تعز: 3000 يوم من «الحصار» على أكبر كتلة سكانية باليمن

مدينة تعز، يوليو 2022 (أنس الحاج)

تعز: 3000 يوم من «الحصار» على أكبر كتلة سكانية باليمن

التقارير الخاصة

السبت, 15-07-2023 الساعة 05:06 مساءً بتوقيت عدن

سوث24 | هشام سرحان 

3  آلاف يوم منذ فرض حصار مُطبق على مدينة تعز، شمال اليمن، من قبل مليشيا الحوثيين المدعومة من إيران. قوّض هذا الحصار قدرة السكان على التنقل داخل المدينة اليمنية الأعلى من حيث الكثافة السكانية، وتسبب بأزمة إنسانية كبيرة متعددة المستويات. 

لقد أغلق الحوثيون طريق الحوبان، الطريق الرئيسية في تعز، وطرق أخرى، مما جعل السكان يلجؤون لطرق وعرة متهالكة تستهلك ساعات كاملة فقط للتنقل بين الجزء الخاضع للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، والجزء الخاضع لمليشيا الحوثيين. قبل الحصار، كانت عملية التنقل تستهلك دقائق فقط. 

أعاق هذا الحصار تدفق السلع والأدوية والغاز المنزلي، مما تسبب بمعاناة كبيرة للمواطنين على ضفتي الحرب على حد سواء. كما يعاني أولئك الساكنون بالقرب من خطوط التماس من أخطار الحرب والاشتباكات وأعمال القنص التي تحدث من حين لآخر لا سيما من قبل مقاتلي مليشيا الحوثيين.

شرايين مقطوعة 

يغلق الحوثيون معظم المنافذ الرئيسية لمدينة تعز، كمنفذ الحوبان - جولة القصر [الضاحية الشرقية لمدينة تعز]، ومنفذ جولة سوفيتيل - الأربعين شرقاً، وكذلك منفذ الستين - عصيفرة شمالاً، ومنفذ الستين - مصنع السمن والصابون شمال غرب، وهي طرق قصيرة ومُعبَّدة يمكن اجتيازها في غضون دقائق وبتكلفة يسيرة للغاية. 

وتعد هذه المنافذ شرايين الحياة الرئيسية في مدينة تعز، وخطوط إمداد بالسلع والبضائع والمواد الأساسية والطبية والوقود والمساعدات الإنسانية. كما تُعد منطقة الحوبان شرق المدينة، التي يسيطر عليها الحوثيون، الرئة الاقتصادية لمدينة تعز حيث تحتضن الجزء الأكبر من المصانع وأنشطة التجارة والقطاع الخاص.  


طريق ترابية بديلة في عزلة الأقروض - مديرية المسراخ - محافظة تعز، أكتوبر 2022 (مركز سوث24) 

ويخضع الملايين من سكان مدينة تعز والأرياف المحيطة بها في سبع مديريات هي صالة والمظفر والقاهرة [مركز المدينة]، وجبل حبشي ومقبنة والتعزية وصبر الموادم [محيط المدينة] لهذا الحصار. لقد باتت هذه المناطق معزولة تماماً عن مناطق سيطرة الحوثيين في شمال وشرق وغرب تعز.

علاوة على ذلك، تسبب قطع الطرقات بعزل هذه المناطق الخاضعة للحكومة عن المحافظات المجاورة لتعز مثل محافظتي إب والحديدة، ومحافظتي الضالع ولحج في الجنوب.

بدائل خطرة 

وللخروج من هذا السجن الكبير، يضطر السكان للتنقل عبر طرق بديلة طويلة ووعرة تشق كبد الجبال. ومن أبرز تلك الطرق "طريق الأقروض" غرب مديرية صبر، وطريق جبل حبشي، وثالث يمر بمديرية سامع جنوباً. ويستخدم الأخير في حال إغلاق نظيريه كما يقول السائق عبدالله كامل لمركز "سوث24".

ويربط طريق الأقروض الخطر مدينة تعز المحاصرة بالحوبان شرقاًـ وهو طريق جبلي يمر عبر منطقة الأقروض متخللا سلسلة "جبال طلوق" جنوب المدينة، والوديان السفلية لها بطول 60 كيلومتراً. 

وتمتد رحلة المسافرين عبر هذا الطريق وسط مساحة جغرافية شاسعة ومتباينة التضاريس، تبدأ بمنطقة الضباب غرب المدينة مرورًا بـ "نجد قسيم" التابع لمديرية المسراخ والأقروض في مديرية صبر الموادم، ومن ثم دمنة خدير والراهدة و"نقيل الإبل" وصولاً إلى الحوبان الخاضعة للحوثيين.

