أفراد وقادة من القوات الجنوبية في أحد جبال مديرية مودية بمحافظة أبين خلال انطلاق عملية الحسم، 15 ديسمبر 2025 (القوات الجنوبية)
Last updated on: 26-12-2025 at 6 PM Aden Time
يمثل المشهد الأمني في جنوب اليمن اليوم نقطة تحول تاريخية تتجاوز مجرد إعادة تموضع القوات أو السيطرة العسكرية التقليدية، إذ نجد أنفسنا أمام صياغة جديدة كليا لمفهوم "الحرب على الإرهاب" في بيئة جغرافية وقبلية شديدة التعقيد.
سوث24 | إبراهيم علي
لا شك أنَّ ما أحدثته القوات الجنوبية خلال السنوات الماضية لم يكن مجرد انتصارات عسكرية عابرة، بل كان تغييرا في "العقيدة القتالية" التي ظلت لعقود عاجزة عن حسم المعركة ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. ففي حين كانت القوات النظامية السابقة تكتفي باستراتيجية "إخراج التنظيم من المدن"، وهي استراتيجية أثبتت فشلها لأنها كانت تمنح التنظيم فرصة الانسحاب التكتيكي إلى الجبال ثم العودة للهجوم لاحقا، انتهجت القوات الجنوبية استراتيجية "الملاحقة والتطهير في المعاقل الوعرة".
بالعودة إلى الوراء، يظهر الفارق الجوهري بين نهجين، ففي عامي 2011 و2012، حين سيطر التنظيم على أبين وأجزاء من شبوة، نجحت القوات الحكومية آنذاك في طرده، لكنها ارتكبت خطأ استراتيجيا بالاكتفاء بتأمين المراكز الحضرية. هذا الحسم الجزئي سمح للتنظيم باللجوء إلى معاقله الجبلية لإعادة ترتيب صفوفه، وهو ما تفسره الأرقام الصادمة لعامي 2013 و2014، حيث نفذ التنظيم عمليات إرهابية فاقت من حيث النوع والكم كل ما نفذه منذ تأسيسه، مستغلا غياب الملاحقة في "المناطق الوعرة".
إلا أن المشهد شهد تحولا جذريا مع دخول القوات الجنوبية على خط المواجهة بين عامي 2015 و2019، إذ لم تتوقف العمليات عند حدود المدن المستعادة، بل امتدت لتطارد التنظيم في مخابئه الجبلية العميقة. هذا الإصرار على نقل المعركة إلى "العمق الدفاعي" للقاعدة هو ما كسر دورة تجدد النشاط، وحرم التنظيم من العودة والسيطرة مجددا على المناطق التي خسرها، محولا الجبال من "ملاذات آمنة" إلى مناطق استنزاف وملاحقة مستمرة.
ميزة الهوية وتحطيم الحاضنة
لطالما كان العامل القبلي هو "حجر الزاوية" في استمرار وجود تنظيم القاعدة في اليمن، حيث نجح التنظيم تاريخيا في استغلال حالة التوجس القبلي من القوات المركزية القادمة من خارج المحيط الجغرافي لمحافظات الجنوب. وفي الحروب السابقة، كانت القبيلة تشكل عامل تعطيل أو حاضنة اضطرارية للتنظيم، ليس بالضرورة إيمانا بأفكاره، بل نكاية بقوات نظامية كان ينظر إليها كقوات "احتلال" أو قوى دخيلة.
هنا تبرز الميزة الاستراتيجية الكبرى للقوات الجنوبية، والمتمثلة في كونها تشكلت من أبناء هذه المحافظات والقبائل ذاتها. ومن هنا فإن انخراط "المجند المحلي" في حملات مكافحة الإرهاب سحب من تحت أقدام التنظيم أهم أسلحته، وهي "الحاضنة القبلية". فعندما يدخل الجندي الجنوبي إلى مديرية "المحفد" في أبين أو "كور العوالق" في شبوة، فإنه لا يدخل كعنصر غريب، بل كابن للقبيلة أو جار لها، مما أسهم في ردم فجوة الثقة بين القوات المسلحة والمجتمع المحلي.
