وزير العدل لجنوب إفريقيا وسفير جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، 11 كانون الثاني/يناير 2024 ( أ ف ب)
11-02-2024 الساعة 4 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | د. إيمان زهران
تفاعلت أغلب الدول الإفريقية مع هجمات الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، ودلالات وتداعيات توسيع نطاق العمليات العسكرية لعدد من مستوطنات الضفة الغربية، إذ تباينت المواقف الرسمية ما بين مؤيد ومعارض، وآخر متردد على الحياد وفقاً للأجندات والتوجهات المختلفة لقادة دول القارة. بينما على المستوى الشعبي، فقد اتفقت كافة شعوب القارة على دعم القضية الفلسطينية والحق العادل فى حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967. على نحو ما قد يدفع بعدد من التساؤلات حول خريطة التفاعلات الإفريقية من الحرب القائمة والممتدة بالأراضي الفلسطينية، ومحددات ودوافع التوجهات الإفريقية حيال القضية، وتداعيات ذلك الأمر على حدود الدور الإسرائيلي في ظل التحركات القائمة بالقارة.
خريطة التفاعلات الإفريقية
ساهمت كثير من المحددات في إعادة صياغة الموقف الإفريقي - خاصة للدول غير الناطقة بالعربية- على نحو مغاير للقيم الإفريقية المرتبطة بتاريخ التحرر الوطني ومبادئ الوحدة والتضامن الإفريقي، وذلك بعد نجاح إسرائيل التغلغل بالقارة وتأسيس علاقات دبلوماسية مع 44 دولة أفريقية، وما لحق بذلك من إعلان دولة ملاوي عام 2020 نقل سفارتها إلى القدس وتبعتها غينيا الاستوائية عام 2021. فضلا عن قرار الاتحاد الإفريقي في يوليو 2021، بمنح إسرائيل صفة مراقب في المنظمة القارية كخطوة نحو إعادة تقييم الاتجاهات الإفريقية نحو التقارب مع إسرائيل، حيث لم تعارض هذا القرار سوى 15 دولة إفريقية من 54 دولة. وعلى الرغم من تجميد هذا القرار، إلا أنه لم يتم إلغاؤه، ولازال مرهونا للنقاش [1]. وهي جميعها محددات تُعيد ترسيم خريطة المواقف الإفريقية من حالة الحرب على غزة في ظل استقلالية القرار وعدم تبني القارة لأجندة خارجية مشتركة، وذلك بالنظر إلى ما يلي [2]:
- الكتلة المؤيدة: عدد من الدول أظهرت دعمها للقضية الفلسطينية منذ الساعات الأولى لأحداث 7 أكتوبر، وما تلى ذلك من هجمات لجيش الاحتلال على أراضي غزة، وفي مقدمة تلك الدول مصر، ويليها الجزائر، وتونس، وموريتانيا، وجنوب إفريقيا. بالإضافة إلى الإدانة المؤسسية لكل من الإتحاد الإفريقي والمفوضية الإفريقية ومطالبتهم بالوقف الفوري لإطلاق النار والعودة للمسار السياسي للحل الشامل والعادل للقضية الفلسطينية.
- الكتلة المعارضة: تتعلق تلك الفئة بمدى التقارب مع إسرائيل والغرب + الولايات المتحدة الأمريكية، سواء على المستوى السياسي والأمني أو الاقتصادي والتنموي. فضلاً عن الانفصال عن الواقع العربي، وفي مقدمة تلك الدول كينيا، ويليها توجو، والسنغال، وغانا، ورواندا، والكاميرون، والكونغو الديمقراطية. وعلى الرغم من حدة "الخطاب والسلوك"، إلا أن الضغط الشعبي الناتج عن إعادة تعبئة "الرأي العام الإفريقي" حول أبعاد القضية الفلسطينية؛ خاصة إبان قمة القاهرة للسلام فى 21 أكتوبر2023، ساهم بدوره في إعادة توجيه الخطاب السياسي وإحداث مرونة بالصياغة ودعم مسارات وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية بصفة مستمرة ومستدامة.
- الكتلة المترددة: يُبنى ذلك التوجه على حالة التشابك بالمصالح الإفريقية الإسرائيلية، والتقاطع مع قيم الجماعة الإفريقية تجاه القضية الفلسطينية والداعية لحل الدولتين، وفقاً لحدود عام 1967. وفي مقدمة تلك الدول، المملكة المغربية والتي قامت بإبرام "اتفاق تطبيع" مع إسرائيل عام 2020. ويلى ذلك نيجيريا وتنزانيا وأوغندا وغنيا بيساو، حيث يسعى جمعيهم لموازنة خطابهم السياسي ما بين أجنداتهم الوطنية وقيم الجماعة الإفريقية.
محددات الدعم الإفريقي
برغم تباين خريطة الدعم الإفريقي للقضية الفلسطينية وفقا لما تم الإشارة إليه أعلاه، إلا أنه بالمقابل، هناك عدد من المحددات التى أُعيدت ترسيم المشهد التفاعلى لثقل القارة فى إدارة مسارات القضية فيما بعد أحداث 7 أكتوبر وحجم/ وعمق الهجمات الإسرائيلية اللا - إنسانية على قطاع غزة، وذلك بالنظر إلى ما يلى:
- ثقل الورقة التصويتية: تمثل دول القارة الإفريقية "كتلة تصويتية بواقع 54 دولة" لا يُستهان بها في كافة المحافل الدولية، وهو ما انعكس على قرارت الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجمعية العامة؛ فيما يتعلق بإقرار الهدن الإنسانية. فعلى الرغم من وجود كُتلة معارضة لحركة المقاومة حماس ومؤيدة لتحركات جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن تلك "الكتلة" قد صوتت بالموافقة على قرار الجمعية العامة، إذ لم تصوّت بالرفض أي دولة إفريقية على أي قرار أممي يتعلق بوقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة الإنسانية، واستمرار واستدامة دخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.
- تطويق المصالح الغربية: أحد الارتدادات المباشرة للحرب الروسية الأوكرانية، ما انعكس على محاولات القوى الدولية إعادة التقارب مع دول القارة، وتعويض خسائرها من الحرب عبر توقيع اتفاقيات خاصة بالتعاون في مجال الطاقة والسلاح، ومحاولة استقطاب مزيد من الدول للمعسكر الغربي دون الشرقى. حيث لا تزال خسائر الحرب تستنزف الكثير من موارد القوى الدولية في الوقت الذي باتت تدرك هذه الدول أن إفريقيا تمثل مستقبل الاقتصاد العالمي، وأنها ستشكل هذا المستقبل عبر تحالفات دولها على المستوى الدولي. إلا أنه بالمقابل، أضفت الاحتجاجات الشعبية الإفريقية المناهضة لهجمات جيش الإحتلال الإسرائيلي فى قطاع غزة، بُعداً جديداً على إعادة ترسيم مشهد التواجد الغربي بالقارة، بما دفع نحو إعادة النظر في حجم المصالح الغربية بالقارة. فعلى سبيل المثال: إعادة صياغة الوجود الفرنسي في دول الساحل الإفريقي.
- تصاعد التيارات القومية: نُشير في تلك الفرضية، إلى إعادة تعبئة الرأي العام الإفريقي حول محددات القضية الفلسطينية، في ظل تزايد حدة هجمات جيش الاحتلال وانتهاكه لكافة المواثيق الدولية والإنسانية في الحرب على غزة، وهو ما انعكس على تنامي التيارات القومية الداعية للتمسك بـ "قيم الجماعة الإفريقية" والمناهضة لاتجاهات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. فضلاً عن الدعوة لإعادة تقييم الشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية مقابل فتح آفاق وفرص سياسية وشراكات اقتصادية مع القوى الدولية المنافسة، وفي مقدمتهم روسيا والصين.
حدود الدور الإسرائيلي
في الآونة الأخيرة، حظي الدور الإسرائيلي بفاعلية ملحوظة مقابل تراجع الدور العربي بالقارة، وذلك بالنظر إلى حجم التشابكات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي بدأت في التغلغل بعد عام 1973، وتنامت بشكل مؤثر عام 2021، لتؤسس بدورها إلى هدفين، الأول: يتمثل في الهيمنة والسيطرة على المحيط الشرق أوسطي، والثاني: يتعلق بتفعيل نظرية "شد الأطراف" لأنظمة الجوار الإقليمي ذات الثقل، وفي مقدمتهم القاهرة، بما يمكنها من تحقيق الاختراق والسيطرة. وذلك بالنظر إلى الأدوار التالية:
- الأدوار السياسية [3]: تهدف عدد من التحركات الاسرائيلية بالقارة - فيما بعد عام 1973 - إلى إعادة التعريف السياسي بالكيان الإسرائيلي، وإنجاز عدد من الأهداف الاستراتيجية الرامية لاكتساب الشرعية السياسية، أبرزها [4]:
1. تطوير العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية مع الأطراف الإفريقية، لترسيخ مفهوم الوجود الإسرائيلي بوصف كيانها دولة ذات سيادة وعضوا بالمجتمع الدولي.
2. التأثير على الكتلة التصويتية الإفريقية بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لصالح تأييد المواقف الإسرائيلية في مواجهة الجانب العربي، وكذلك عدم المساس بمركزها الدولي.
3. التقارب الإسرائيلي مع القارة الإفريقية وتخطيطها الدقيق لإيجاد مصالح إفريقية في إسرائيل، بما يدفع بإحراج الكتلة الإفريقية حال الاتجاه لإدانتها لإسرائيل دولياً.
4. الاستغلال الجيد للنفوذ الإسرائيلي في القارة لشرح وجهة نظر تل أبيب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو ما انعكس بصورة مباشرة على تباين المواقف الإفريقية في الحرب على غزة.
على سبيل المثال، سبق لإسرائيل - نتيجة لتحركاتها الدبلوماسية بالقارة الإفريقية - الحصول على صفة مراقب في منظمة الوحدة الإفريقية، ولكن عقب حل المنظمة في عام 2002، وتأسيس الإتحاد الإفريقي أعادت التحرك مرة أخرى ونجحت بانتزاع صفة مراقب عام 2021. ولكن تم تجميد العضوية في 2022 تجنباً للانقسام داخل المنظمة القارية.
- الأدوار الاقتصادية: سعى الدور الإسرائيلي بالقارة الإفريقية لخلق مجال حيوي لإمكانياتها الإنتاجية والفنية، وذلك منذ استقلال دول القارة على نحو يؤدي إلى إنجاز الأهداف الاقتصادية الإسرائيلية، وفي مقدمتها:
1. تعزيز التبادل التجاري، وخلق أسواق واسعة للصادرات بمختلف قطاعاتها الصناعية الإنتاجية.
2. ضمان مورد هام للمواد الخام اللازمة لعمليات التصنيع الحيوي، عبر استغلال موارد القارة الإفريقية من أجل متطلبات التنمية، ودعم جوانب الاقتصاد الإسرائيلي.
3. خلق مجالات جديدة للخبرات الفائضة عبر التبادل والتشبيك بين إسرائيل ودول القارة الإفريقية.
4. ربط الموانئ والمطارات والمنافذ الإفريقية بشبكة من الخطوط الملاحية والبحرية والجوية الإسرائيلية في إطار ما يُعرف بتوظيفات الثنائية للـ "البنية التحية".
فعلى سبيل المثال، قامت "وكالة ماشاف– وكالة إسرائيل للتعاون الدولي في مجال التنمية في وزارة الخارجية، بالتغلغل في الدول الإفريقية عن طريق تقديم نفسها كضمان للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية المستدامة، ومساعدة الدول الإفريقية على الانضمام إلى جهود المجتمع الدولي لتنفيذ الأهداف الإنمائية. وهو ما ظهر بشكل مباشر في المشروعات التالية: مشروع التمكين الاقتصادي للمرأة ACTIL في كينيا، ومشروع تطوير وتجديد أساسيات الطوارئ في مستشفى كمبالا مولاغو في أوغندا، كما تم توقيع اتفاق ثلاثي من قبل مركز التعاون الدولي الإسرائيلي، وصندوق وكالة الأمم المتحدة ووزارة الحكومة الكاميرونية للثروة الحيوانية، مما يتيح إنشاء "حاضنة الأعمال التجارية الزراعية" استناداً إلى الخبرات الإسرائيلية [5]، بالإضافة إلى المشروعات الرامية لتحسين القطاع الزراعي وتعزيز فرضية الأمن الغذائى بالقارة.
تحركات قائمة
أعادت عدد من التحركات على المستوى الإفريقي ترتيب أولويات القارة مرة آخرى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وذلك بالنظر إلى عدد من المشاهد:
- تحركات فردية: أبرز تلك التحركات ما أسست له "دولة جنوب إفريقيا" وذلك على مستويين، المستوى الوطني: ما انتهت إليه خطابات الرئيس سيريل رامافوزا، والمتضمنة إدانة الهجمات الإسرائيلية خاصة بعد قصف المستشفى المعمداني. فضلاً عن التنديد بالتصورات الإسرائيلية الخاصة بتهجير الفلسطينين من غزة، مشيرًا إلى أن "إسرائيل دولة فصل عنصري محتلة" [6]. بينما على المستوى الإقليمي: إذ قامت بريتوريا بدعوة "33 دولة إفريقية" [7] عضوة في المحكمة الجنائية الدولية لرفع دعاوى مشتركة ضد إسرائيل، في إطار ما تم وصفه بممارسة "إبادة جماعية" في غزة وانتهاكات ضد الإنسانية، حيث قدم هذه الدعوة للدول الإفريقية مركز العدالة بجوهانسبورغ، كما تقود جنوب إفريقيا حالة تفاعل دبلوماسي مع دول شمال إفريقيا لدعم القضية الفلسطينية وإدانة الهجمات الإسرائيلية ضد غزة.
الجدير بالذكر، أن تحركات بريتوريا لتفعيل آلية "القانون الدولي" عبر محكمة العدل الدولية، تؤسس لخطوة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، بالنظر لكونها سابقة أن يتم محاكمة إسرائيل بجرائم الحرب اللإنسانية، ويتم استصدار بحقها "تدابير مؤقتة"، وفقاً لما تنص عليه الفقرة الأولى للمادة 41 من النظام الأساسي [8]. وعلى الرغم من تجرّد "التدابير المؤقتة" من القوة التنفيذية، يحتاج تفعيل تلك القرارات الانتقال لمجلس الأمن عبر التوسع في تفسير الفقرة الثانية من المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة [9]، لضمان تنفيذ أحكام المحكمة الدولية، إلا إنّه بمثابة خطوة من شأنها أن ترسل إشارة إلى إسرائيل ومؤيديها بأنها تخضع للتدقيق الدولي لتحركاتها المهددة لحالة الأمن والسلم الدوليين.
- تحركات مؤسساتية: تُنبى تلك الفرضية انطلاقاً من الدور المنوط به الإتحاد الافريقي في الانخراط في قضايا تقرير المصير وإنهاء الاحتلال، ليس فقط داخل الحدود الإفريقية، ولكن بما يتجاوز ذلك عبر تقديم الدعم لكافة التحركات الرامية لاستقلال كافة الدول النامية بما يتوافق مع المصالح وقيم الجماعة الإفريقية. ومن ضمنها دعم ملف القضية الفلسطينية لتشابك أبعاده الجيوسياسية مع العديد من الدول ذات الثقل في القارة، وفي مقدمتهم جمهورية مصر العربية. فعلى سبيل المثال: أصدرت مفوضية الاتحاد الإفريقي بياناً موقعاً من كافة الدول الإفريقية البالغ عددها 55 دولة، داعية من خلاله لتطبيق حل الدولتين [10].
تأسيساً على ما سبق، يبدو أنّ تطورات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فيما بعد طوفان الأقصى، خاصة بعد قصف جيش الاحتلال للمستشفيات والأحياء المدنية، بالتزامن مع انعزال الكتلة العربية عن المحيط الإفريقي فى أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، قد صاغت إلى حالة تباين لدى الدول الإفريقية، وانعكس ذلك بشكل واضح على رمزية الخطاب السياسي والمواقف المضطربة ما بين المهادنة والإدانة. إلا أنّه بالمقابل، فقد عكست التحركات المؤسساتية للـ "الجماعة الإفريقية"، على الرغبة في عدم تجاوز الخط الفاصل بين المبادئ الراسخة والتقليدية إزاء الصراع في الشرق الأوسط، وبين النفعية الدبلوماسية والمصالح الأُحادية، لتضفي تلك الخطوات الجادة مزيد من الرهانات على مستقبل "التطبيع" مع تل أبيب، بالإضافة إلى مستقبل المساعي الإسرائيلية لتعزيز تمددها سياسياً واقتصادياً وأمنياً وتنموياً بالقارة الإفريقية.
قبل 3 أشهر