من إحدى فعاليات مركز اللغة المهرية، أكتوبر 2021 (نقلا عن موقع المشاهد)
02-10-2023 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | عبد الله الشادلي
في جنوب اليمن، عاش سكان محافظة المهرة مع إرث ثقافي وتاريخي فريد من نوعه، تُميّزه اللغة "المهرية" الخاصة بأبناء هذه المحافظة الواقعة إلى الشرق من مدينة المكلا وعلى سواحل بحر العرب. على الرغم من أنّ هذه اللغة محكية وتقتصر على ألسن المتحدثين بها من أبناء المهرة، وتفتقر إلى وجود نظام كتابي أبجدي، يسهم في حفظها من مخاطر الاندثار التي تُهدّد بزوال مثل هذه اللغات القديمة، تماماً كنظيرتها السقطرية التي يتحدّث بها سكان أرخبيل سقطرى، ما زالت الأجيال المتعاقبة تتعلم اللغة المهرية بالتوارث من الأسلاف إلى اليوم.
ما يزيد عن 250 ألف شخص من داخل المهرة، وخارجها أيضاً ممن سكنوا مناطق مختلفة هم جمهور المتحدثين باللغة المهرية، وفقاً لما قاله مدير مركز اللغة المهرية بجامعة المهرة وعضو هيئة التدريس بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة، د. سعيد سعد نجادان القميري لمركز "سوث24".
تُصنّف اللغة المهرية على أنّها واحدة من أهم ست لغات، تنتمي جميعها من أسرة اللغات السامية الجنوبية الحديثة التي تواجه خطر الاندثار. ومن بين سبعة آلاف لغة حول العالم، تندثر في كل أسبوعين لغة واحدة، كما إنّه يُتوقع أن يندثر النصف من هذه اللغات بنهاية القرن الحالي، وفقاً لتقديرات علماء اللغات. واللغة المهرية، والخمس الأخريات، لسن بمعزل عن هذا الخطر.
ما هي هذه اللغة؟
في حديثه عن هذه اللغة، قال مدير مركز اللغة المهرية د. سعيد القميري إنّها "لسان عربي قديم يندرج ضمن عائلة اللغات السامية، وتحديداً هو لسان شبه الجزيرة العربية. يتكلم به سكان محافظة المهرة وبعض القبائل والشرائح الأخرى في المحافظة، وظفار بسلطنة عُمان، المنتمون نسباً إلى مهرة بن حيدان بن عمرو بن لحاف بن قضاعة، وبعد ذلك إلى مالك بن حمير".
ولفت أنّ "اللغة المهرية تجاوزت حدود المهرة، وأصبحت نسيجاً لغوياً في جميع البلدات المجاورة التي قطنتها بعض قبائل المهرة".
ووصف القميري اللغة المهرية بـ "المتحف اللغوي المتكامل"، مضيفاً: "يوجد في هذه اللغة مفردات وشواهد لغوية من جميع اللغات السامية، كالعربية الجنوبية، والأكادية والآرامية وغيرها من اللغات العربية القديمة".
"اللغة المهرية تمتاز بتراث ثقافي ولغوي غني يعكس تاريخ وتراث المنطقة"، وفقا لأستاذ اللغويات ونائب العميد للدراسات العليا بكلية الآداب بجامعة حضرموت، البروفسور حسن الفضلي. وقال لـ "سوث24"، إنها "واحدة من مجموعة اللغات العربية الجنوبية الحديثة الست التي تنتشر بين المهرة وجزيرة سقطرى وعمان".
لغات مشابهة
من حيث التشابه بين اللغة المهرية وبعض اللغات الأخرى: اللغة السقطرية والشحرية، على سبيل المثال، يشير القميري إلى أنّ "جميعها تنحدر من أصل واحد، وتتشابه في الجذر الفعلي، ثلاثي كان أم رباعي".
وعن أبرز الاختلافات بين اللغة المهرية والعربية، قال القميري: "تتكون المهرية من نفس حروف العربية إضافة إلى أصوات أصلية أخرى خاصة بالأولى"، ووفقاً للقميري: "نستطيع القول إن عدد حروف اللغة المهرية قد يصل إلى 33 حرفاً وصوتاً".
ويلفت القميري إلى أنّ جميع اللغات السامية بينها تشابه كبير، ومع ذلك هناك بعض الاختلافات. وقد ذَكر بعضاً منها في رسالة الدكتوراة وبعض أبحاثه باللغة الإنجليزية، مضيفاً: "لقد أسهب في الحديث عنها البروفيسور عامر فائل بلحاف في كتابه (مهرة في مصادر اللغة والأدب)".
ومن الأمثلة على الاختلافات بين اللغة المهرية واللغة العربية، وفقاً لما بيّنه د. سعيد القميري، ما يلي:
- ضمير الغائبة: استنادا لقول حسن ظاظا في كتابه (الساميون ولغاتهم)، إنّ التطور اللفظي لبعض حروف الصفير "كالسين" مثلاً، الذي حل محل "الهاء" في الضمير المنفصل، على سبيل المثال؛ الضمير الغائب "هو" في العربية الفصحى يقال "سو" في العربية الجنوبية و"شو" في اللغتين "البابلية" و"الآشورية". مثل هذه الحالة، توجد في اللغة المهرية، ويُقال "سيه" للمفرد المؤنث الغائب "هي"، و"سين" للجمع المؤنث الغائب "هنَّ".
- وزن التعدية: وفقاً لدراسة الدكتور محمود حجازي، إنّ من السمات الأساسية في "السبئية" القديمة استخدام الهاء في عدد من الصيغ الصرفية، حيث إنّ وزن التعدية في العربية الشمالية "أفعل" يقابله في السبئية "هفعل". هذه الصيغة لا تزال شائعة الاستخدام في اللغة المهرية، ومن أمثلتها: "هِبْهُول": بمعنى أنضجَ الأكل؟
- مخرج الضاد المهرية: وصف سيبويه أنّ "الضاد" القديمة مخرجها من بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج "الضاد". وكذلك عند ابن جني، وزاد "إلا أنك إن شئت تكلفتها من أحد الجانبين الأيمن أو الأيسر". هذا الوصف ينطبق تماما على "الضاد" المهرية، فهي "ضاد" قديمة وليست كالضاد العربية الحديثة والتي هي صوت أسناني لثوي ذو وقفة انفجارية مجهورة مفخمة مطبقة.
في دولة أثيوبيا، تأتي اللغة "الأمهريّة" كثاني لغة رسمية في البلاد، وهي لغة سامية يتحدثها الأثيوبيون، وتتكون من 33 حرفاً أساسياً. هذه اللغة يُعتقد أنّها من أقرب اللغات إلى المهرية، بما فيها العربية، كما أنّها تشترك مع اللغة المهرية حتَّى في عدد حروف اللغة.
يتّفق مع هذه الجزئية أستاذ اللغويات بجامعة حضرموت، البروفيسور حسن الفضلي. مضيفاً: "الأمهرية التي يتحدثها سكان بعض المناطق في الحبشة بأفريقيا. تشترك في بعض الكلمات والمفردات والتراكيب اللغوية كما في المهرية، واللغتان تنتميان إلى الفرع السامي من العائلة اللغوية الأفروآسيوية".
ورغم أوجه التقارب بين هاتين اللغتين، يؤكد الفضلي على أنّه "يجب ملاحظة أنّ اللغتين بهما، أيضاً، اختلافات في النظام الصوتي والقواعد النحوية والصرفية". إلى جانب تلك اللغة، ينوّه الفضلي إلى وجود تقارب كبير في المفردات وبعض الجوانب الصرفية بين اللغة المهرية، واللهجة الحضرمية [عربية الأصل] بساحل محافظة حضرموت.
نماذج من اللغة المهرية
في حديث لمركز "سوث24"، أورد الناشط الإعلامي المهري هزاع السليمي، بعض الأمثلة لكلمات وجمل مهرية وما يقابلها في العربية، كالآتي:
الكلمة/ الجملة المهرية | المقابل باللغة العربية |
أمْولْ | فعل أمر للحث على فعل شيء ما |
ذَيْامُول | فعل مضارع للمذكر |
تَامُولْ | فعل مضارع للمؤنث |
أصرومه | الآن أو حالياً |
مْغُوُرْنْ | التالي |
هَاوِيْلَنْ | تدلُّ على ما قبل وقوع الشيء |
ذَرْيِهْمْ | نقود |
حَاصْنْ أو مَنْقَلاتْ | منزل |
حَصّوْنْ | منازل |
مَذوسِيت | مدرسة |
مَذَوْرَسْ | مدارس |
هُوهْ أو تِي هُوهْ | ضمير المتكلِّم أنا ويستخدم للإشارة إلى كلا الجنسين |
هِيْتْ | أنتِ ويستخدم للإشارة إلى المفرد المؤنث |
تِامْ أو هَامْ | أنتم ويستخدم للإشارة إلى الجمع المذكر |
سِيْهْ | ويستخدم للإشارة إلى المؤنث المفرد |
تَانْ أو سَانْ | ويستخدم للإشارة إلى الجمع المؤنث |
ذومه حاصِن قيد | هذا منزل جميل |
شوقاك براك اطريت حمك تفكِيك لي | وقعت في مشكلة أرجوك ساعدني |
لم يقتصر الاهتمام باللغة المهرية على الباحثين المهريين فحسب، أو حتى العرب، فقد كانت هذه اللغة وتفاصيلها محطَّ اهتمام كثير من الباحثين الأجانب، طبقًا لأستاذ اللغويات بجامعة حضرموت حسن الفضلي. "لقد بدأ الاهتمام الذي أظهره خبراء وباحثون غير عرب باللغة المهرية منذ القرن التاسع عشر وتحديدا عام 1845، وتبعه بعد ذلك الحملة النمساوية العلمية في 1898".
وأضاف: "بشكل عام، يمكن أن يكون هناك اهتمام من قبل بعض الخبراء والباحثين غير العرب باللغة المهرية نظرًا لتنوعها اللغوي وثقافتها، ومساهمتها في فهم التنوع البشري وتأثيرها على المجتمعات".
ويرى الفضلي أنّ أهمية اللغة المهرية – في الوقت الراهن – تكمن في جوانب عديدة، من أبرزها: البحث والدراسات العلمية، حيث يُمكن لهذه اللغة أن تشكّل موضوعاً جديراً بالبحث والدراسة، ويمكن استكشاف تاريخها، وتطورها، وأثرها في المنطقة. كما يمكن للدراسات العلمية أن تُسهم في إثراء المعرفة حول اللغة والتراث المهري.
وعن الدور الذي لعبته اللغة المهرية في الحفاظ على تاريخ الثقافة المهرية والأدب والفنون، قال د. سعيد القميري: "للغة المهرية دور كبير في الحفاظ على الهوية والثقافة. على سبيل المثال، الشعر المهري بمختلف أنواعه هو الحامل الرئيسي للثقافة المهرية، فالشعر هو من جعل اللغة أكثر تداولاً، لانَّ الإنسان المهري يعشق فنون الشعر، لذلك تجده يحرص على مزاولة فنونه، وهو خالد في صدور وعقول جميع متحدثي اللغة المهرية".
التحديات
منذ أكثر من 10 سنوات أصدرت منظمة اليونسكو أطلس لغات العالم التي تواجه خطر الاندثار وكانت من بينها اللغة المهرية. والقاسم المشترك بين كثير من اللغات المهددة بالانقراض هو أنها لغات منطوقة، وبلا نظام كتابي أبجدي.
يرى البروفيسور حسن الفضلي أنّ عدم وجود نظام كتابي موحّد ومعترف به رسميًا للغة المهرية، قد يؤثر على استمرارية اللغة ويشكل تحديًا لبقائها في المستقبل. ولفت إلى أنّ النظام الكتابي الرسمي يلعب دوراً هاماً في توثيق اللغة وتعلمها وتداولها بين الأجيال، ويساعد في تواصل الأفراد والكتابة والنشر والتوثيق اللغوي.
ورغم أهمية إنشاء نظام كتابي للغة المهرية، لا يعتبر الفضلي أن عدم توفّر ذلك حتّى الآن سيجعلها بالضرورة تختفي. لافتاً إلى أنّ بعض اللغات الشفهية الأخرى استمرت لآلاف السنين دون وجود نظام كتابي مكتوب. مضيفًا: "لا يزال بإمكان اللغة البقاء والاستمرارية من خلال النقل الشفهي واستخدامها في الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي بين المتحدثين".
وعدّد القميري بعض التحديات التي تواجه اللغة المهرية في الوقت الراهن، مثل: "قلة الوعي والاهتمام الحكومي وحتَّى المجتمعي، والمفهوم الضيق لدى البعض واعتبارهم أنّ الخوض في مجال دراسة هذه اللغة شأن مناطقي، وأشار إلى أنّ اللغة المهرية لم تخرج عن إطارها الجغرافي، فالجامعات اليمنية والمؤسسات البحثية لم تبذل جهوداً كبيرة في دراسة هذا الإرث الوطني".
وعن مدى تراجع استخدام اللغة المهرية في الوقت الحاضر مع ضروريات الحياة التي تتطلب استخدام وسائل التكنولوجيا، مثل: الهاتف، الحاسوب والتلفاز، قال القميري إنَّه "لا يوجد تراجع كبير في استخدامها". ومع ذلك، لا يخفي القميري وجود "انحدار بسيط في الاستخدام"، على حد تعبيره، لكنَّه يعدُّه "شيئاً طبيعياً بحسب التداخل اللغوي، ومؤثرات الحداثة والعولمة".
جهود
يعتبر د. سعيد القميري إنشاء مركز اللغة المهرية في 2 أكتوبر من العام 2017 برئاسته، أحد أهم الخطوات والإنجازات نحو الحفاظ على اللغة المهرية. ولفت القميري إلى أنَّ أبناء المهرة أصبحوا يحتفلون بيوم تأسيس المركز من كل عام ويُطلقون عليه "يوم اللغة المهرية" .
وتطرّق القميري إلى بعض جهود المركز في هذا الصدد، وقال: "لقد وضع مركز اللغة المهرية اللبنات الأولى لإنشاء نظام كتابي خاص باللغة المهرية وحصر وتوثيق مفرداتها، بعد أن ظلت تتناقل شفهياً من جيل لآخر".
وأضاف القميري: "يقوم المركز بالعمل المستمر في توثيق التراث الشعبي والعادات والأدب والشعر المهري، وأصدر العديد من الأبحاث العلمية والترجمات المفيدة للأعمال الأجنبية المتعلقة بالمهرة، سواءً فيما يتعلق باللغة أو الأرض أو الثقافة".
وأشار إلى أنّ المركز نظّم العديد من المؤتمرات العلمية لدراسة اللغة المهرية وشارك في الندوات والمؤتمرات الدولية المتعلقة بها، وأقام شراكات محلية وإقليمية ودولية من أجل تعزيز هذه اللغة وتعزيز البحث العلمي فيها.
وفي 8 مايو الماضي، شدد البيان الختامي للقاء التشاوري الجنوبي المنعقد بالعاصمة عدن، على احترام الخصوصيات التاريخية والثقافية لمختلف مناطق الجنوب، واعتماد اللغتين المهرية والسقطرية بشكل رسمي في إقليمهما.