ويمر طريق جبل حبشي- مفرق شرعب البديل بخط الضباب غرباً ومفرق جبل حبشي والسائلة، ومن ثم جبل حبشي الشاهق وطريقه الضيق والملتوي والمعلق، وسائلة الصرام ومنطقة الأخلود والعيار وهجدة والرمادة والربيعي وصولاً إلى مفرق شرعب المؤدي إلى عدة مديريات أخرى.

تفتقر هذه المعابر البديلة إلى الحواجز وخدمات الهاتف النقال وفرق الإنقاذ والعلامات المرورية. كما أنَّها تحتاج للصيانة والترميم. 

كما تعَّد طريق "هيجة العبد" التي تربط تعز بمحافظة لحج، الشريان الوحيد من الجنوب لإمداد تعز بمختلف متطلبات الحياة من الغذاء وغيره، بعد قيام الحوثيين بإغلاق المنافذ الأخرى في مناطق سيطرتهم المجاورة للحج. لكنَّ هذه الطريق لا تختلف عن سابقيها في الوعورة والخطورة ونسبة الحوادث المرتفعة.  


طريق ترابية بديلة في عزلة الأقروض - مديرية المسراخ - محافظة تعز، أكتوبر 2022 (مركز سوث24) 

أعباء كبيرة 

أصبح من الصعب على الموظف الحكومي نائف عبد الله [58 عامًا] التنقل بين الجزء الخاضع للحكومة في مدينة تعز والجزء الخاضع لمليشيا الحوثيين. قال نائف لمركز "سوث24" إنَّه كان يفعل ذلك بشكل يومي قبل اندلاع الحرب وبدء الحصار الحوثي.

وأضاف: "كانت رحلتي إلى الحوبان تستغرق أقل من 15 دقيقة. كانت رحلة مريحة وقصيرة قليلة المخاطر وقليلة التكلفة. كنت أدفع 100 ريالًا فقط لوسيلة التنقل. هذا كله تغير منذ سنوات ولم يعد بإمكاني القيام بذلك". 

"اليوم إذا أردت الذهاب إلى الحوبان سيكون علي عبور طرق خطرة لمدة سبع ساعات على سيارة دفع رباعي"، أردف المواطن. مضيفًا: "أما تكلفة الأجرة فتصل إلى 15 ألف ريال يمني بالطبعات الحكومية الجديدة، أو 8 ألف ريال يمني بالطبعات القديمة المتداولة في مناطق سيطرة الحوثيين". 

عارف السبئي، بائع موز في مدينة تعز، لم يستطع زيارة أسرته في المناطق الخاضعة للحوثيين في عيد الأضحى هذه المرة. تعيش أسرة السبئي في مديرية "شرعب الرونة" كما أوضح لمركز "سوث24".

وأضاف: "ما قبل إغلاق الطرق من قبل الحوثيين كنت أزور أسرتي نهاية كل أسبوع. منذ إغلاقها قبل سنوات اقتصرت زيارتهم على مرة واحدة في العام وبالتحديد خلال عيد الأضحى المبارك. لكن حتَّى هذه المرة لم أحظ بها هذه السنة لارتفاع تكلفة التنقل وعدم توفر المال لدي".

قال السبئي إنَّه قضى العيد بعيدًا عن زوجته وأطفاله. وأوضح أن النقود التي يحصل عليها من بيع الموز يشتري بها عملة الريال السعودي ليقوم بتحويلها إلى أسرته.


طريق ترابية بديلة في عزلة الأقروض - مديرية المسراخ - محافظة تعز، أكتوبر 2022 (مركز سوث24) 

الطالب الجامعي معتصم خالد قال إنَّ الكثير من أقرانه من الطلاب، الساكنين في مناطق سيطرة الحوثيين، توقفوا عن الدراسة في جامعة تعز وجامعات خاصة أخرى في المناطق الحكومية. وأضاف لمركز "سوث24": "كان من المستحيل بالنسبة لأسر الطلاب تحمل تكلفة التنقل والمواصلات". 

وفي حديث لمركز "سوث24"، عدَّد وكيل أول محافظة تعز د. عبد القوي المخلافي أوجه المعاناة الناتجة عن إغلاق الطرقات، وفي مقدمتها منع تنقل السكان والبضائع، وحرمانهم من إمدادات المياه من مصدرها الرئيسي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، "ما خلق أزمة مياه حادة في المدينة".

وأضاف: "أنتج إغلاق الطرق أعباء وتداعيات إنسانية استثنائية في المدينة والمديريات المحاصرة، وأدى إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع وخصوصاً المواد الغذائية والدوائية. كما أوجد مخاطر بيئية بسبب عدم سماح الحوثيين بنقل النفايات والمخلفات الصلبة من المناطق المحاصرة إلى مقلب النفايات الوحيد غربي المدينة في مناطق سيطرتهم".  

ويؤكَّد مدير مكتب التخطيط والتعاون الدولي في تعز، نبيل جامل، الذي هو أيضًا عضو اللجنة الحكومية المعنية بمفاوضات فتح الطرقات، على حجم المعاناة والأعباء الكبيرة الناتجة عن استمرار إغلاق الطرق من قبل الحوثيين.

وقال لمركز "سوث24": "للحصار المتواصل تداعيات على المستوى الاقتصادي والإنساني والصحي والنفسي للسكان. ولو نظرنا للجانب الاقتصادي نجد أنَّ المضاعفات كبيرة، كما أنَّ الأعباء الإضافية الناتجة عن بعد الطريق ووعورته ومخاطره والقيمة المضافة على تكاليف النقل جميعها يتحملها المواطن".

وأضاف: "بفعل الحصار انعدمت بعض الخدمات، فمثلاً الكهرباء في المدينة غير متوفرة والمبرر الأساسي لذلك هو عدم القدرة على نقل مولدات كبيرة عبر طريق هيجة العبد [طريق بديلة وحيدة تصل تعز بجنوب اليمن] لصعوبة مرور القاطرات في هذا الطريق". 


طريق ترابية بديلة في عزلة الأقروض - مديرية المسراخ - محافظة تعز، أكتوبر 2022 (مركز سوث24) 

برفقة الموت 

لا تقتصر المأساة الإنسانية لإغلاق الطرق في تعز على ساعات السفر الطويلة والمرهقة والتكلفة المرتفعة، لكنَّه الموت الذي يسكن حواف الطرقات الجبلية الخطرة. يستذكر الشيخ القبلي عبد الحكيم السفياني ما حدث ذات يوم في الطريق البديلة بمديرية جبل حبشي.

وقال لمركز "سوث24": "بينما كان الأهالي ينفذون مبادرة لرص أحد مقاطع طريق جبل حبشي الذي يربط أكثر من عزلة داخل المديرية وخارجها، انقلبت سيارة ما أسفر عن إصابة 3 أشخاص بينهم السائق".

وأضاف: "بفعل وعورة الطريق حصلت حوادث كثيرة، وتعرَّضت الكثير من السيارات للانقلاب ما خلَّف خسائر مادية وبشرية فادحة".

وفي تقرير لمنظمة "رايتس رادار" الحقوقية، قالت المنظمة إنَّه بين يناير 2017 – يونيو 2022 أودى 87 حادث مروري في طرق تعز البديلة بحياة 90 شخصًا وإصابة 388 آخرين بجروح وإعاقات دائمة. وبلغت حجم الخسائر المادية 150 مليون ريال يمني، طبقًا للتقرير.  

وتزداد نسبة الخطورة في هذه الطرق خلال فصل الصيف وموسم تساقط الأمطار. تغمر السيول الحفر الكبيرة في هذه الطرقات وتجرف مقاطع منها مما يضاعف التحديات المميتة لعبور المسافرين. كما يتسبب ذلك غالبًا بقطع الطريق لساعات وتكدس السيارات والمركبات المحملة بالمواطنين والبضائع. 


طريق ترابية بديلة في عزلة الأقروض - مديرية المسراخ - محافظة تعز، أكتوبر 2022 (مركز سوث24) 

انتظر المواطن عبد الشريفي الذي ينقل ركابًا بسيارة صالون قرابة 4 ساعات في طريق جبل حبشي العام الماضي حتَّى توقف السيول ليمكنه العبور مع المسافرين الذين يقلهم. قال إنَّ أكثر ما أفزعه حينها صراخ الأطفال والنساء خوفًا من أن يجرف السيل مركبته التي يعيل منها أسرته في مديرية "شرعب السلام". 

نقاط الحوثيين  

 لم يكتف الحوثيون بحصارهم وقطع الطرقات في تعز، حيث تمارس النقاط الأمنية التابعة لهم في الطرقات البديلة انتهاكات متعددة من الاعتقال والاحتجاز إلى الترهيب والتضييق وسلب الأموال أحيانًا، كما يقول مواطنون لمركز "سوث24".

يستذكر الشاب أحمد عبد الله ما تعرَّض له ذات مرة في نقطة أمنية للحوثيين. وقال لـ "سوث24": "اقتادني مسلحون حوثيون إلى منطقة كثيفة الأشجار لإخضاعي لاستجواب بعد الاشتباه بأنَّي ضمن القوات الحكومية. قال لي أحدهم سنأخذك إلى سجن الصالح [معتقلات للحوثيين في مدينة الحوبان] حيث لن ترى الشمس".

أمَّا الشاب بكر الحميدي فقد تعّرض للضرب وسلب المال في إحدى نقاط الحوثيين. قال الحميدي لمركز "سوث24" إنَّ جنود من المليشيا اتهموه بإيصال مبالغ مالية لخصومهم من القوات الحكومية، قبل أن يضربوه ويسلبوا منه مبلغًا بالريالات السعودية. مضيفًا: "كنت أنوي شراء أرضية بذلك المبلغ". 

مأساة صحية  

تتجلَّى مأساة إغلاق الطرق في تعز في الجانب الصحي بشكل أكبر حيث يجد السكان في مناطق سيطرة الحوثيين صعوبة بالغة في الوصول إلى مستشفى الثورة العام ومراكز الغسيل الكلوي، التي تعد الوحيدة في المحافظة، والتي توجد في الجزء الحكومي.

وأشار مصدر مسؤول لمركز "سوث24" في مركز الكلى بهيئة مستشفى الثورة العام إلى أنَّ المرضى المسجلين في المركز من المديريات الواقعة خارج مدينة يشكلَّون نسبة 80% من إجمالي عدد المرضى.

لم يستطع المسن حسن أحمد، المصاب بسرطان الدم، الوصول من قريته في الريف إلى مركز الأمل لعلاج السرطان وسط مدينة تعز لتلقي العلاج بسبب وعورة الطريق وتكاليف المواصلات. قال نجله هاشم لمركز "سوث24" إنَّه كابد آلام مستمرة لأيام طويلة قبل أن يصل أخيرًا إلى مركز الأمل، لكنَّه كان في مرحلة حرجة لم يستجب فيها للعلاجات، ثم توفي بسبب المرض. 


مرضى في مركز الغسيل الكلوي التابع لهيئة مستشفى الثورة العام بمدينة تعز، يناير 2023 (مركز سوث24) 

وأضاف: "دفنَّا أبي في مقبرة هناك في المدينة. اليوم يصعب علينا زيارة قبره نظرًا لإغلاق الطرق. لا خيار أمامنا سوى الدعاء له". 

وإبان فترة تفشي جائحة كورونا، واجه السكان في مناطق سيطرة الحوثيين صعوبة كبيرة في الوصول إلى مراكز التحصين التي كانت في الجزء الحكومي، لاسيما المغتربين في السعودية ودول أخرى الذين كانوا بحاجة ماسة لأخذ جرعات اللقاحات والعودة إلى بلدان الاغتراب. 

نداءات متواصلة 

في 13 يوليو الجاري، أطلق نشطاء يمنيون هشتاج #تعز3000يوم_حصار للمطالبة بفتح الطرقات في المدينة ورفع الحصار الذي يفرضه الحوثيون. دعا محافظ تعز نبيل شمسان إلى التفاعل مع الحملة وقال إنَّ 4 ملايين إنسان "يعانون من ويلات الحصار الحوثي". 

ودشن محافظ تعز أسبوع التوثيق لذاكرة المدينة بالتزامن مع مرور 3000 يوم على الحصار. وقال إنَّ الحصار "تسبب بأزمة مياه تصل الى 75% من احتياج السكان، وتدمير 50% من شبكة الطرق، وارتفاع تكلفة السفر طول المسافة 1000%".

وأشار المحافظ إلى أنَّ الحوادث المرورية خلال فترة الحصار "التي بلغت 481 نتج عنها 374 حالة وفاة وإصابة 966 حالة وخسائر قدرت بـ 475 مليون دولار". ودعا شمسان الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الى "إيقاف هذه المعاناة والعقاب الجماعي بالضغط على مليشيا الحوثيين لفك الحصار..".

وأكد رئيس المجلس الرئاسي اليمني رشاد العليمي. على أنَّ قضية رفع الحصار عن تعز "أولوية قصوى في مساري السلام والردع العسكري".  وتوعد عضو الرئاسي رئيس المقاومة الوطنية التي تنتشر في المخا بتعز طارق صالح بإن حصار الحوثيين "ستكسره بنادق الرجال".  


هشام سرحان

صحفي يمني من محافظة تعز

اليمنتعزحصار تعزالأزمة اليمنيةطرق تعزالحوثيونشمال اليمن