رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، ورئيس لجنة الحوار الجنوبي، د. صالح الحاج، خلال رفع وثيقة المثياق الوطني الجنوبي، بعد التوقيع عليها في عدن، 8 مايو 2023 (رسمي)
13-05-2023 الساعة 1 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | فريدة أحمد
بعد خمسة أيام منذ الإعلان عن عقد اللقاء التشاوري الجنوبي في العاصمة عدن في الرابع من مايو الحالي، بدعوة من المجلس الانتقالي الجنوبي، تمّ الاتفاق والتوقيع على جملة من الوثائق الوطنية الهامة، بمشاركة جنوبية واسعة، تجاوزت أكثر من 35 مكوّناً سياسياً وعدداً من الاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والمرأة والمشايخ والشخصيات الاجتماعية والمستقلين. وبمشاركة أكثر من 330 مندوبا عن مختلف محافظات الجنوب الثمان، وفقاً لتمثيل اعتمدته اللجان المنظمة على المساحة والسكان. وعُدّت الاستجابة والمشاركة لمجموع جنوبي بهذا الحجم؛ بمثابة خطوة تاريخية متقدمة، والأولى من نوعها على مستوى اللقاءات والحوارات الجنوبية التي تمّت من سابق.
ساهمت لجنتا الحوار الجنوبي بشقيه الداخلي والخارجي على مدى سنتين، خلال أكثر من 200 لقاء، على إذابة الجليد بين المكونات والأطياف السياسية المتباينة، وعملت على تهيئة الأجواء المسبقة لإيصال هذه الجموع الجنوبية إلى يوم الرابع من مايو أيار. إذ من الواضح أن الجنوبيين ارتأوا بعد سنوات من الشتات وغياب التوافق، أن يؤسسوا لمرحلة جديدة من الحوار الداخلي، ويتخذوا هذه الخطوة كثقافة ووسيلة حضارية لمعالجة وحل تبايناتهم المتجذّرة منذ استقلال الجنوب عن بريطانيا عام 1967 حتى اليوم. ورغم أن كثير من مناوئي المجلس الانتقالي الجنوبي قد درجوا على المبالغة في التقليل من أهمية الحوار الجنوبي منذ لحظة إعلانه في منتصف 2021، وحاولوا تحجيم أهمية الإجماع الجنوبي حول رؤية مشتركة واحدة، من خلال محاولة إبقاء قضية الجنوب في مربع هامشي ضمن قضايا أخرى يمنية، إلاّ أن جهود الجنوبيين، على النقيض من ذلك، نجحت في إحداث تقدم نوعي كبير بهذا الجانب.
القرارات الرسمية والوثائق التي تمّ إصدارها والتوقيع عليها خلال الأيام الماضية كمخرجات عن اللقاء التشاوري، من الواضح أنّها شكّلت خارطة طريق رئيسية ومهمة يمكن البناء عليها على مستوى جنوب اليمن مستقبلاً، وعلى مستوى التهيئة للدخول في مرحلة سلام شامل ينهي الصراع في اليمن. وقد كان أبرز ما تمّ التوقيع عليه هو "الميثاق الوطني الجنوبي"، الذي عدّه كثيرون بمثابة مسوّدة لدستور جنوبي سترسم معالمه وتفاصيله الكاملة في مستقبل ما بعد الحرب. خاصة وأنّه احتوى على ثلاث محاور رئيسية، أسس ومبادئ عامة وحاكمة، وقضية شعب الجنوب، وأحكام عامة.
بالتزامن، وبعد ساعات من اختتام اللقاء التشاوري الجنوبي في عدن بين الأطراف السياسية والمدنية والمجتمعية الجنوبية، جاءت قرارات الهيكلة السياسية للمجلس الانتقالي الجنوبي، لتشكّل هي الأخرى نقلة نوعية مهمة بالنسبة لعمل الأخير، لا سيّما وأن هيئة رئاسة الانتقالي شملت تعيين اثنين من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، "عبد الرحمن المحرمي"، و "فرج البحسني"، كنواب لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى جانب النائب "أحمد بن بريك". وهو تغيير مفاجئ وغير متوقع ضمن إعادة هيكلة المجلس.
إنّ حضور شخصيتين وازنتين، هم في الأساس عضوان في مجلس القيادة الرئاسي، ولديهما حضور عسكري كبير، سيعزز بلا شك من قدرات المجلس الانتقالي الجنوبي وحضوره على الصعيد الوطني. وقد بارك المحرمي و البحسني عقد اللقاء التشاوري في بيانات منفصلة، وأكدا على أهمية تنظيم العمل السياسي الجنوبي وتوحيده، من أجل تحقيق الانسجام بين القوى السياسية الجنوبية، ومن أجل الوقوف أمام الاستحقاقات السياسية في مشاورات الحل النهائي.
هل هو شبه إجماع؟
رغم المشاركة الجنوبية الواسعة في اللقاء الذي انعقد لخمسة أيام متواصلة في فندق كورال بالعاصمة عدن، غير أن عدداً من المكونات والشخصيات السياسية الجنوبية غابت عن الحضور. ولسببٍ غير واضح، عبّر البعض منها بالرفض عن المشاركة في بيانات منفصلة قبيل الحدث بساعات، رغم مشاركتها السابقة في سير مجريات الحوار ومباركتها خطواته. قد يكون لهذه الأطراف، التي لا يزيد حضورها عن 10%، أسبابها الخاصة في عدم الانضمام للمكوّنات الجنوبية الأخرى، منها ما قد يتعلق بمسألة التنظيم والدعوة للقاء، أو ربما الموقف المسبق من سياسات المجلس الانتقالي والتخوّف من ذوبان كياناتها في إطاره، أو أنّ لديها طموحاً سلطوياً لن يتحقق بالشراكة.
ومع ذلك، لا يبدو أن الأطراف غير المشاركة في اللقاء ستختلف مع المجلس الانتقالي الجنوبي وبقية الكيانات الجنوبية الأخرى في مسالة معالجة قضية الجنوب. فجميع من تم الالتقاء بهم من قبل لجان الحوار؛ عبّروا عن مدى أهمية تعزيز التلاحم والاصطفاف الجنوبي، من أجل "استعادة دولة الجنوب"، ذلك وفقاً للقائمين على الحوار. قد يكون هناك اختلاف نتيجة الإشكاليات المعقدة التي أفضت إليها التراكمات السياسية المتوالية، وأثّرت بشكل مباشر على العمل السياسي وبالذات في مسألة تمثيل قضية الجنوب، غير أنّ هناك شبه إجماع حول الخطوط العريضة المتعلقة بالهدف النهائي الذي يطمح إليه كثير من الجنوبيين والمتمثل في استعادة دولة الجنوب؛ بشكل فيدرالي جديد مستقل يتيح لأبناء الجنوب إدارة مناطقهم بأنفسهم، وهو ما يبدو الأهم في المرحلة الحالية بالنسبة لمن يتمسكون بهذا الخيار.
سيتعين على المجلس الانتقالي الجنوبي لكونه الداعي للحوار الجنوبي منذ البداية، مسؤولية السعي لتقريب وجهات النظر واستيعاب مختلف الرؤى والتصورات من مختلف الأطراف الجنوبية، كما يمكنه تقديم مبادرات إضافية لضمان ترتيب البيت الجنوبي قبيل الدخول في مرحلة مفاوضات وقف الحرب والتسوية السياسية الشاملة، خاصة وأنّ الانتقالي الجنوبي يؤكد تمسكه بوضع إطار تفاوضي خاص لقضية شعب الجنوب.
حسابات خارجية
تدرك القوى الإقليمية والدولية تماماً، أنّه منذ لحظة انضمام المجلس الانتقالي الجنوبي إلى مؤسسة الشرعية بصورة رسمية إبان اتفاق الرياض 2019، بأن لدى الانتقالي “مشروعاً سياسياً تحررياً" يختلف بشكل كلي عن مشروع الأطراف الشمالية في الحكومة المعترف بها دوليا. لذا، يبدو أنّه لم يكن لدى الإقليم أو المجتمع الدولي مبرراً للتعليق على سير مجريات اللقاء التشاوري خلال الأيام الماضية. بل إن المشاركين الجنوبيين في اللقاء وعبر البيان الختامي، دعوا الدول العربية الشقيقة والمجتمع الإقليمي والدولي إلى "احترام تطلعات شعب الجنوب وحقّه في نيل حريته واستقلاله واستعادة دولته الجنوبية المستقلة ".
لطالما ظل ملف الاستحقاق السياسي لقضية الجنوب مؤجلاً بالنسبة للخارج، نظراً لحساسيته الإقليمية والدولية ومدى تأثيره على مصالحها في بقعة جغرافية تشكّل أهمية استراتيجية، وبالذات في ظل الصراع القائم في اليمن، الأمر الذي نتج عنه تململ جنوبي واضح خلال السنوات الماضية. استطاعت دولة الإمارات، أن تحظى بثقة الجنوبيين، من خلال مشاركتها العسكرية على الأرض في الجنوب، ودعم تشكيل وبناء قوات مسلّحة ومدربة لتأمين وحماية البلد خلال السنوات الماضية. ورغم انسحابها من اليمن في 2019، من الواضح أنّها مازالت تدعم وتحترم خياراتهم السياسية وعدالة قضيتهم الوطنية. وهو ما يمكن تلمّسه مؤخراً من خلال تغريدات لـ إماراتيين مقربين من السلطة، تشيد بمخرجات اللقاء التشاوري الجنوبي وتؤيدها. بالمقابل تباينت تعليقات النشطاء والخبراء السعوديين، حول خطوة الحوار الجنوبي التي يقودها الانتقالي، بين الإشادة والنقد. ولا يعني تفسير ذلك بالضرورة أنّ المملكة العربية السعودية تقف على النقيض من السياسة الإماراتية بشأن مسألة الجنوب.
لكنّ اللافت في الأمر، أنّه وبالتزامن مع عقد اللقاء التشاوري في عدن، كانت هناك تحركات سعودية في محافظة حضرموت، بهدف، تسليم مطار الريان إلى السلطة المحلية في حضرموت، وذلك بعد سبع سنوات من التواجد الإماراتي "المحدود" فيه. وهو ما يُقرأ على أنّه مسعى سعودي لإزاحة أبوظبي من المشهد الأمني في حضرموت. وارتبط وجود القوات الإماراتية في المطار بدورها الأمني والعسكري الكبير منذ عام 2016، وبشكل خاص، ملف مكافحة الإرهاب الذي توّج بتحرير المكلا والمدن الساحلية على البحر العربي من تنظيم القاعدة. لكن يبدو أنّه بالنظر للتطورات السياسية الأخيرة ولقاء عدن التشاوري، خاصة وأنّ من يقود هذه المهمة حلفاء وثيقين لأبوظبي، قد يبدو مناسباً للرياض أن تخلق، من خلال قوات تدعمها مباشرة، ارتكازاً أمنياً جديداً لها في محافظة مهمة وحدودية كحضرموت ومنافذها الرئيسية، قبل أن تتجه أنظار الجميع نحو حضرموت مجددا، لا سيّما بعد الدعوة لانعقاد الدورة السادسة للجمعية الوطنية التابعة للمجلس الانتقالي في 21 مايو هناك.
في المحصّلة، من المهم أن يكون لدى صنّاع القرار الإقليميين والدوليين نظرة داعمة وإيجابية لما مثّله حدث اللقاء التشاوري الأخير في عدن، سواء من مسارات لفتح سبل الحوار أو التوافق في الرؤى والأفكار حول مستقبل الجنوب واليمن بشكل عام، خاصة وأن ذلك يشكل عملاً مسانداً ومهمة تكميلية للجهود الإقليمية والدولية لإيصال اليمن إلى مرحلة السلام الشامل. ومن المتوقع أن ينعقد مؤتمر جنوبي عام وشامل خلال المرحلة القادمة، للتوافق حول كل الوثائق المطروحة وغيرها، بحضور القوى الجنوبية التي لم تشارك مؤخراً في اللقاء.
تمثّل الوثائق الجنوبية التي خرج بها اللقاء التشاوري وأي وثائق قد تخرج بها أي لقاءات قادمة متوافق عليها، بمثابة مرجعيات أساسية عندما يتعلق الأمر بمستقبل جنوب اليمن. ففضلاً عن أنّها تتبنى رؤية مشتركة وجامعة بشأن خصوصية وضع جنوب اليمن، فهي تشكل ضامناً أساسياً لقضيتهم وما يمكن أن يحصلوا عليه من استحقاقات خلال مرحلة التسوية السياسية الشاملة في اليمن.
بالمقابل لا يمكن القطع أنّ هذه الجهود وحدها قد نجحت تماما في حماية الجنوب وتأمينه سياسيا وعسكريا، لا تزال التهديدات القادمة من صنعاء تتواتر كل يوم، منذ اختتام اللقاء التشاوري الجنوبي. نفّذت مليشيا الحوثيين، تزامنا مع اللقاء في عدن، مناورة عسكرية في مناطق حدودية للجنوب. كما هدد قادة حوثيون بشكل صريح بإعلان حرب للحفاظ على "الوحدة اليمنية". قال عضو فريق المفاوضات لجماعة الحوثي، عبد الكريم العجري، أنّ "الوحدة خط أحمر وما دونه شت الرماد". وهي مقولة مشابهة لنهج الأنظمة الشمالية السابقة في مواجهة دعوات الحراك الجنوبي المطالبة بـ "فك الارتباط" عن صنعاء. هذه الدعوات تذكير حاسم للجنوبيين بدرجة رئيسية، ولدول الجوار، وعلى رأسها السعودية، بالأطماع الحوثية في الجنوب ومنافذه البرية والبحرية الاستراتيجية. الأمر الذي يتطلب دعم وتعزيز جهود وحدة الصف السياسي والعسكري والأمني الجنوبي.