الافتتاحية

7 يوليو: رحلة ثلاثين عاماً من الصراع.. ما الذي تغيّر؟

أحد أفراد القوات المسلحة الجنوبية في عدن، 27 أغسطس 2020 [صالح العبيدي/وكالة الصحافة الفرنسية/غيتي إيماجز]

07-07-2024 الساعة 12 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

افتتاحية مركز سوث24


شهد صيف عام 1994 فصولاً من أشدّ الحروب ضراوة في تاريخ اليمن المعاصر، عندما اجتاحت القوات الشمالية بقيادة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، مدعومةً بالقوى الدينية المتطرفة لحزب "الإصلاح الإسلامي"، أراضي اليمن الجنوبي "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" سابقاً. جاءت هذه الحرب نتيجة لتراكمات معقدة ومتشابكة، كان أبرزها فشل مشروع الوحدة اليمنية الذي أُعلن عام 1990 بين الدولتين. تُشير المبررات الجنوبية إلى أن فشل الوحدة يعود إلى سعي سلطة صنعاء، التي هيمنت عليها العناصر التقليدية القبلية والإسلامية، إلى محاولة "إلحاق" الجنوب بالشمال وضمّه إليه بالقوة تحت مبرر أن الجنوب "فرع عاد لأصل". هذا الأمر أدّى إلى تعاملهم مع الجنوبيين كأدنى مرتبة منهم بعد الوحدة.


في الواقع، يُعدّ ملف حرب 1994 أحد أكثر الملفات تعقيداً في التاريخ السياسي والاجتماعي لليمن، لدرجة أن العديد من السياسيين اليمنيين، ناهيك عن نظرائهم الإقليميين والدوليين، يفضلون عدم الاقتراب منه. ويعود ذلك إلى تشابك الملف وتشعب جذوره، وربما لاعتقادات خاطئة روّجها بعض اليمنيين الشماليين خلال السنوات اللاحقة؛ مفادها أنّ الاهتمام بهذا الملف يعني منح الجنوبيين وعوداً بالاستقلال عن الشمال واستعادة دولتهم السابقة، في حين أن هناك قضايا ذات أولوية في اليمن، مثل قضايا الإرهاب والحوثيين. وبطبيعة الحال، نتج عن هذه الحرب شرخ عميق في النفوس بين مجتمعي الشمال والجنوب، حيث تحوّل السابع من يوليو إلى مناسبة للاحتفال في الشمال كباقي المناسبات الوطنية في البلاد، بينما مثّل هذا اليوم في الجنوب ذكرى مؤلمة قلبت كيانه كدولة وكإنسان رأساً على عقب.


بمرور الوقت، برزت "قضية الجنوب" بقوة على الساحة اليمنية، وذلك بعد أن مارست سلطة نظام صنعاء آنذاك سياسة "إلغاء" ممنهجة تجاه كل ما هو جنوبي. تمثّلت هذه السياسة في الإخلال بمبدأ الشراكة الوطنية في النظام السياسي، في محاولة متعمّدة لتصفية الجنوب ككيان مستقل ودولة ذات هوية وثقافة خاصتين بها. وفيما بعد عمّقت سلسلة من السياسات الخاطئة الجرح الجنوبي على المستوى الشعبي، وكذلك على المستوى السياسي، فبات وجود جنوبيين في مؤسسات الدولة لا يعدو عن كونه تمثيلاً رمزياً. على سبيل المثال: انخفضت نسبة التمثيل الجنوبي السياسي في عام 2006 مقارنة بعام 1990، في السلطة التشريعية من (46%) إلى (19%)، وفي مجلس الوزراء من (45%) إلى (25%) وفي مجلس القضاء الأعلى من (46%) إلى (25%)، وبين أفراد القوات المسلحة والأمن إلى حوالي (12%)، كما تمّ تعيين محافظين لمحافظات الجنوب من أبناء الشمال.*


كيف تحوّل السابع من يوليو إلى ذكرى مجيدة؟


في السابع من يوليو 2007، قرّر الجنوبيون تحويل هذه الذكرى الأليمة إلى مناسبة للاحتفال والثورة. ففي ذلك التاريخ انطلق "الحراك الجنوبي السلمي"، وخرج الأهالي في كلّ محافظات الجنوب لإحياء ذكرى ثورتهم الشعبية التي سبقت ثورات "الربيع العربي" بسنوات. وتجمّعت الجماهير الجنوبية بشكل عفوي حول القيادات التي ظهرت آنذاك، تعبيراً عن أهمية اللحظة التاريخية. بدأت المظاهرات بمشاركة آلاف المتقاعدين الجنوبيين من الضباط والمدنيين الذين فقدوا وظائفهم وتمّ تسريحهم قسراً. وتطوّرت هذه المظاهرات لتشمل الساحات في عدن وحضرموت والضالع وشبوة وأبين ولحج والمهرة، لتصبح احتجاجات شعبيةً وفعاليات ومهرجانات دورية، للمطالبة بتحقيق العدالة للجنوب وقضيته، في محاولة لجذب انتباه الإقليم والمجتمع الدولي إلى هذه الحركة، رغم القبضة الأمنية الشديدة التي فرضها نظام صنعاء آنذاك - بعض رموزه لا يزالون في السلطة اليوم -، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، بين قتيل وجريح ومعتقل.


عقب اندلاع ثورة التغيير الشبابية عام 2011، هيمنت القوى الحزبية، وعلى رأسها حزب الإصلاح الإسلامي، على ساحات اليمن. شهدت الثورة انزلاقاً خطيراً نحو العسكرة بانضمام العديد من القيادات العسكرية إليها، بمن فيهم الجنرال علي محسن الأحمر، الساعد الأيمن للرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي قاد حرب صيف 1994 ضد الجنوب، مخلفاً وراءه دماراً هائلاً وآلاماً لا تزال تنزف حتى اليوم. أطلق العديد من الجنوبيين على محسن لقب "علي كاتيوشا" سخريةً من قصفه المدمر لهم بصواريخ الكاتيوشا.


لاحقاً، وبعد تنازل صالح عن السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي، بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، والتي منحت صالح حصانة من الملاحقة القضائية، دُعي الرئيس المنتخب هادي، وحكومة الوفاق الوطني التي تم تشكيلها لاحقاً، لعقد "مؤتمر حوار وطني" ضمّ جميع القوى السياسية اليمنية، بما في ذلك بعض مكونات الحراك الجنوبي. تباينت مواقف أبناء الجنوب حيال "مؤتمر الحوار الوطني" الذي عُقد عام 2013. فبينما رأى البعض أن فرصة المشاركة في المؤتمر تمثّل أهمية كبيرة لطرح مطالبهم السياسية على طاولة الحوار، اعتقد آخرون أن الحوار الحقيقي يجب أن يتمّ بين "ندين" متساويين، أي بين الشمال والجنوب، وأنّ التفاوض يجب أن يتمّ بإشراف إقليمي ودولي لضمان حياديته وفعاليته.


على الرغم من أن قضية الجنوب احتلّت الصدارة بين القضايا التي تمّ نقاشها في مؤتمر الحوار الوطني، إلاّ أنّ مخرجات المؤتمر لم تكن مرضيةً لكثير من الجنوبيين. تمثّل جوهر الاعتراض الجنوبي، في محاولة إخراج قضية الجنوب عن مسارها الحقيقي، من خلال ربطها بحل يضمن الحفاظ على الوحدة اليمنية، وإن كان ذلك من خلال دولة اتحادية بنظام فيدرالي. إذ تمّ صياغة هذا الحل من قبل القوى الشمالية وقواها التقليدية المهيمنة على المؤتمر آنذاك. ونتيجة لهذا النهج، شعر العديد من الجنوبيين بأنّ مؤتمر الحوار الوطني لا يحقق ولو جزء بسيط من مطالبهم السياسية، ولا يرتقي إلى التضحيات التي قدموها منذ 2007، الأمر الذي دفع كثيرين منهم إلى الانسحاب من المؤتمر.


من ساحات الاحتجاج إلى السيطرة على الأرض


عقب انطلاق عملية "عاصفة الحزم" في 25 مارس 2015، بقيادة المملكة العربية السعودية وتحالف إقليمي ودولي واسع، بهدف استعادة السيطرة على البلاد من قبضة الحوثيين الذين انقلبوا على الشرعية وسيطروا على العاصمة صنعاء عام 2014، انخرط الجنوبيون بقوة في خط المواجهة العسكرية. وتبعاً لذلك، خاضت المقاومة الجنوبية بدعم من التحالف العربي، معارك ضارية ضدّ الحوثيين وقوات نظام صالح المتحالفة معهم آنذاك، وتمكنّت المقاومة خلالها من تحرير العديد من محافظات الجنوب، وعلى رأسها عدن. لم تقتصر انتصارات الجنوبيين على الميدان العسكري، بل امتدّت لتشمل المجال السياسي، حيث تمّ الإعلان في مايو 2017، عن تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي. وقد خاض الأخير معارك عسكرية وسياسية مع نظرائه من اليمنيين على الأرض وفي الخارج، واستطاع فرض نفسه كقوة عسكرية وسياسية فاعلة على الساحة اليمنية. ومنذ إبريل 2022، أصبح المجلس الجنوبي جزءاً من السلطة الشرعية والحكومة المعترف بها دولياً، ممّا يمثل تحولاً هامّاً في مسار قضية الجنوب، لا سيّما وهو يمثّل قطاعاً واسعاً من الجنوبيين الذين يطالبون باستقلال جنوب اليمن عن الشمال.


لطالما واجه الجنوب صراعات مفتعلة من قبل الشمال، قد يكون أبرزها حروب صعدة الستة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل عملت القوى الشمالية على تحويل الأنظار الإقليمية والدولية عن قضية الجنوب نحو ما يُسمى بـ "قضية الإرهاب" في جنوب اليمن، في محاولة منها لإخفاء الصراع الحقيقي على الهوية والسيطرة. إضافة إلى أنّ ثورة الشباب في 2011، وصلت إلى مستويات خطرة من المواجهة، إلى حد الانفلات المسلح بعد أن تمّ عسكرتها. واستمر الأمر حتى اليوم، في تكرار الأزمات الإقليمية والدولية التي باتت جماعة الحوثيين المدعومة من إيران تفتعلها على المسارات الأمنية والعسكرية والاقتصادية.


في الواقع، واجهت جهود الجنوبيين تعقيدات واسعة في إيصال قضيتهم العادلة إلى العالم لعدة أسباب، من بينها التعتيم الإعلامي الشديد الذي فرضته القوى الشمالية المسيطرة على مكاتب إدارات أهم القنوات الفضائية والصحف العربية والعالمية ومراكز الفكر والمنظمات الدولية في اليمن. وعلى الرغم من امتدادها لأكثر من ثلاثة عقود، ظلت "قضية الجنوب" بعيدة عن اهتمام الإقليم والمجتمع الدولي، بينما حظيت حروب صعدة الستة، لما تمثّله من تهديد للأمن الإقليمي، وقضية الإرهاب، لما تشكّله من خطر على الأمن الدولي، باهتمام كبير من قبل الفاعلين الدوليين والإقليميين.


ومع ذلك، فإنّ واقع جنوب اليمن يشهد اليوم تحولاً هاماً، يتمثل في امتلاك الجنوبيين لقوات عسكرية نظامية واكتسابهم خبرات وتجارب نضالية غنية منذ عام 1994 حتى اليوم، بما يعزز من موقفهم الرافض للتنازل عن السيطرة على أرضهم، وإن كانوا يقدمون تنازلات سياسية من وقت لآخر. إذ تتجذّر في الجنوب مشاعر الإقصاء التي يعاني منها أبناؤه، ولا يبدو أنّهم سيقبلون بأي شكل من الأشكال بتكرار هذا الإقصاء، ناهيك عن التنازل عن السيطرة على أرضهم.


في المحصّلة، يرى الشارع الجنوبي أنّ التنازل عن السيطرة على الأرض، سواء في إطار عملية سياسية أم لا، يعني العودة إلى نقطة الصفر، وإعادة طرح قضايا الشراكة في السلطة والثروة، ممّا قد يُفضي إلى تسليم الأرض مجدداً للقوى الشمالية تحت مسميات السلام، وهذا الأمر يشكّل خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه بالنسبة لهم، وذلك مهما بدا انفتاح القادة الجنوبيين على بعض الحلول السياسية التي يناقشها الفاعلون الإقليميون والدوليون معهم.


بعد ثلاثين عاماً على ذكرى 7 يوليو، وفي واقع جيوسياسي إقليمي ودولي معقّد، يحتاج الجنوبيون أكثر من أي وقت مضى إلى ترتيب أولوياتهم الوطنية وشد أزر صفوفهم السياسية وتمتين جبهتهم الداخلية وتوسيع شراكاتهم الإقليمية. ويحتاجون كذلك إلى لحظة حاسمة يستفيدون منها من عِبر التاريخ.




- مركز سوث24 للأخبار والدراسات

* [1] د. محمد حسين حلبوب، دراسة حول ماهية القضية الجنوبية، مركز صوت الجنوب العربي (صبر) للإعلام والدراسات، يوليو 2012، ص5-6.

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا