة آثارها المدمرة على البيئة والإنسان، قبل الوصول إلى مستويات لا تحمد عاقبتُها ويُستعصى علاجها لاحقاً".
وأضاف: "التلوث بشكل عام وتلوث الهواء خصوصا، له آثار سلبية على الصحة العامة، لاسيّما على الأطفال وكبار السن، الذين تكون مناعتهم ضعيفة إلى حدّ ما". وأشار إلى أنَّ "البعد الجغرافي لشركات النفط عن المدينة، جعل من الصعب متابعة أداء وعمل تلك الشركات".
وفي غضون ذلك، كشفت مصادر طبية لـ«سوث24» أنّ "شركات النفط والسلطات في حضرموت، تمنع الخوض في الأبحاث العلمية المُتعلقة بأضرار شركات النفط على البيئة".
وقالت المصادر "مع تعيين طه عبد الله هاجر، محافظاً لحضرموت في العام 2007، خلفاً للمحافظ عبد القادر هلال - إبان فترة الحكومة المركزية من صنعاء؛ أمر المحافظ بإيقاف الأبحاث التي دعمها المحافظ الأسبق هلال". وأضافت: " المحافظ هاجر اعتبر الأبحاث مساساً بالأمن القومي وهدد بسجن الباحثين حينها".
ووفقاً للمصادر: "توقفت تلك الأبحاث منذ العام 2007 وحتى الآن. وسار جميع المحافظين الحضارم على نهج المحافظ هاجر، في ظل تعتيم إعلامي كبير على هذه الحقائق".
أمراض نادرة
وفي معرض حديثه عن الأمراض السرطانية، قال باخلعة "قبل سنوات وردتني حالة لطفل مصاب بسرطان في الحلق. هذا الطفل أتت به أسرته من منطقة امتياز نفطي".
وأضاف باخلعة "وفقاً للمراجع الطبية، هذا المرض يصيب الكبار - غالباً - وخصوصا المدخنين، والأرجح أنَّه ناجم عن التلوث البيئي في مناطق الامتياز النفطي. لا يوجد دليل عملي وعلمي يثبت ذلك، لكن لا تفسير منطقي غيره".
واتفق الدكتور محمد الشنيني، وهو طالب دكتوراه من مديرية الريدة بساحل حضرموت، مع ما ذكره الدكتور باخلعة. وقال إنّ "أحد أقاربه في منطقة امتياز نفطي، أصيب ولده البالغ نحو ثلاث سنوات بسرطان الدماغ".
وأضاف الشنيني لـ«سوث24» "مثل هذه الأمراض، ناجمة قطعاً، عن التلوث البيئي في مناطق الامتياز. لن تكون هذه الواقعة الأخيرة، لأنَّ ما سبقها من وقائع تشيب لها الولدان".
إحصائيات مريبة
على الرغم من شحة المصادر حول أعداد الإصابات بأمراض السرطان، في مناطق الامتياز النفطي بحضرموت، تحصل «سوث24» على إحصائية حديثة لأعداد السكان في بعض مديريات المحافظة، وأخرى بأعداد المصابين، وتظهر النتائج عدم التوازن بين الكثافة السكانية والمصابين في مناطق الامتياز.
وسُجّلت حالات الإصابة بأمراض السرطان في المناطق البعيدة عن شركات النفط أرقاماً أكبر، مقارنة بمناطق الامتياز، وفقاً للإحصائيات الأمر الذي بدى غريباً، بالنسبة للدكتور محمد الشنيني.
ففي مديرية تريم على سبيل المثال والتي يبلغ عدد سكانها 173704، يوجد بين كل 1600 شخص حالة إصابة. وفي مديرية غيل بن يمين، وعدد سكانها 55263، يوجد بين كل 2530 شخص حالة إصابة. وفي مديرية ساه، وعدد سكانها 41685، يوجد بين كل 4631 شخص حالة إصابة. أمّا في مديرية الضليعة، وعدد سكانها 31283، فيوجد بين كل 4500 شخص حالة إصابة.
أمّا في المناطق البعيدة من تلك الشركات، فالأمر مختلف تماماً مقارنة بأعداد السكان. في مدينة المكلا التي يبلغ عدد السكان فيها 412707، يوجد بين كل 1810 شخص، حالة إصابة. وفي مدينة سيئون، وعدد سكانها 176798، يوجد بين كل 1500 شخص، حالة إصابة.
ومع ذلك، لم تُثبت الإحصائيات التي تحصل عليها «سوث24» تفشي هذه الأمراض في مناطق الامتياز النفطي بحضرموت، إلا أنّ الدكتور محمد الشنيني نفى جملة وتفصيلا أن تكون هذه الأرقام صحيحة.
ويرى الشنيني أنّ عدم توثيق حالات أمراض السرطان في مناطق الامتياز بشكل دقيق وتفنيدها، له تفسيرات عديدة. وزعم أنّ "ذلك يدلّ على تواطؤ فاضح بين الجهات المعنية والشركات النفطية".
ولفت إلى أنّ الأوبئة والأمراض، في مناطق الامتياز النفطي، في تزايد مستمر مع غياب الإحصائيات، وأنّ أهالي تلك المناطق، هم ضحايا ما وصفها بـ "شركات السرطان".
تكاليف باهظة ومعاناة
"نحن من يتحمّل تكاليف العلاج. وبعض الحالات تتطلب السفر إلى الخارج، ويتحملها نفقاتها المرضى وحدهم"، قال الأستاذ عبد الله النموري، وهو معلم من منطقة امتياز نفطي بحضرموت.
وأضاف النموري لـ«سوث24» "ناشدنا الجهات المعنية، بوضع حلول ومعالجات لمشكلة التلوث البيئي والتسريبات النفطية، التي شهدناها خلال السنوات الماضية؛ إلا أنّ مُعظم تلك المعالجات كانت لحظية فقط".
"يُفترض على تلك الشركات أن تلتزم بعلاج من يُثبت اصابته بأمراض هي كانت سبباً فيها"، يقول الشنيني. ويضيف "لا يجب السكوت على هذه الأمراض، مع العلم أنّ شركات النفط في تقديري هي السبب الأول في انتشارها وتظليل أرقامها".
وقال عمرو القرزي، وهو أحد سكان منطقة غيل بن يمين: "ذهبت بزوجتي إلى الهند، بعد أن اكتشفنا وجود أورام في الرئة، وتحملنا نفقات السفر والعلاج. لقد كانت التكاليف فوق طاقتنا".
وروى القرزي لـ«سوث24» تفاصيل إعراض المسؤولين في شركة النفط بالمديرية آنذاك، عن صرف نفقات العلاج في الخارج: "لقد فشلت كل محاولاتنا والوساطات بيننا وبين المسؤولين، واضطررتُ إلى بيع قطعة أرض في منطقتنا، بأقل من سعرها في العام 2013".
وتابع: "نحن ضحية هذه الشركات التي تنفث السموم كل يوم. وعندما أخبرت الطبيب الهندي بالقصة، أخبرني أنّ الشركات هي المسؤولة عن نفقات العلاج". وتساءل القرزي "إلى من نشكو جور هذه الشركات التي لا تخاف الله فينا؟".
تلوث متعمد
ليست السموم وانبعاثات الغازات وحدها من يهدد البيئة في مناطق الامتياز النفطي بحضرموت، لكنّ المياه المصاحبة للنفط وحقنها بطرق عشوائية، له أثر بالغ الخطورة على البيئة والمياه الجوفية.
وفي حديث مع "سوث24"، قال المهندس الكيميائي عماد بامسدوس، إنّ "إسالة النفط الخام على التربة السطحية، قبل معالجته، يؤدي إلى تحرير العديد من الغازات التي لها انبعاثات ضارة على البيئة والإنسان والحيوانات وحتى النباتات".
مناطق نائية معرضة للتلوث في وادي حجر بحضرموت، 28 أبريل 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)
وتطرق بامسدوس إلى أبرز هذه الغازات، وأبرزها: الميثان والإيثان والبروبان والبيوتان، إضافة إلى الغازات العطرية الأخرى متعددة الحلقات، كغازات (BTX)، "وهي التي تعتبر من أشد الغازات سمية وتسبب حدوث سرطانات الجهاز التنفسي"، وفقاُ للمهندس.
وأضاف: "إن انبثاق غاز كبريت الهيدروجين شديد السمية، يؤدي استنشاقه إلى اضطرابات تنفسية وفقدان الوعي، ويؤثر على الأعين والأغشية المخاطية في الأنف والحنجرة، ويضر بالشعب الهوائية في الرئتين".
وأشار إلى أنَّه "عند تركيز 500 PPM يسبب فقدان الوعي مباشرة، مع حشرجة في الحلق وتقطع في التنفس"، مرجحاً أن "يسبب لاحقا شللاً في الدماغ، كما أنَّه من المُحتمل أن يُحدث وفاة في غضون دقائق".
ولفت إلى أنّ "المياه المرافقة للنفط، تحتوي على نسب عالية من الأملاح المنحلة الحاوية على عناصر مشعة، والتي تترسب على سطح التربة ويؤدَّي التعرض لهذه المواد إلى الإصابة بالسرطان".
وأوضح المهندس أنَّ تسخين النفط لغرض تكريره، يرافقه انبعاث العديد من الغازات شديدة السمية: كأكاسيد الكربون والكبريت والنيتروجين. "أما فيما يتعلق بالتلوث الإشعاعي المرافق لحرق النفط، فإنّه يسبب ارتفاعا في تركيز غاز الرادون المشع الذي يترك آثارا خطيرة ويسبب السرطان".
وبالنسبة للمهندس الكيميائي، فإنّ هذا الغاز "يُعد من الغازات الثقيلة، التي تبقى قرب سطح اليابسة والتي يمكن أن تسبب انتشار أمراض السرطان في المنطقة، لاسيّما وأنَ الرياح تعمل على نقل هذا الغاز إلى مناطق مختلفة".
وطبقاً لـ بامسدوس: "ينتهي المطاف بهذا الغاز بتساقط الغبار المشع على التربة والمياه والإنسان، مٌحدثا تلوثاً كبيراً وأضراراً جسمية".
وعلى الرغم من كل ذلك، يقول المهندس الجيولوجي حسن باراس، رئيس لجنة "خريجي النفط الحضارم": "المشكلة الحقيقية التي ينبغي لفت الانتباه إليها هي المياه المصاحبة للنفط. إنَّ بعض الآبار، تصل نسبة المياه فيها إلى ما يزيد عن 80 إلى 90 في المئة، وجميع هذه المياه غير صالحة للاستهلاك البشري".
وأضاف: "في كثير من الأحيان، يتم حقن هذه المياه في باطن الأرض، على مستويات موازية لطبقات المياه الجوفية. يفترض حقنها على الأقل بشكل أعمق من طبقات المياه الجوفية؛ لما لها من مخاطر على تلوث المياه".
وأرجع باراس ذلك إلى غياب الرقابة وصمت المسؤولين، مشيراً إلى أنّ الشركات "تُمارس ذلك لتجنب الخسائر".
حلول جذرية
وللحد من المخاطر الصحية في المناطق النفطية بحضرموت، قال مدير فرع الهيئة العامة لحماية البيئة بالمحافظة: "لقد حاولنا إنشاء وحدة معالجة تحت سلطة الدولة، لكن ما تم إنجازه لم يكن يرقى إلى ما كنا نتطلع إليه؛ رغم أنّ جهودنا كانت طيّبة".
مزارع مواطنين يتم ريها بالآبار لتجنب المياه الجارية المعرضة للتلوث بوادي حجر في حضرموت، 28 أبريل 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)
وأضاف باقحيزل "مشكلتنا في الحقول النفطية أنَّها لا تتوفر لدينا معلومات كافية عنها. من الضروري العمل على نشر الوعي البيئي والصحي بشكل عاجل في المناطق الملوثة، وتفعيل حملات التنظيف والمعالجة الصحيحة لهذه المواقع".
لكنّ المهندس بامسدوس رأى أنّه "من الأجدر أن يتم التوقف عند باب التلوث الإشعاعي الناتج عن العناصر المشعة الموجودة في المياه المصاحبة للنفط الخام".
وقال "يمكن أن تفكك هذه العناصر ويتم صهرها أو يعاد استخدامها خارج المنطقة"، مشيراً أنّه بعد ذلك "لن يكون هناك طريقة لكشفها لأن الخطر الإشعاعي لا يكون ظاهراً ويحتاج لأجهزة خاصة لكشفه، وهذا سيعرض السكان لخطر الإصابة بمرض السرطان".
وكجزء من الحلول العاجلة، رأى الدكتور محمد الشنيني بضرورة إلزام الشركات النفطية، بتحمل نفقات العلاج لمن تثبت إصابته بأي مرض ناجم عن عملها. وقال: "هذا أمر متعارف عليه دولياً". وتساءل "لماذا لا تلتزم هذه الشركات حتى بالأعراف الإنسانية؟".
ويعيش سكان مناطق الامتياز النفطي في جنوب اليمن، حالة من القلق والخوف من خطر الإصابة بأمراض سرطانية نتيجة لغياب الرقابة والمحاسبة، ما أتاح الفرصة للشركات النفطية للتنصل من مسؤولياتها، في ظل غياب القانون، وفقاً لما قاله سكان محليون لـ«سوث24».
صحفي في مركز سوث24 للأخبار والدراسات
- مزارع مواطنين في إحدى مناطق الامتياز النفطي بوادي حضرموت (سوث24)
قبل 3 أشهر