هذا التحول في الدور الاجتماعي حوّل القبيلة من بيئة توفر الملاذ للتنظيم إلى شريك أمني فاعل. إذ أصبح أبناء القبائل يدركون أن تطهير مناطقهم من عناصر القاعدة هو مصلحة مباشرة لاستقرار تلك المناطق وتنميتها، وليس مجرد تنفيذ لأجندة أمنية مركزية مفروضة عليهم من الخارج.
وعليه، فإن هذا الترابط الوثيق بين المقاتل الجنوبي وحاضنته القبلية هو الذي مكن القوات من اقتحام معاقل ظلت لسنوات محصنة ومنيعة أمام أي تدخل، مثل وادي المسيني بساحل حضرموت، أو مرخة والصعيد بشبوة، أو المحفد ومودية بأبين. ففي هذه المناطق، لم يكن التنظيم قادرا على الصمود أمام قوات تعرف تضاريس الأرض معرفة دقيقة، وتمتلك غطاء شعبيا يحرم عناصر القاعدة من التخفي بين السكان.
ربما أدرك التنظيم متأخرا أن اللعبة قد تغيرت، فالحرب لم تعد بين تنظيم وقوات نظامية كلاسيكية تلتزم بمواقعها داخل الثكنات، بل أصبحت حربا "شعبية - نظامية" تلاحقه إلى كهوف الجبال وشعاب الأودية. ونتيجة لذلك، سقطت استراتيجية "الانسحاب والعودة" التي اعتمدها التنظيم لعقود، إذ وجد نفسه لأول مرة مطاردا في عمق ملاذاته الآمنة، ولم يعد قادرا على استخدام المعاقل الجبلية كمنصات لإعادة السيطرة على المدن.
انتقال التجربة وسد الثغرات
مع تأمين القوات الجنوبية مؤخرا لوادي حضرموت ومحافظة المهرة، يبدو أننا أمام فصل الختام في عملية تطهير الجنوب. إذ ظل وادي حضرموت لسنوات طويلة يمثل "المنطقة الرمادية" التي استغلها التنظيم نتيجة لوجود قوات حكومية لم تكن تمتلك الإرادة أو التفويض الشعبي لملاحقته في الجبال المحيطة بالوادي. هذا المشهد رسّخ قناعة على الأرض بأن تلك القوات لم تكن تقف موقف الحياد، بل إن صمتها وتغاضيها تحوّلا عمليا إلى مظلة غير مباشرة سمحت للتنظيم بالتحرك والانتشار بحرية في مناطق كان من المفترض أنها خاضعة لسيطرة الدولة. وهذا التواطؤ غير المعلن هو ما جعل استبدال تلك الوحدات بقوات جنوبية أمرا ملحا، ليس كخيار سياسي، بل كحاجة أمنية عاجلة لكسر الحلقة التي أطالت بقاء الإرهاب ونشاطه في شرق البلاد.
وبالمثل، كانت محافظة المهرة تمثل بوابة خلفية وخط إمداد وتهريب حيوي، مستفيدة من التداخل الحدودي والضعف الأمني للقوات السابقة. إن نقل تجربة "أبين وشبوة" إلى هذه المناطق يعني بالضرورة انتهاء حالة "التعايش القسري" بين القوى العسكرية والتنظيمات المتطرفة في تلك المساحات الشاسعة.
القوات الجنوبية اليوم، وهي تبسط سيطرتها على الشرق، لا تنقل فقط السلاح والعتاد، بل تنقل "نموذج النجاح" الذي أثبت فاعليته في تدمير البنية التحتية للقاعدة. وهذا الانتقال سيؤدي حتما إلى سد الثغرات الجغرافية التي كان التنظيم يستخدمها للمناورة، فبمجرد أن يصبح المشهد الميداني موحدا تحت قيادة جنوبية واحدة من باب المندب إلى أقصى نقطة في محافظة المهرة، يفقد التنظيم القدرة على الهروب من ضغط العمليات في محافظة ليلجأ إلى أخرى "أكثر هدوءً".
وبهذا يعني تأمين المهرة ووادي حضرموت أن القوات الجنوبية أصبحت تمتلك المثلث الذهبي للسيطرة: "الأرض، والناس، والمعلومة". فالأرض في هذه المناطق، رغم وعورتها واتساعها، ستخضع لمنطق "التطهير والملاحقة" وليس لسياسة "غض الطرف".
ومما لا شك فيه أنَّ إغلاق هذه "الفجوة الشرقية" يعني عمليا حرمان التنظيم من أهم خطوط تهريب السلاح والكوادر الأجنبية، وتحويل مساحة تحركه من جغرافيا مفتوحة وممتدة إلى "جيوب معزولة" يسهل رصدها والتعامل معها. وبذلك، يتم إجهاض أي محاولة للتنظيم لإعادة بناء نفسه في مناطق نائية، إذ إن استراتيجية القوات الجنوبية تعتمد على الوجود الدائم وليس الحملات المؤقتة.
نهاية "العصر الذهبي" للقاعدة
لا تقتصر آثار هذا التحول الميداني على الداخل فقط، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك إقليميا ودوليا. فإحكام السيطرة على وادي حضرموت والمهرة يعني عمليا حماية خطوط الطاقة الدولية ومنشآت النفط والغاز، وحرمان التنظيم من مصادر تمويله التقليدية التي اعتمد عليها لسنوات عبر التهريب. وبالاستناد إلى ما تحقق سابقا في أبين وشبوة، يمكن القول إن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يقترب من نهاية مرحلته الأكثر قوة، حين كان قادرا على إدارة مناطق كاملة خارج سلطة الدولة.
لقد تغيّر موقع التنظيم جذريا، فبعدما كان قوة عسكرية تسقط مدنا بأكملها، كما حدث في المكلا عام 2015 وأبين عام 2012، أصبح اليوم مجرد خلايا مشتتة، مطاردة، تفتقر إلى الملاذات الآمنة والدعم المحلي الذي كان يوفر له القدرة على البقاء والتمدد.
وتعكس تحركات القوات الجنوبية في هذا السياق توجّها عمليا يقوم على إنهاء حالة الفراغ الأمني ومنع عودة التنظيم إلى استغلال المناطق غير المحسومة. فبدل الاكتفاء بردود الفعل، باتت العمليات تستهدف تثبيت السيطرة ومنع إعادة التشكل، بما يعيد للمؤسسة العسكرية دورها في حماية الأرض وتأمين الاستقرار العام.
خلاصة القول هي أن نقل نموذج الملاحقة والتطهير من أبين وشبوة إلى وادي حضرموت والمهرة يعني عمليا تضييق الخناق على آخر المساحات التي ظل التنظيم يستثمرها كمناطق ارتداد ومناورة، وكسر المعادلة التي سمحت له بالبقاء فاعلا رغم الضربات المتكررة.
نجاح هذا المسار لن يتم قياسه بعدد البيانات أو حجم الاشتباكات، بل بقدرة القوات الجنوبية على تثبيت معادلة الاستقرار طويل الأمد، وتحويل الأرض والقبيلة والمعلومة إلى منظومة واحدة تعمل ضد الإرهاب لا لصالحه. وإذا ما استمر هذا النهج بواقعية وصبر، فإن الجنوب سيكون أمام فرصة نادرة لإغلاق فصل طويل من العنف المسلح، وفرض واقع أمني جديد لا يترك للتنظيمات المتطرفة سوى خيار الانكماش أو الزوال.
إبراهيم علي
باحث في مركز سوث24 للأخبار والدراسات، متخصص بشؤون الجماعات المسلحة. أخفى اسمه الحقيقي لأسباب أمنية