التحليلات

ما بعد السيطرة العسكرية: القاعدة ومعركة الوعي في وادي حضرموت

زعيما القاعدة رياض النهدي (يسار) وأبو البراء الصنعاني (يمين)

Last updated on: 10-12-2025 at 6 PM Aden Time

"الخطر الحقيقي لا يكمن في العمليات العسكرية المتوقعة فقط، بل في جهود التنظيم لإعادة إنتاج نفسه داخل الوعي المجتمعي، باستخدام أدوات دعائية متقنة."


سوث24 | إبراهيم علي


منذ سيطرة القوات الجنوبية على مدينة عتق، عاصمة شبوة، في العام 2022، بعد سنوات كانت خلالها القبضة الأمنية بيد قوات موالية لحزب الإصلاح (الإخوان المسلمين)، سعى تنظيم القاعدة إلى تصوير الحدث وكأنه استهداف مباشر له. فظهر القيادي البارز أبو علي الحضرمي بخطاب تصعيدي لم يهاجم فيه القوات الجنوبية وحدها، بل وجّه اتهامات للسعودية والإمارات، متوعدًا بنقل المعركة إلى محافظات الجنوب كافة.


لكنّ الأهم من التهديد العسكري كان سعي التنظيم لاستثمار تلك التطورات كفرصة دعائية مثالية. فقد حاول الحضرمي استثارة مشاعر القبائل، من خلال خطاب ديني يصوّر العملية على أنها جزء من "مؤامرة خارجية" تستهدف الإسلام – وفق زعمه – مقدّمًا التنظيم كمدافع أوحد عن الدين والهوية. ومن خلال تضخيم البعد العقدي للحدث، حاول التنظيم إيجاد فجوة بين الأهالي والقوات الجنوبية، على أمل تحويل أي توتر قبلي محتمل إلى حاضنة مساندة لنشاطاته. غير أن هذه المحاولة لم تحقق نتائج ملموسة على الأرض.


وكما تعاملت القاعدة مع أحداث شبوة باعتبارها مادة دعائية أكثر منها تطورًا عسكريًا، ينظر التنظيم اليوم إلى التحولات الجارية في وادي حضرموت بالطريقة ذاتها. فهذه التطورات تمثّل بالنسبة له جرس إنذار يهدد خطوط إمداده وبعض معاقله الصحراوية. ولذلك، يحاول التنظيم الآن إعادة تدوير خطابه القديم، مستثمرًا اللحظة لا للحصول على مكاسب ميدانية سريعة، بل لتعزيز سرديته وإحياء تأثيره المتراجع بعد خساراته في شبوة وأبين.


في هذا السياق، يبدو أن التنظيم يتوهم بوجود دائرة واسعة من المتذمرين من توسع نفوذ القوات الجنوبية في وادي حضرموت، وهو ما يدفعه إلى استغلال تلك "المظلومية المتخيّلة" في خطابه. وقد يعتمد التنظيم على خطاب عاطفي يضخم الشعور بالغضب ويقدمه كدليل على صحة موقفه. كما قد يلجأ إلى إبراز قيادات تنتمي جغرافيًا إلى حضرموت، عبر تسجيلات صوتية أو مرئية، لتعزيز نفاذ رسائله داخل المجتمع المحلي. إذ يمنح ظهور قيادي يتحدث بلهجة المنطقة أو يرتبط قبليًا بها مقدارًا أعلى من المصداقية، ويخفف في الوقت نفسه من صورة التنظيم كجسم وافد أو دخيل.


هذه الاستراتيجية ليست معزولة عن أزمة أعمق يعيشها التنظيم، إذ يعاني منذ سنوات من تراجع قدرته على التأثير داخل المجتمع المحلي. ولذلك، يحاول إنعاش خطابه عبر إعادة صياغة سرديته القديمة – سردية المظلومية والانتقام والدفاع عن الأرض – مستثمرًا أحداث وادي حضرموت كفرصة لإعادة طرح نفسه بصورة جديدة.


ومما يثير الانتباه أيضاً أنّ التنظيم حافظ على هدوء عملياتي مريب خلال فترة سيطرة المنطقة العسكرية الأولى على وادي حضرموت، إذ لم يشن أي هجوم ضدها، وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الطرفين. لكن دخول القوات الجنوبية أنهى هذا الهدوء، إذ بدأ التنظيم بالفعل تنفيذ سلسلة هجمات، من بينها هجوم "العبر" في حضرموت، وهجوم آخر في شبوة، وهجومان في مديرية مودية في أبين. وهذا النمط من التصعيد يشير إلى مرحلة جديدة قد يستغل معها التشابكات المحيطة بالأزمة.


المواد البصرية: الدعاية الأشد تأثيرا


لا يتعامل تنظيم القاعدة مع المواد المرئية بوصفها أدوات توثيق فحسب، بل كوسائل تعبئة نفسية مخططة بعناية. فهو يدرك أنّ الصورة، وإن كانت مجتزأة أو مقتطعة من سياقها، يمكن أن تصنع تأثيرًا يتجاوز أي بيان مكتوب أو خطبة. لذلك، سيعمد التنظيم إلى اقتطاع مقاطع تظهر فيها أخطاء فردية أو لحظات توتر منسوبة إلى القوات الجنوبية، ثم يعيد تقديمها باعتبارها سياسة ممنهجة أو سلوكًا متعمداً، مع إغفال كامل لسياقها الزمني والمكاني.


وفي المرحلة التالية، تُحمّل هذه المقاطع شحنات عاطفية كثيفة عبر تعليقات مكتوبة أو تسجيلات صوتية، تستحضر مفردات تمس الكرامة والهوية المحلية، مثل: "الإذلال" و"الاستباحة" و"الاستهداف". الهدف ليس تقديم الحقيقة بل صناعة شعور متجاوز للواقع: شعور بأن ما يُعرض يمس المشاهد شخصيًا ويهدد مجتمعه المحلي. وهنا تنتقل استجابة الجمهور من التعاطف العابر إلى حالة غضب قابلة للتوجيه. لاحقاً، ستُستخدم هذه المواد البصرية كأرضية تبريرية لأي عمليات ينفذها التنظيم، إذ يجري دمجها في خطاب يقدّم العمليات باعتبارها "انتقامًا مشروعًا" لا "عملاً إرهابيًا". وبهذا، تتحول الصورة إلى أداة لتوليد الشرعية الشعبية، ودعم جهود التجنيد، وتوسيع دائرة التعاطف.


والمفارقة أنّ خصوم القوات الجنوبية، من جماعات سياسية وناشطين وغيرهم، ساهموا دون قصد في خدمة أجندة التنظيم، من خلال تداول مكثف لمقاطع مصورة "مجهولة المصدر" وغير مؤكدة من جهات موثوقة، في سياق صراعهم السياسي مع القوات الجنوبية. ومع شدة التنافس، يتراجع الاهتمام بالتحقق من صحة المقاطع، ويكفي انتشارها لكي يكتسب التنظيم مصداقية فورية لدى الجمهور. وهكذا يحصل على دعاية مجانية دون الحاجة لإثبات أي شيء.


هذا الانتشار الكبير يرسخ في أذهان الجمهور فكرة أن "الانتهاكات حقيقية ولا يمكن التشكيك بها"، وهو ما يسمح للتنظيم بالانتقال مباشرة إلى تبرير عملياته وتسويقها كاستجابة طبيعية، الأمر الذي يحوّل الصراع السياسي إلى مادة دعائية تصب في مصلحة التنظيم.


الخلاصة


لا يرى تنظيم القاعدة التحولات الأمنية في وادي حضرموت كخطر وجودي فحسب، بل كفرصة دعائية قابلة للاستثمار. ففي ظل تراجع نفوذه العسكري وتآكل خطابه، سيحاول تعويض خسائره عبر تضخيم الأخطاء الفردية واستغلال التوترات المحلية، وتحويلها إلى قصة شاملة مبنية على المظلومية والانتقام.


وعليه، فإنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في العمليات العسكرية المتوقعة فقط، بل في جهود التنظيم لإعادة إنتاج نفسه داخل الوعي المجتمعي، باستخدام أدوات دعائية متقنة.


ومواجهة هذا الخطر تتطلب تضافر الجهود الأمنية والإعلامية والاجتماعية، مع بناء مصداقية حقيقية للسلطات والنخبة المحلية. كما يصبح لزامًا على القوات الجنوبية والسلطات المحلية التعامل بسرعة وشفافية مع أي حادث، وتوضيح ملابساته ومحاسبة المتجاوزين إن وجدوا، بدل ترك الناس أمام روايات متضاربة. فكلما كانت الرواية الرسمية واضحة وموثقة، تضاءلت قدرة القاعدة على اقتطاع المقاطع من سياقها وتحويلها إلى أدلة على مزاعمها.



إبراهيم علي

خبير في شؤون في الجماعات المسلّحة، أخفى هويته لأسباب أمنية

Shared Post
Subscribe

Read also