التقارير الخاصة

المهرة: عندما يجوع الإنسان ويغترب في أرضه

طفلتان مهريتان في ريف مدينة الغيضة (سوث24)

18-07-2022 الساعة 10 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol language-symbol

سوث24| عبد الله الشادلي


وصلنا إلى المهرة في السادسة مساءاً. كانت الشمس تجر أذيالها في سماء المحافظة الجنوبية الساحرة الواقعة على الحدود مع سلطنة عُمان. الفنادق ذات الخدمات الفاخرة ليست كثيرة في الغيضة، عاصمة المحافظة، وفي الشارع، أحوال الناس أكثر سوءاً من المتوقع.


على الرغم من موقعها الاستراتيجي، منافذها البرية والبحرية، التنافس المحلي والإقليمي المحموم عليها، وبعدها عن المعارك والحرب، تعيش المهرة أوضاعا اقتصادية وإنسانية سيئة. 


من غلاء الأسعار والبطالة، إلى المهن الحرفية والأعمال الشاقة ذات الأجر البسيط، والاغتراب، يعيش غالبية أبناء المهرة البعيدة عن الأنظار في ظروف صعبة. لقد رمى المسؤولون المحليون باللوم على الحكومة المركزية، لكنًّ لا يبدو أن هناك الكثير بيد هؤلاء، فالمحافظة تدار من القادمين من خلف أشجارها. 


حرمان وبطالة


بينما يستحوذ الشماليون في المهرة على معظم وظائف القطاع العام والخاص ذات الدخل المرتفع والمتوسط، يُحرم أبناء المحافظة بشكل كبير من هذه الوظائف. إنَّهم يزاحمون أبناء المحافظة أيضاً في وظائف الدخل المنخفض، فحتَّى الحدائق العامة والمتنزهات يحرسها موظفون من صنعاء وتعز ومحافظات شمالية أخرى. 



جنود شماليون عند مدخل حديقة الغيضة بمحافظة المهرة، 25 يونيو 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)


أرجع كثير من أبناء المهرة الذين التقاهم "سوث24" هذا الوضع إلى السيطرة العسكرية والأمنية الشمالية على المحافظة، والنفوذ الشمالي القوي فيها. قالوا إن الإمكانات والتسهيلات الممنوحة للشماليين مكنَّتهم من السيطرة على حساب المواطنين الأصليين. 


وخلال جولتنا، بدت لنا شوارع الغيضة كصنعاء تماماً، فجل من كانوا هناك يرتدون الزي الشمالي التقليدي. لقد أشعرنا ذلك لوهلة بإننا في العاصمة الشمالية لولا وجود محلات تحمل اسم المهرة في يافطاتها، تذّكرك بين الحين والآخر أنَّك فيها. لقد كان الأمر مشابها لأوضاع ساحل حضرموت الجارة، التي قدمنا منها، إبان السلطة المركزية من صنعاء قبل ما يقرب من عقد من الزمان. 



مدينة الغيضة بمحافظة المهرة، 21 يونيو 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)


"مع أن العديد من أبناء المهرة، يشغلون وظائف مهنية، إلا أن الغالبية منهم هم الأفقر؛ ومجبرون منذ أجيال، على العيش من الأعمال المتواضعة أو الهامشية"، قال الأستاذ المتقاعد أمين عامر لـ «سوث24».


وأضاف: "يتم استثناء أبناء المهرة، إلى حد كبير، من المراكز الكبرى أو ذات الدخل المرتفع في الشركات الخاصة أو المؤسسات العامة. قلة من أبناء المحافظة يتم توظيفهم في قطاعات هامة مثل الكهرباء والاتصالات كحال الجيش والأمن".


لكنَّ وكيل المهرة للشؤون الفنية، المهندس سالم العبودي، قال لـ "سوث24": "ليس صحيحاً أنّ جميع المسيطرين على الوظائف العسكرية والأمنية في المهرة من الشمال". وعزى المسؤول الحضور المهري الضئيل في هذين السلكين إلى أنَّ "بعض أبناء المهرة لم يتحملوا تأخير صرف المرتبات التي يتم انتظارها لفترات تتجاوز ثلاثة أشهر أحياناً".


في المقابل، رأى المواطن المهري سالم باسعيود، في حديثه لـ "سوث24"، أنَّه "من غير الإنصاف أنَّ يتحمل أبناء المهرة عجز الحكومة عن توفير المرتبات ثم استجداء الشماليين لشغل ما يمكن أن نقوم به في حين أنَّ عوائد المحافظة كبيرة جداً".


وأضاف: "كان توظيف ابني الأكبر عوض في إحدى الشركات الخاصة بالمحافظة شبه مستحيل بسبب ارتفاع أعداد القادمين إلى المحافظة لاسيّما من الشمال. النازحون يقبلون العمل بأقل الأجور، وتذهب فرصة العمل لهم. المرتبات الزهيدة لا يقبلها معظم الشباب في المهرة فمتطلبات الحياة هنا باهظة جداً".


وتابع: "لم يكن بوسعي أن أصدق الأمر عندما تمّ توظيف عوض. كان الراتب أيضًا مثار دهشة أصدقائي وجيراني؛ لأن ما يُعتبر عادياً في المهرة كان يعتبر ثروة بالنسبة لنا". 


معظم أبناء المناطق الساحلية في المهرة يمتهنون صيد الأسماك، ومع ارتفاع أسعار الوقود أصبحوا مخيرين بين العمل بخسارة أو انتظار الموت جوعاً. وإلى جانب صيد الأسماك، يعمل كثير من أبناء هذه المحافظة في الزراعة وتربية الحيوانات، لاسيّما في المناطق البعيدة عن المناطق الحضرية.



قوارب صديد بمنطقة محيفيف بالمهرة، 24 يونيو 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)


عبد الله علي، وهو مزارع من أبناء المهرة، قال لـ "سوث24": "لقد أثرت الكوارث والأعاصير على مزارعنا وردمت بعض الآبار، ولم نتسلم إلا الفتات من المنظمات والجهات الحكومية والداعمة". وأضاف: "نود التوجه نحو أنظمة الطاقة الشمسية لكننا بحاجة إلى الدعم. إمكانياتنا محدودة جداً، ومضخات المياه التي تعمل على الوقود مكلفة".



مزرعة المواطن عبدالله علي بالمهرة، 24 يونيو 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)


موارد مُهدرة


"الحكومة اليمنية والسلطة المحلية أهملتا المقومات السياحية في المهرة". قال المحامي مجاهد آل عفرار، رئيس مؤسسة شباب المهرة، لـ "سوث24".


وأضاف: "على سبيل المثال، مديرية حوف التي توجد بها أكبر المحميات الطبيعية في البلاد تفتقد لأبسط مقومات الحياة ومشاريع البنية التحية. لا يوجد فيها فنادق، فضلاً عن وعورة الطريق الذي يشكّل خطراً على حياة وسلامة الزوّار".


وتابع: "لا يوجد لدى الحكومة والسلطة خطة استراتيجية، لاستثمار هذه المحميات وإنعاشها ليكون لها قبول عند الزوار. ورغم قلّة الإمكانيات، تستقبل محمية حوف آلاف الزوار سنوياً من داخل وخارج البلاد، خلال موسم الخريف".


وقال آل عفرار: "منذ العام 1967 وحتَّى هده اللحظة، لا توجد مشروعات تحيي الاستثمار في جانب السياحة في هذه المحمية". 



محمية حوف في محافظة المهرة، 16 يوليو 2022 (حسين أمين)


وأرجع ذلك إلى "إهمال الحكومات اليمنية المتعاقبة والسلطة المحلية رغم الملايين التي تدّرها منافذ المهرة، مثل: ميناء صرفيت في حوف والواقع بين سلطنة عُمان واليمن، ومنفذ شحن الذي يُعتبر شريان حياة ومصدر اقتصادي كبير للبلاد".


وبالنسبة إلى الوكيل سالم العبودي، فإنَّ جزءاً كبيراً من أسباب عدم الاستفادة المُثلى من محمية حوف يعود إلى "ضعف هيبة الدولة". وأضاف: "لقد أصبحت القبائل تتقاسم معظم قطاعات المحميات، وهذا يُعتبر أحد العوائق التي تحول دون الاستفادة من السياحة في المهرة".


أين تذهب العائدات؟


وفقاً للوكيل العبودي، "تتسلّم محافظة المهرة حالياً من الحكومة المركزية ما نسبته 20% فقط من إجمالي الموارد". وأضاف: "كنّا نتسلم أكثر من ذلك خلال الفترات السابقة. جميع مبالغ الإيرادات الرسمية يتم توريدها إلى البنك المركزي بعدن".


وقال الوكيل إنَّ "الحكومة المركزية تنصلت عن الالتزام بتمويل عدد من المشاريع التي تتجاوز كلفة بعضها 22 مليون دولار". وأضاف: "أصبحت السلطة المحلية مقيّدة، لا توفر الحكومة المركزية وظائف في مختلف القطاعات، مثل: التربية، التي يطالب فيها المتعاقدون بزيادة في الأجور وكذلك الصحة".


واعتبر أنّ السلطة المحلية بالمهرة أصبحت تتحمل مسؤولية ما وصفها بـ "الحكومة المركزية العاجزة".


وتابع: "يلاحظ الجميع أن المهرة بدأت خلال الأربعة أشهر الماضية، تدخل في جانب الأزمات، سواء على صعيد تأخر صرف المرتبات أو الكهرباء. يرجع ذلك إلى قلة المبالغ التي تتسلمها السلطة المحلية من الحكومة المركزيّة".


وعلى الرغم من قلة الإيرادات التي تتسلمها سلطة المهرة من الحكومة المركزية، اتهمت مصادر محلية السلطة بالمحسوبية في صرف بعض مناقصات البنية التحتية بالمحافظة، إضافة إلى الازدواجية في تمويلها.


وزعمت المصادر لـ«سوث24» أنّ "محافظ المهرة منح مناقصة مشروع تركيب إنارة بعض الشوارع في لأحد أقربائه، بكلفة 1200 دولار عن كل عمود إنارة يعمل على الطاقة الشمسية".



طرقات مدينة الغيضة بمحافظة المهرة، 24 يونيو 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)


 وأشارت المصادر إلى أنّ "إحدى المنظمات المانحة كانت قد تكفّلت بتمويل هذا المشروع على نفقتها". وعلى الرغم من ذلك، أقرّت المصادر بأنّ "المشروع تمّ تنفيذه بمواصفات وجودة عالية".


ولم يتسنَ لـ«سوث24» التأكد من هذه الاتهامات. لكنّ مصادر أخرى مقرّبة من سلطة المهرة، قالت إن "هذه الصفقات ليست هي المشبوهة فقط، بل إنَّ هناك صفقات أخرى غير مُعلنة لدى الرأي العام".


خدمات صحية متردية 


وإلى جانب الوضع الاقتصادي والمعيشي القاسي، يضيف القطاع الصحي المتردي معاناة أخرى إلى حياة أبناء المحافظة.


وعن هذا، قال الأستاذ أمين عامر: "كثير من أبناء المهرة يعانون من الخدمات الصحية التي تقدمها المستشفيات الحكومية، ويضطرون إلى السفر للخارج أو محافظات مجاورة لتلقي العلاج. لا وجود لعيادات متخصصة في مشافي المحافظة".


وتعليقاً على ذلك، قال وكيل المحافظة الكبودي: "تطلب الكوادر الطبية المتخصصة أجوراً عالية تتجاوز 3 آلاف دولار. هذه الأرقام تفوق قدرة السلطة المحلية". وتساءل " إذا لم تستطع الحكومة المركزية التكفل بدفع مرتبات الكادر الطبي، كيف ستستطيع السلطة المحلية القيام بذلك؟".


موجات النزوح


تعتبر المهرة أبرز الوجهات الرئيسية للنازحين من شمال اليمن بسبب الحرب. يضيف هؤلاء النازحون أعباء اقتصادية وخدمية وإنسانية على المحافظة.


وحول تأثير موجات النزوح على طبيعة الحياة في المهرة، قال المحامي آل عفرار: "تؤثر من خلال عدم توفر إحصائيات دقيقة في رصد النازحين، وكيفية إيوائهم واستيعاب هذا الكم الكبير، الذي يؤثر سلباً على موارد المحافظة والاستهلاك الخدمي والبنية التحتية بشكل عام، مثل: الكهرباء والشقق السكنية والمدارس وغيرها".


ورأى آل عفرار بضرورة "تحديد آليات وضوابط لاستقبال النازحين". وقال:" لا يُعقل أن تستقبل المهرة النازحين من جميع المحافظات دون تحديد نسبة لدعم المحافظة بسبب توافد النازحين". 



خيمة لنازحين من مناطق الحرب بشمال اليمن في المهرة، 26 يونيو 2022 (سوث24، عبد الله الشادلي)


ولفت إلى أنّ: "السلطة المحلية بالمهرة تدرس فكرة تحديد ضوابط لاستقبال النازحين، لكن لا توجد جهات صارمة تفرض ذلك بشكل حازم على الحكومة".


"أصبحنا غرباء في بلادنا، أمّا الشقق السكنية فقد ارتفعت أسعارها وبالكاد يجدها الناس"، قال المواطن خميس الكثيري لـ "سوث24". وأضاف: "معظم الذين قدموا من المحافظات الشمالية أصبحوا ينافسوننا في امتلاك العقارات. كيف يمكن لنازح أن يمتلك بيوتا وعقارات في غير منطقته؟".


الاغتراب


نظراً للأوضاع المعيشية الصعبة والحرمان، اتجه كثير من أبناء المهرة للاغتراب في دول المهجر لتوفير الحياة الكريمة للعائلات. 


وعن أسباب الاغتراب، قال المحامي آل عفرار: "غلاء المعيشة ومتطلبات الحياة على وجه الخصوص في المهرة، دفعت بالكثيرين للاغتراب؛ لترتيب حياتهم وسدّ رمق أسرهم وعائلاتهم".


وأضاف: "في المقابل، يعاني الشخص الذي لا يغترب ويعتمد على الوظيفة أو العمل الحُر من الهوان والفقر، ويعجز عن توفير حياة كريمة لأسرته".


لقد عزَّزت النقاط العسكرية التي انتشرت على طول الطريق أثناء مغادرتنا المهرة من الانطباع العام الذي تتركه المحافظة على أي زائر. إنَّها المنطقة شاسعة المساحة التي لا يُعرف عنها الكثير، حيث يعيش معظم السكان حالة الاغتراب الداخلي والحرمان والمعاناة.


وعلى الرغم من أن هويتها المهرية تكاد تكون مطموسة تماماً، تشعرك الغيضة، عاصمة المحافظة، بالحنين دوماً. وهو يجتاز النقاط ضعيفة التفتيش والتدقيق الأمني، يتساءل المرء كيف سيكون حال المهرة لو كانت لأبنائها فقط؟ 




صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


الكلمات المفتاحية:

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا