التقارير الخاصة

السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا».. بداية التحالف بين موسكو وعدن (3)

26-08-2020 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

سوث24| د. حسن بن عقيل


وَضَع الاتحاد السوفيتي معايير في علاقته بنظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ولم يتجاهل طبيعة التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. هذا التقييم ساعد في تشكيل العلاقة بين البلدين.


كان السوفييت على علم بالصراع بين الجناحين اليساريين للسلطة، سالم ربيع علي (سالمين) وعبد الفتاح إسماعيل (فتّاح)، وتمسّكهم بالواجهات الأيديولوجية للماركسية (الأقرب إلى الديماغوجية)، هكذا كان السوفييت ينظرون إلى يسار الجبهة القومية. باستثناء فترة قحطان الشعبي وعلي ناصر محمد، فقد احترم السوفييت والمجتمع الدولي حكمهم.

تميّزت فترة سالمين وفتاّح بسيطرة اليسار المتطرّف. وشهدت العلاقة مع السوفييت في هذه المرحلة تقلّبات حسب موازين القوى في قيادة الجبهة القومية. لذلك نُقسّم هذه العلاقة مع السوفييت إلى أربع مراحل مختلفة بحسب الرئاسات الأربع التي كان لأهوائها السياسية تأثير مباشر على سياسة الدولة (قحطان الشعبي، سالم ربيع علي، عبد الفتاح إسماعيل، علي ناصر محمد)، ولكلّ من هؤلاء الرؤساء خصوصياته في علاقته مع الاتحاد السوفيتي.

أولاً: الرئيس قحطان محمد الشعبي  

حكم من 30 نوفمبر 1967 حتى 22 يونيو 1969، وكان قحطان الشعبي أوّل رئيس لجنوب اليمن. حدّد في خطابه الأول شكل الدولة الجديدة، نظام جمهوري وعلى أسس الديمقراطية الشعبية. وقال إنّ هذا النظام الجمهوري لن يكن شبيه بـ "الديمقراطية البرجوازية العربية" المعروفة. 

كانت هزيمة مصر وعدد من الدول العربية في حرب الأيّام الستة ضد إسرائيل بمثابة صدمة وبداية نهاية الاشتراكية القومية الناصرية التي كانت مناهضة للاستعمار. عندما أعلن الرئيس قحطان الشعبي رفضه لـ (الديمقراطية البرجوازية العربية)، انعكس هذا بشكل مباشر على حركة القوميين العرب وكان تعبيراً عن بداية التحول في الحركة، وهذا انعكس أيضاً على أيديولوجيتها وقادها نحو اليسار الماركسي.



الأمين العام للجبهة القوميه السيد قحطان الشعبي يصافح ممثل بريطانيا اللورد شاكلتون، وزير بدون حقيبة، عقب توقيع اتفاقية الاستقلال في 28 نوفمبر 1968 في جنيف. (العمري- أرشيف)


"تميّزت فترة سالمين وفتاّح بسيطرة اليسار المتطرّف. وشهدت العلاقة مع السوفييت في هذه المرحلة تقلّبات حسب موازين القوى في قيادة الجبهة القومية"


بداية التحوّل إلى اليسار شهدته وطبّقته الجبهة القومية في عدن التي كانت طليعة تلك القوى الثورية في العالم العربي. تزامن التحوّل في عدن مع ظهور الجبهة الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهة تحرير ظفار ومنظمات صغيرة في دول عربية مختلفة.

بعد ثلاثة أشهر من الاستقلال، في أوائل فبراير 1968، قام وفدٌ عسكري برئاسة وزير الدفاع علي سالم البيض بزيارة مهمّة إلى موسكو، لكن لم يتم الإعلان عن أيّ اتفاق بعد الزيارة. عند عودة وزير الدفاع من موسكو، طُرد الخبراء البريطانيون من القوات المسلحة اليمنية. في 25-28 يونيو 1968 وصلت سفن سوفيتية إلى ميناء عدن وتكررت تلك الزيارات بهدف إحياء ميناء عدن وتنشيطه. بالطبع لم يمرّ هذا الحدث دون تعليق الدول الغربية التي أعلنت فورًا عن وجود قاعدة عسكرية للاتحاد السوفيتي في عدن. 

أوّل وفد عسكري سوفيتي يزور عدن كان بقيادة الجنرال ألكسندر نجراسك واستغرقت زيارته أربعة أيام، درس خلالها المتطلبات العسكرية للجمهورية. في أغسطس، وقّع البلدان على أوّل اتفاقية مساعدات فنية وعسكرية. وبعد ذلك، زارت الاتحادَ السوفيتي عدة بعثات عسكرية يمنية منها في نوفمبر وديسمبر 1968. واصل الاتحاد السوفييتي تكثيف الاتصالات مع القيادة في عدن رغم معرفته بالانقسامات داخل قيادة الجبهة القومية، لكنّ النهج المعتدل للقيادة استمرّ رسمياً حتى بعد أحداث مارس 1968. 



"بعد ثلاثة أشهر من الاستقلال، في أوائل فبراير 1968، قام وفدٌ عسكري برئاسة وزير الدفاع علي سالم البيض بزيارة مهمّة إلى موسكو" (العمري- ارشيف)


في أزمة مايو 1968، طالب سفير الاتحاد السوفيتي مراراً وزير الدفاع بدعمه. خلال النصف الثاني من عام 1968، كانت هناك زيارات متبادلة بين عدن وموسكو لمناقشة القضايا العسكرية والاقتصادية والثقافية. وكان من أهمّها زيارة وزير الدفاع السيد محمد صالح العولقي وتم خلالها توقيع اتفاقية فنية وعسكرية بين البلدين. في يوليو 1968 جاءت الدفعة الأولى من الأسلحة، ثم في يناير 1969 وصلت شحنة كبيرة أخرى من المعدات العسكرية السوفيتية، بما في ذلك 10 مقاتلات من طراز ميغ 17، وصواريخ جو - أرض، ومدافع مضادة للطائرات، ومعدات رادار محمولة، وذخيرة وقطع غيار. يرافق هذه المعدات العسكرية خمسون خبيرًا عسكريًا. في يونيو 1968 قامت مجموعة من السفن السوفيتية بزيارة عدن من المحيط الهندي وتكررت هذه الزيارة. 

كانت أوّل زيارة رفيعة المستوى من جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية إلى الاتحاد السوفيتي هي زيارة الرئيس قحطان الشعبي.، واستمرت أحد عشر يومًا من نهاية يناير إلى أوائل فبراير 1969. وخلال زيارته، تم التوقيع على اتفاقيات مهمة بشأن المساعدة الاقتصادية والفنية، وتشمل إنشاء مصنع حديث للأسماك، وبناء أسطول صيد حديث، وإنشاء مركز تدريب وبحوث في جمهورية اليمن الجنوبي. كما وافق الاتحاد السوفيتي على تدريب يمنيين في الاتحاد السوفيتي. في المقابل وافقت الدولة على استقبال البعثات الفنية السوفيتية لدراسة المياه المحيطة بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. أسفرت زيارة قحطان الشعبي عن توقيع اتفاقيات علمية وتعليمية.

"جاءت الدفعة الأولى من الأسلحة السوفيتية في يوليو 1968، ثم في يناير 1969 وصلت شحنة كبيرة أخرى من المعدات العسكرية"


في الواقع، يعود الفضل إلى الرئيس قحطان الشعبي في إقامة العلاقة مع الاتحاد السوفيتي، مع الحفاظ على القوات الاتحادية الجنوبية وتطويرها. بعد رحيل المستعمر البريطاني اتفق الرئيس قحطان الشعبي مع الاتحاد السوفيتي على تقديم المساعدة في تشكيل وتطوير القوات المسلحة للبلاد، وذلك قبل أن يتولّى الجناح اليساري للجبهة القومية الحكم والذي نُسب إليه كل منجزات قحطان الشعبي له. 

نعود إلى الوثائق الرسمية، ومنها أحد القرارات السوفيتية الصادرة بهذا الشأن، وتقول: (بناءً على أوامر من مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي رقم 2419 في 8 ديسمبر 1968 ورقم 148 في يناير 1969 ورقم 735 في 17 أبريل 1970 بإرسال خبراء وأفراد عسكريين إلى جنوب اليمن).


صحيح أنه بعد 22 يونيو 1969، أصبح جنوب اليمن أكثر اعتمادًا على الدعم العسكري والاقتصادي السوفيتي، لكنّ هذا لا يعني أنّ العلاقة بين البلدين بدأت بعد 22 يونيو 1969 أو إنّها أصبحت عميقة من الناحية الاستراتيجية. يمكن ملاحظة أنّ التغطية السوفيتية للبرنامج الحكومي الأول للجبهة القومية بعد الاستقلال كانت مقيدة بسبب الصراعات في عهد قحطان الشعبي. تعامل السوفييت بحذر وحذر شديد مع هذا الواقع. كان الخبراء السوفييت متشككين في عقلانية يسار الجبهة القومية. كما أشارت التقارير السوفيتية بوضوح إلى المشاكل الداخلية في الجبهة القومية والمشاكل السياسية التي تواجه جنوب اليمن بشكل عام. وكذا تحدثت الصحف السوفيتية عن المشاكل التي تواجه الرئيس قحطان الشعبي. وقد شددت عدت مرات على ضرورة الوحدة بين "القوى الوطنية" في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.


"التغطية السوفيتية للبرنامج الحكومي الأول للجبهة القومية بعد الاستقلال كانت مقيدة بسبب الصراعات في عهد قحطان الشعبي"


كان قحطان الشعبي زعيماً لامعاً ورجل دولة استلم دولة جديدة وفقيرة، وكان تحت تهديد ثلاث دول ــ شمال اليمن والسعودية وسلطنة عمان، وهذه الدول مدعومة من بريطانيا والولايات المتحدة اللتين تعتقدان أن مصالحها مهددة في المنطقة بوجود نظام اليمن الجنوبي المستقل. في هذا المناخ السياسي أتت حركة 20 مارس 1968 التي كانت بمثابة رد فعل وتأديب لليسار الطفولي في الجبهة القومية الذي يسعى إلى تدمير الجيش النظامي المؤهل وتصفية كوادره الفنية واستبداله بجيش التحرير الشعبية غير المؤهلة علميا.

هذا اليسار الطفولي موجود في دول الشرق، حيث يستطيع تشكيل الجمهوريات ويحاول من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة القائد (الأنا) بقيت أقوى في عقليته من نُبل ومثالية الأفكار الماركسية. وهذا ما حدث بالفعل في 20 مارس 1968.(..)



"كان قحطان الشعبي زعيماً لامعاً ورجل دولة استلم دولة جديدة وفقيرة، وكان تحت تهديد ثلاث دول ــ شمال اليمن والسعودية وسلطنة عمان" (العمري-أرشيف)

حركة 20 مارس 1968

في ليلة 19-20 مارس، حاول ضبّاط من الجيش والشرطة بقيادة حسين عثمان عشال تصحيح مسار الثورة. خرجت وحدات من الجيش واحتلت محطة الإذاعة وقطعت عددًا من شوارع عدن، واعتقلت ثمانية من قيادات اليسار وقيادات شعبية ــ ما مجموعه 160 شخص. في مساء يوم 20 مارس، أُغلقت الحدود والموانئ وطالب الرئيس قحطان الشعبي بتشكيل حكومة جديدة وتخليص البلاد من خطر اليسار المتطرف.


عارضت النقابات العمالية والمؤسسات الجماهيرية الأخرى الانقلاب. وفي نفس اليوم هرب من السجن 16 من المعتقلين. في ظل هذه الظروف الصعبة دعا قائد الجيش الجنود إلى العودة إلى ثكناتهم، ووعد بعدم معاقبة المعارضين. تم بعد ذلك إطلاق سراح جميع المعتقلين، وأعيدت بعض الشخصيات اليسارية إلى مناصبهم الحكومية السابقة.


في مايو 1969 وقع خلاف بين الرئيس قحطان الشعبي ووزير الداخلية محمد علي هيثم. في 19 يونيو، عزل الرئيس الوزير بمفرده. اتهم نوّاب من اليسار الرئيس بالسعي لإقامة دكتاتورية وحرمان الجبهة من قيادة السلطة. تحت الضغط أعلن الرئيس قحطان الشعبي استقالته.


"في ليلة 19-20 مارس، حاول ضبّاط من الجيش والشرطة بقيادة حسين عثمان عشال تصحيح مسار الثورة، وخرجت وحدات من الجيش واحتلت محطة الإذاعة وقطعت عددًا من شوارع عدن"


في 22 يونيو أعلن الجناح اليساري للجبهة القومية سيطرته على الإذاعة وأعلن عن قرارات اللجنة المركزية بشأن استقالة الرئيس قحطان من جميع مناصبه وتشكيل مجلس رئاسي من خمسة أعضاء: رئيس مجلس الرئاسة سالم ربيع علي، ورئيس الوزراء محمد علي هيثم، والأمين العام للجبهة القومية عبد الفتاح إسماعيل، وعضوية محمد صالح العولقي وعلي أحمد ناصر عنتر.


شُكّلت حكومة جديدة. طُرد منها كل أنصار قحطان الشعبي، وفرّ عدد كبير من كبار ضباط الجيش الوطني إلى الخارج. وهذا العمل سُمّي بـ "حركة التصحيح".


- دكتور حسن زيد بن عقيل، كاتب ومحلل سياسي يمني
- ينشر سوث24 لاحقاً الحلقة الرابعة من سلسلة "السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا» تجاه اليمن الجنوبي".


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا