عربي

نظرية «الردع الإسرائيلي» بين حرب الغفران وطوفان الأقصى

جندي إسرائيلي منهك من القتال على حدود غزة. © AFP- JACK GUE

22-10-2023 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol language-symbol

تُعد نظرية "الردع الإسرائيلي" إحدى الركائز الأساسية للسياسة الأمنية الإسرائيلية، والتي تسعى من خلالها إلى تحقيق أهدافها أو المحافظة على وجودها ومصالحها، سواء من ناحية دفاعية أو هجومية. وقد شهدت هذه النظرية تطوراً نوعياً بعد عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية.


سوث24 | د. إيمان زهران  


بدأ التأصيل لـ "نظرية الردع" فيما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ يُنظر إلى "الردع" كمركب من مركبات العقيدة الأمنية للدول، وهو يهدف في حده الأدنى إلى المحافظة على الوضع الاستراتيجي القائم وعدم تحوله إلى بيئة معادية تستلزم تفعيل القوة العسكرية، بينما يصل في حده الأعلى إلى فرض الإرادة السياسية على الخصم من دون حروب. ومن هنا، يأتي تفسير مدى تمسك العقيدة الأمنية الإسرائيلية بمبدأ الردع، كمكون أساسي لها، لتحقيق أهداف إسرائيل أو المحافظة على وجودها ومصالحها، سواء من ناحية دفاعية أو هجومية، وذلك استنادا إلى التوظيفات الإسرائيلية لمفهوم "الردع " عبر مسارين، "الردع بالمنع" و"الردع بالعقاب"، ولكل منهما مهمة عينية تتحدد وفقاً للظروف الموضوعية وقدرات الخصم. [1]


تأسيساً على ذلك، فرضت عملية "طوفان الأقصى" تطوراً نوعيا مختلفاً عن سابقيه من خلال إعادة الأذهان إلى حرب أكتوبر (حرب الغفران) عام 1973، على نحو ما قد يفرض معادلات مغايرة بعدما كسرت قواعد الاشتباك السابقة وحطمت معادلة الردع الإسرائيلي السيناريوهات المُعتادة والتي تنتهي دوماً باتفاق لوقف إطلاق النار ورعاية إقليمية لهدنة مؤقتة، للاتجاه نحو سيناريوهات "الحرب المفتوحة" في ظل دعم دولي غير محدود لاستعادة معادلة " الردع الإسرائيلي" والتي كانت قد فقدتها مُسبقاً إبان حرب الغفران (حرب أكتوبر) في عام 1973.  


أوجه التلاقي والخلاف


ربطت العديد من التحليلات السياسية بين عملية "طوفان الأقصى" وحرب التحرير (أكتوبر 1973) في عدد من اللمحات المشتركة، بالمقابل، هناك نقاط خلاف ما بين الحدثين وذلك بالنظر إلى عدد من السياقات السياسية والميدانية العسكرية التالية: 


1. أولا - أوجه التشابه [2]:


- السياق الزمني: إذ تزامنت عملية طوفان الأقصى مع "عيد العرش" وفترة "سمحات توراه - بهجة التوراة" التي تشهد فيها الثكنات العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات حالة من الهدوء النسبي. بما يتماثل مع استراتيجية حرب أكتوبر1973 والتي تزامنت مع عيد الغفران.  


- التكتيك العملياتي: تتمثل في اعتماد المقاومة حماس على استراتيجية الهجوم والمباغتة الاستباقية والتحلل من ممارسات "رد الفعل"، واعتماد نظرية "الهجوم العملياتي المزدوج". وهو ما يتفق مع التكتيك العملياتي لسياقات حرب "يوم الغفران"؛ والتي اعتمدت على عنصر المفاجأة على كل من الجبهتين المصرية والسورية.


- تخطيط مُسبق: وذلك بالنظر إلى طبيعة العمليات النوعية لطوفان الأقصى والتي كشفت عن تخطيط مسبق لخريطة التحرك وذلك على مستويين الأول: "المستوى الجوي" عبر إطلاق الصواريخ والقذائف بكثافة على مواقع الاستهداف، والثاني: "المستوى البري" عبر تنظيم عمليات اقتحام منظّمة للمستوطنات الإسرائيلية على الغلاف الحدودي، وذلك عبر الاستفادة من الخبرات التاريخية لتطور التكتيكات الهجومية للفصائل الفلسطينية منذ عملية "الثأر المقدس" عام 1996 وصولاً إلى عملية "طوفان الأقصى". وهو ما يتسق مع النمط العملياتي لحرب أكتوبر 1973 والتي اعتمدت على تخطيط مُسبق وتدريب مكثف خلال الفترة الممتدة بحرب الاستنزاف من 8 مارس 1969 إلى 8 أغسطس 1970. 


- وحدة الساحات: وهي تلك النظرية التي تم اختبارها من جانب "حماس" عبر الدفع بالنفير العام لكافة فصائل "المقاومة" الفلسطينية للمشاركة بـ "طوفان الأقصى"، وهو ما يتطابق مع استراتيجية حرب أكتوبر 1973، حيث تحرك كل من الجيشين المصري والسوري لاختراق الدفاعات الإسرائيلية على نحو غير متوقع، ووجها إلى الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية ضربة نفسية/ سيكولوجية أفقدتهم التوازن الاستراتيجي.  


2. ثانيا - أوجه الخلاف: 


- الأوضاع السياسية والأمنية: تتباين الأبعاد السياسية والأمنية ما بين الحدثين، فبالنظر للحالة السياسية إبان حرب أكتوبر1973، فالحرب كانت نظامية بين جيوش دولتين تعتمد أمنياً على نمط "الحروب الكلاسيكية"، بينما عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من عملية السيوف الحديدية، فقد سجل السياق السياسي للحرب أبعاداً غير نظامية ما بين جيش دولة مقابل حركات المقاومة والميليشيات المسلحة؛ والتي تعتمد وفقاً للنسق العملياتي على نمط الحروب الخاطفة وعمليات الكر والفر.  


- حالة الإقليم: ساهمت حالة "أكتوبر 1973" والتي عُرفت بحرب يوم الغفران بوحدة الإدراك العربي حول أهمية دعم القضية المصرية، وهو ما تم ترجمته في قرارات العديد من الدول العربية لدعم الحرب على الجبهتين المصرية والسورية، إذ كان يُنظر لـ "الكيان الإسرائيلي" بكونه مُحتل والعدو الأول للعرب. فعلى سبيل المثال: عقب اندلاع حرب أكتوبر اجتمع الملك فيصل بوزراء البترول العرب، وقرر تخفيض الإنتاج الكلي العربي بنسبة 5%، وتخفيض 5% من الإنتاج كل شهر حتى تنسحب إسرائيل إلى خطوط ما قبل يونيو 1967. كما قررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى الدول التي يثبت تأييدها لإسرائيل. بالمقابل، ثمة تخلخل بالإدراك العربي حول دعم فصائل المقاومة الفلسطينية نتيجة لعدد من الاعتبارات، أبرزهم مشروعات الاندماج الإقليمي، وكذلك ما يتعلق بإبرام عدد من الدول العربية لاتفاقيات التطبيع "الاتفاقيات الإبراهيمية". 


- التعزيزات العسكرية: تختلف التعزيزات العسكرية بالنسبة لحرب أكتوبر والتي تُعد آخر الحروب الكلاسيكية بالشرق الأوسط، حيث اعتمدت على الأسلحة النوعية بالإضافة إلى التحرك في إطار عقيدة "الجندي المقاتل"، فضلاً عن الحديث عن ما يُعرف بـ "التوازن العسكري- The Military Balance"، الذي كانت تعتمد مقارناته بين القوات العسكرية على عدد المُعدات والأسلحة التي يمتلكها طرفي الصراع المصري الإسرائيلي.  بالمقابل، يختل ميزان التعزيزات العسكرية لحركات وفصائل المقاومة، والتي تعتمد بشكل كبير على الأسلحة محلية الصنع، فضلاً عن استقدام دعمها من حركات وفواعل أخرى من دون الدول مثل حزب الله، والذي يُعتمد بصورة رئيسية على نمط التسليح الإيراني، الذي واجه بدوره العديد من العثرات بأنظمة التحديث جراء الضغوطات الدولية والحصار المفروض على طهران.  


وعلى الرغم من وجود عدد من نقاط التلاقي ما بين التحركين فيما يتعلق بوحدة العدو والسياق الزمني للحدث واعتماد استراتيجيات المباغتة والهجوم. إلا أنّ نقاط الاختلاف أكثر بكثير، فلا يمكن مقارنة دولة وطنية وجيشها بحركة/ أو فصيل من فصائل المقاومة بقطاع مجتزأ سياسياً وأمنياً. إلا أنه لا يمكن بالتحليل إغفال النجاح الجزئي لطوفان الأقصى في انكشاف نظرية "الردع الإسرائيلي" على نحو ما قد يدفع بالتساؤل "ماذا بعد الهجوم؟َ".  


تطورات المشهد العملياتي 


تفاقمت الأوضاع السياسية والأمنية والإنسانية بقطاع غزة مع ارتفاع وتيرة الهجوم الإسرائيلي المضاد في إطار ما يُعرف بـ "السيوف الحديدية" كمحاولة لاستعادة نظرية "الردع الإسرائيلي"، فضلاً عن الفرضيات المتباينة بسيناريوهات الاجتياح البري من جانب قواته على نحو ما قد يُنذر بإبادة جماعية أو تهجير قسري، مما قد يؤسس لعدد من النقاط التالية:  


- تصفية القضية الفلسطينية: إذ يسعى الجيش الإسرائيلي عبر هجماته الممتدة على غلاف غزة إلى تصفية القضية الفلسطينية من "أصحاب الأرض وسكانها وإجبارهم على تركها بتخييرهم بين الموت تحت القصف الإسرائيلي أو النزوح خارج أراضيهم نحو سيناء المصرية عبر "سيناريو التوطين"، وهو ما ترفضه الدولة المصرية، والسلطة والشعب الفلسطيني، وما تُجرّمه القواعد والأعراف الدولية. حيث إن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول 1977 يحظران النقل الجماعي أو الفردي للمدنيين من أراضيهم أثناء النزاعات، كما أن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يعتبر التهجير القسري للسكان جريمة حرب. [3]


- إعادة الهندسة الجيوبولتيكية: تُبنى تلك الفرضية على إحدى النظريات الجيبوبوليتيكة الخاصة بـ "أحزمة التحطم"، لـ "فيليب كيلي [4] -Philip L. Kelly ، وكولن غراي [5] –Colin Gray "  في كتاباتهم بشأن تصاعد الصراع الإقليمي من المنظور الجيوبوليتيكي. ففي إطار لعُبة "توازنات القوى" فإن الصراعات تُشكل مجالاً خصبا لاستدراك القوى الخارجية للتدخل استناداً لنظريتي "التمدد الحيوي -  تقاسم النفوذ". وإسقاطاً على الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتطورات عمليتي "طوفان الاقصى – السيوف الحديدية"، فإنها بمثابة "نافذة" لإعادة التنافس الدولي على المنطقة وهو ما يتضح في تحركات الولايات المتحدة الأمريكية + الكتلة الأوروبية لدعم إسرائيل، مقابل التحركات الروسية والصينية وعدد من الدول الغربية بمجلس الأمن الرافضة للهجمات المتتالية للجيش الإسرائيلي، وذلك في إطار إعادة ترسيم الخيارات السياسية لكلا الأطراف الدولية وفقاً لمحددات وخصائص إقليمية جديدة يُعاد تشكيها حالياً في إطار ما بات يُعرف بـ "خريطة أحزمة التحطم"، التي أوجدت مناطق نفوذ ومواطئ قدم استراتيجية للقوى المناوئة لواشنطن وحليفتها الاستراتيجية تل أبيب، على نحو مكنها من تطويق هذه الأخيرة عبر "حزام تحطم" بؤر الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط بكل من سوريا ولبنان والعراق. [6]


- ازدواجية الموقف الغربي: تتعلق بصورة مباشرة في الخطاب الإعلامي الغربي، والذي رسّخ لـ "ازدواجية المعايير" قياساً على تناوله لأحداث الأزمة الأوكرانية، مقارنة بسلبية خطاباته بالنظر لتطورات عملية "السيوف الحديدية" والهجوم الإسرائيلي في إطار سياسات "العقاب الجماعي". فعلى سبيل المثال: فرضت كثير من الدول الغربية + الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على موسكو وفتحت حدودها أمام اللاجئين الأوكرانيين بعد الحرب، في حين باشرت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً حول جرائم حرب محتملة في أوكرانيا، وهو المغاير تماماً للموقف الغربي – سياسياً وإعلامياً - مع التطورات العملياتية لعملية "السيوف الحديدية" والهجوم الإسرائيلي المكثف على المدنيين في غزة حد الانتقام والإبادة بما يتنافى مع كافة المواثيق والأعراف الدولية والإنسانية.  


- موقف اتفاقيات التطبيع: من المُحتمل حدوث جموداً في مسار التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل برغم كافة الضغوط الأمريكية. إذ لم يعد بمقدور عدد من العواصم العربية، سواء التي أبرمت اتفاقيات التطبيع أو المُحتملة خلال الفترة القادمة، أن تجد أي مبررات لهذا النهج في ظل تصاعد منحنى الأحداث بغزة. ومن ثمّ، فالحديث عن توسيع ما يسمى بـ "معسكر السلام" من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية، قد يُعاد النظر إليه مرة أخرى وفقاً لاعتبارين، أولاً: غضب الشعب العربي جراء ما يحدث من "عقاب جماعي" و"إبادة ممنهجة" لشعب غزة بما قد يضغط على قرارات الحكام العرب نحو تجميد أي مُباحثات قائمة أو مُحتملة في هذا الشأن. وثانياً: الانكشاف الأمريكي في ظل التأييد الكامل للجانب الإسرائيلي دون النظر لأي معايير سياسية أو إنسانية قياساً على تناول الحكومة الديمقراطية والرئيس جو بايدن للحالة الأوكرانية. 


ماذا بعد؟


دخلت الأوضاع الميدانية والإنسانية مجالاً حرجاً بما يتطلب معه التدخل السريع لخفض التصعيد واحتواء الموقف بما يتوافق مع تطور النمط الصراعي وتمدد المشهد العملياتي، وبما يتوافق مع الأوراق التفاوضية المتاحة والمُحتملة لفرض التهدئة، وهو ما يتضح بردود الأفعال والتحركات المتباينة إقليمياً ودولياً، وذلك بالنظر إلى النقاط التالية:    



Cleary Waldo& others, International Reactions to the Hamas Attack on Israel, 2023/10/11 - The Washington Institute 


- التحركات العربية: تتمثل في تحركات متباينة لمحاولة احتواء التصعيد القائم وتطويق ومحاصرة سيناريوهات "الحرب المفتوحة"، وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع حال تطور الصراع بنقطتين، أولاً: ما يتعلق باتساع النطاق العملياتي ليشتمل على أطراف أخرى، وفي مقدمتها "حزب الله في لبنان، الميليشيات المسلحة في سوريا، والحوثيون في اليمن، أذرع الحرس الثوري الإيراني. وثانياً: ما يتعلق بالتغير في تكتيكات "السيوف الحديدية" على نحو الاجتياح البري الإسرائيلي، وما يترتب على ذلك العديد من الانعكاسات السلبية على المستويين السياسي/الأمني، والإنساني، أبرزها إزاحة الاضطرابات الأمنية خارج غلاف غزة وتصديرها لدول الإقليم. وهو ما تنبهت له الدول العربية عبر التحركات التالية:  


1. تحركات القاهرة: منذ الدقائق الأولى لعملية "طوفان الأقصى" والرد الإسرائيلي بعملية "السيوف الحديدية"، بدأت القاهرة تحركاتها لمحاولة محاصرة التمدد بالصراع القائم عبر عدد من المسارات، الأول: بيانات التنديد الرسمية وذلك منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة حماس، وقابلتها إسرائيل بإطلاق عملية "السيوف الحديدية". وحذّرت مصر في هذا البيان، من "المخاطر الوخيمة" لتصاعد العنف، ودعت الأطراف الدولية الفاعلة إلى التدخل، للوصول إلى هدنة [7]. وما تلاها بعد ذلك من تصريحات رسمية رافضة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأمن القومي المصري، ورفض مخطط التهجير وتوطين سكان غزة بأراضي سيناء المصرية [8]. ثانياً: على المستوى الإقليمي عبر تكيف التحركات الثنائية مع القادة العرب لتطابق الرؤى وترسيخ الإدراك والوعي بأهمية "القومية العربية" وتعزيز التشاور حول القضية الفلسطينية، والمباحثات مع كافة قادة المنطقة لخفض أعمال التصعيد والتصدي لكافة المخططات لتوطين الفلسطينيين في سيناء المصرية. وثالثاً: تقديم دعم إنساني مباشر للأشقاء وذلك عبر الهلال الأحمر المصري وتقديم شحنة مساعدات على دفعات متتالية بلغت أطنان من المستلزمات الطبية عبر معبر رفح قبل وقف حركة المرور. ورابعاً: التنسيق مع الأطراف الخارجية لتأمين وصول المساعدات الإنسانية للقطاع في ظل تكثيف الهجوم والضربات الإسرائيلية المتلاحقة على قطاع غزة. خامساً: التدويل المصري للقضية الفلسطينية والانتقال بالتنسيق السياسي والأمني من المستوى الإقليمي إلى المستوى الدولي، وذلك عبر عقد "قمة القاهرة للسلام" في 21 أكتوبر2023، بمشاركة العديد من الدول العربية ذات الثقل وبعض الدول الأخرى، والأمين العام للأمم المتحدة، لمناقشة خفض التصعيد في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة. ويهدف ذلك إلى إدخال المساعدات الإنسانية بصفة مستمرة ومستدامة عبر معبر رفح، بالإضافة إلى محاولة الخروج بتوصيات ناجعة يُبنى عليها كخارطة طريق لمرحلة ما بعد "طوفان الأقصى – والسيوف الحديدية". وعلى الرغم من انتهاء قمة القاهرة دون صدور بيان ختامي نتيجة تفاوت الموقفين الأوروبي والعربي، إلا أنها سجلت خطوة هامة بتوقيت حرج للغاية نحو حلحلة جمود العملية السياسية وتحريك المياه الراكدة بملف القضية الفلسطينية. 


2. أدوار إقليمية: تمت على عدد من المسارات أبرزها، أولاً على المستوى السياسي: عبر التنديد بالبيانات الرسمية، وتلك التي تتعلق بمحاولة لعقد مشاورات تستهدف خفض التصعيد وإلزام الجانب الإسرائيلي لإبرام "هدنة إنسانية"، كان يؤمل لها أن تتم في قمة عمان بين زعماء الأردني ومصر وفلسطين والولايات المتحدة. وقد تم إلغاء القمة على خلفية اتهام إسرائيل بقصف مستشفى المعمداني بالقطاع ليل الأربعاء 18 أكتوبر 2023. كما حاولت الإمارات العربية المتحدة التحرك والتنسيق مع الجانب الروسي بهدف عقد جلسة طارئة بمجلس الأمن واستصدار قرار لوقف إطلاق نار ويسمح بدخول المساعدات لقطاع غزة [9]، إلا أنّ هذه الجهود واجهت فيتو أمريكي داخل مجلس الأمن حال دون نجاحها. بالإضافة للتحركات التي بذلها العاهل الأردني عبد الله الثاني في أوروبا والإقليم. 


وثانياً على المستوى الشعبوي: تمثل ذلك بخروج العديد من التظاهرات بكافة الأقطار العربية للتنديد بهجمات إسرائيل. ورابعا، على المستوى الحركي: إذ ساهم النفوذ الإيراني في عدد من الدول المضطربة أمنيا في تنفيذ وكلاءها عدد من الهجمات لمصالح أمريكية وإسرائيلية: إذ تم استهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا عدة مرات بالصواريخ والطائرات غير المأهولة تسببت بمقتل أمريكي وإصابة آخرين، وفقا لمسؤولي الدفاع الأمريكيين [10]. كما اعترضت المدمرة الأمريكية "يو إس إس كارني" شمال البحر الأحمر عدة صواريخ ونحو 20 طائرة، قال البنتاغون [11]  أنّ مليشيا الحوثي في اليمن أطلقتها فوق البحر الأحمر، وعلى ما يبدو كانت تستهدف إسرائيل. فضلاً عن التحركات العسكرية من جانب الميليشيات المسلحة في سوريا على الحدود المشتركة مع إسرائيل، وكذلك التحركات العسكرية على الحدود المشتركة بين لبنان وإسرائيل.  


- التحركات الدولية: تتمثل في التباين بين مختلف القوى الدولية، وهو ما يتضح بالنظر إلى رصد الخطاب الإعلامي والسياسي الرسمي للأحداث الجارية، وذلك على النحو التالي:  


1. على المستوى الأمريكي: سجل موقف واشنطن تخاذلا على المستوى الإنساني ورسّخ لفرضية "الدعم الإسرائيلي المُطلق"، بما يُعد بمثابة "ضوء أخضر" للتحرك الإسرائيلي وفقاً لسياسات " الأرض المحروقة" و"الإبادة الجماعية" ضد الشعب الفلسطيني، والتدمير الشامل للبنى التحتية والمباني السكنية والمساجد والمرافق الصحية بقطاع غزة. وجاء ذلك على مستويين، الأول: يتمثل في المستوى السياسي والدبلوماسي عبر البيانات الرسمية المؤيدة للعملية الإسرائيلية، فضلاً عن زيارة الرئيس الديمقراطي "جو بايدن" لإسرائيل وإعلانه الدعم الكامل، وثانياً: يتمثل في المستوى العسكري عبر تعزيز وضع القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال: أرسلت واشنطن حاملة الطائرات البحرية "جيرالد. ر. فورد"، وكذلك حاملة الطائرات " يو إس إس أيزنهاور" ومجموعة من السفن الحربية التابعة لها في شرق المتوسط، وذلك لهدفين: ما يتعلق بترسيخ الدعم الأمريكي لإسرائيل والمساعدة في استعادة هيبة "الردع الإسرائيلي، والهدف الآخر ما يتعلق بتعزيز "الردع الإقليمي"، مع تنامي فرضيات "الحرب المفتوحة" ودخول أطراف أخرى دائرة الصراع القائم مثل إيران وحزب الله والميلشيات المسلحة في سوريا. 


2. على المستوى الأوروبي: استناداً إلى ازدواجية المعايير الأوروبية في تناول الصراع القائم في غزة، فثمة انقسام ما بين الكتلة الاوروبية في تأييد ودعم أطراف الصراع، خاصة وأن الدول الكبرى "فرنسا – ألمانيا – إيطاليا – بريطانيا" أعلنوا في بيان مشترك "دعمهم الثابت والموحد" لإسرائيل [12]، دون النظر لأي اعتبارات إنسانية كانوا يتحدثون عنها إبان الأزمة الأوكرانية، مقابل دعم رفض دول قليلة كالنرويج لسياسة العقاب الجماعي الذي تنتهجه إسرائيل، وتشديد بعضها على احترام القانون الدولي الإنساني، كسويسرا [13]. وقد عكس نفسه هذا الانقسام على الشارع الأوروبي. إذ سجلت العديد من الدول الأوروبية خروج تظاهرات منددة بهجمات إسرائيل وداعمة للقضية الفلسطينية، مقابل تحدي المحتجين لحالة القمع والحظر التي فرضتها دول أوروبية أخرى كألمانيا وفرنسا لأي مظاهر داعمة للفلسطينيين. في حين تضامنت مجتمعات شعبية أوروبية مع إسرائيل عقب هجوم حماس الدامي في السابع من أكتوبر.


3. على المستوى الروسي: منذ الساعات الأولى أعلنت موسكو رفضها للتصعيد الإسرائيلي بالأراضي الفلسطينية، حيث تقدمت موسكو بمشروع قرار لمجلس الأمن لوقف فوري إنساني لإطلاق النار في قطاع غزة، إلا أنه فشل في الحصول على الحد الأدنى من أصوات مجلس الأمن [14]. كما أكدت تصريحات على لسان الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولين روس على دعم موسكو لحل الدولتين في الصراع بالشرق الأوسط، وحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة. وعلى المستوى الإنساني: قدّمت موسكو العديد من المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، آخرها ما أعلنته وزارة الطوارئ الروسية في بيان لها: "بنقل طائرات وزارة الطوارئ الروسية شحنات مساعدات إنسانية إلى سكان قطاع غزة عبر مطار العريش". [15]


4. على المستوى الصيني: تتطابق الرؤى الصينية مع نظيرتها الروسية في ضرورة التهدئة بالأراضي الفلسطينية. حيث صرح الرئيس الصيني على هامش استضافته لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي: "إن الصين تقدر دور مصر في تهدئة الوضع بقطاع غزة، وأن المهمة الأكثر إلحاحًا هي وقف إطلاق النار ووقف الحرب في أقرب وقت ممكن، مضيفًا أن الصين تدعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة" [16]. هذا ويُبنى الموقف الصيني على عدد من المحاور، أولاً: ما يتعلق بالقلق حيال التصعيد القائم وانعكاس التوترات الأمنية على عرقلة مشاريعها التنموية بالشرق الأوسط، ثانياً: الدعوة إلى ضبط النفس بين الجانبين موضحه في بيانها الصادر عن الخارجية الصينية ضرورة إنهاء حالة "الجمود" بعملية السلام؛ لتجنب دورات متتالية من الصراع بما يقوض مساعي ضبط الأمن والاستقرار في الإقليم ككل [17]. الجدير بالذكر، أن الموقف الصيني يختلف بشكل كبير عن مواقف مراكز الثقل بشرق آسيا، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، إذ أدان كلاهما حركة المقاومة حماس إلا أنهم دعوا للتهدئة ومحاولة خفض التصعيد [18]


تأسيساً على ما سبق.. يبدو أن التطورات في قطاع غزة فاقت الأوضاع الحرجة على نحو ما قد يُنذر بسيناريو "الحرب المفتوحة"، مما يصُعب معه التنبؤ بما قد يؤول إليه الصراع مستقبلاً، وعلى الرغم من كافة التحركات الإقليمية – وفي مقدمتها القاهرة – لاحتواء التصعيد وإبرام هدنة إنسانية يبُنى عليها تفاهمات مشتركة للخروج من المأزق الحالي، إلا أن الدعم الأمريكي والأوروبي الغير محدود لإسرائيل يُنذر باحتمالات فقدان السيطرة الأمنية و "الإزاحة للخارج" بما يهدد استقرار وأمن الشرق الأوسط ككل. 

وبذلك يُصبح التساؤل الرئيس: هل سيتم احتواء الهجمات الإسرائيلية في ظل انتهاء "قمة القاهرة للسلام"، دون التوصل لصياغة تُلزم الأطراف نحو التهدئة والعودة إلى القرارات الأممية الرامية لحل الدولتين وفقا لحدود 1967، أم ستتطور الأوضاع استناداً لنظريتي "الأرض المحروقة" و "المكاسب على الأرض"، بما يُرسخ للفرضية الإسرائيلية الداعمة لخطة التهجير الفلسطيني من غلاف غزة، أو الإبادة الجماعية، فضلاً عن تنامي فرص "الحرب المفتوحة" مع اتساع الرقعة الميدانية والأطراف من خارج البُعد الجيوسياسي. فعلى سبيل المثال: في حال تطور الهجمات الإسرائيلية فمن المُحتمل دخول حزب الله على خط النيران، كذلك قد يتم استدعاء الميليشيات المُسلحة في سوريا، مع احتمال انخراط قوات الحرس الثوري الإيراني وأذرعه الأخرى في اليمن والمنطقة. بالمقابل، من المُحتمل أن يتم استدعاء أسلحة وجيوش من خارج القطر العربي لدعم إسرائيل مادياً، فعلى سبيل المثال: من المُرجح حال الانتقال بالصراع إلى نمط "الحرب المفتوحة" أن يتم الدفع بأسلحة وقوات تعزيزية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية.




باحثة لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات، متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي


المراجع:
[1] المؤسسة الأمنية والعسكرية | مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فادي نحاس، 18.09.2020 (palestine-studies.org)
[2] إيمان زهران، أبعاد وارتدادات التحولات الاستراتيجية لـ"طوفان الأقصى"، مجلة السياسية الدولية، 11/10/2023.
[3] «صفقة القرن» و«الوطن البديل».. كيف تخطط إسرائيل لتصدير الأزمة لمصر (تقرير)، المصري اليوم، 10/10/2023.
[4] Philip L. Kelly, "Escalation of regional conflict: testing the shatterbelt concept", Political Geography Quarterly, Volume 5, Issue 2, April 1986, Pages 161-180. ELSEVIER, Accessed Date: October 10, 2023
[5] COLIN GRAY, In Defense of the Heartland: Sir Halford Mackinder and His Critics a Hundred Years On, Comparative Strategy, Volume 23, 2004 - Issue 1. (Published online: Jun 24, 2010): 9-25. Taylor & Francis Online
[6] مهاب عادل، التداعيات الجيوبوليتيكية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في ضوء عملية طوفان الأقصى، مركز الأهرام للدارسات السياسية والإستراتيجية، 16/10/2023. 
[7] أين تقف مصر من المواجهة الحالية بين إسرائيل وحماس؟، BBC العربية، 15/10/2023. 
[8] مؤتمر صحفي للرئيس السيسي مع المستشار الألماني أولاف شولتس بمقر رئاسة الجمهورية، 18/10/2023. 
[9] بشكل عاجل.. الإمارات وروسيا تطالبان بانعقاد مجلس الأمن، سكاي نيوز العربية، 18/10/2023. 
[10] U.S. Forces in Syria, Iraq, Red Sea Come Under Militant Attack - WSJ
[11] Washington accuses Houthis of regional escalation (south24.net)
[12] زعماء 4 دول أوروبية وأميركا يتعهدون بدعم «ثابت وموحد» لإسرائيل، صحيفة الشرق الأوسط، 10/10/2023. 
[14] مشروع قرار روسي حول غزة وإسرائيل يفشل في الحصول على الأغلبية المطلوبة بمجلس الأمن | أخبار الأمم المتحدة (un.org)
[15] روسيا تقدم 27 طنا من المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، القاهرة الإخبارية، 19/10/2023. 
[16] الرئيس الصيني لرئيس وزراء مصر: ندعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة، القاهرة الإخبارية، 19/10/2023. 
[17] Foreign Ministry Spokesperson’s Remarks on the Escalation of Tensions Between Palestine and Israel”, Ministry of Foreign Affairs of the People’s Republic of China, 8 October 2023
[18] Attack on Israel by the Palestinian militants including Hamas (Statement by Press Secretary KOBAYASHI Maki), Ministry of Foreign Affairs of Japan. 7 October 2023
شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا