عقدٌ على ثورات الربيع العربي (5، 6)

كتابات رأي

الثلاثاء, 16-02-2021 الساعة 11:52 صباحاً بتوقيت عدن

الثورة  السلمية الجنوبية 

ونحن نتحدث عن ثورات "الربيع العربي"، سيتحتم علينا هنا التوقف ولو بإيجاز عند الثورة السلمية الجنوبية التي كنا قد تحدثنا عنها في حلقة سابقة واستعرضنا الكثير من التفاصيل المتصلة بها في مسودة كتابنا "القضية الجنوبية وإشكالية الهوية" والذي نشرنا أجزاءً منه على هذه الصفحة، بغض النظر عما إذا اعتبرها البعض جزءً من هذه الثورات أو لم يعتبرها، فالمهم هنا هو ما أحدثته هذه الثورة من أصداء وما تركته من تأثيرات، وما تميزت به من خصائص لا تتوفر في سواها من ثورات "الربيع العربي".

وهنا نشير إلى المزايا التالية التي تميزت بها الثورة الجنوبية السلمية عن سواها:

1.  لقد انطلقت الثورة السلمية الجنوبية قبل نظيراتها العربيات بأكثر من 3 سنوات، وهو ما يمكن أن يفهم منه أن انطلاق الثورة الجنوبية، جاء والشعوب العربية لم تكن قد نضجت فيها ظروف اندلاع ثورات تغيير فاعلة وذات أبعاد ومقومات قابلة للحياة وإن الظروف الموضوعية في جنوب اليمن كانت قد بلغت مداها قبل بقية البلدان بفترة ليست بالهينة.

2.  إن الثورة الجنوبية السلمية هي ثورة تحررية قامت تنادي بإزالة آثار حرب العدوان والغزو ومن ثم التحرير والاستقلال وإنهاء الاحتلال، بخلاف نظيراتها في الجمهوريات العربية، التي قامت تدعو إلى إسقاط الانظمة الاستبدادية القائمة.

3.  لقد بدأت الثورة الجنوبية السلمية بمطالب حقوقية من خلال جمعيات المتقاعدين العسكرين الجنوبيين، الذين رفعوا شعارات المطالبة بحقوقهم في المساواة مع نظرائهم الشماليين، لكنها وبسرعة البرق انتقلت إلى المطالب السياسية والمتمثلة في التحرير والاستقلال استعادة الدولة الجنوبية وفي هذه المسارات الطويلة جذبت إليها مئات الآلاف (إن لم يكن العدد بالملايين) من الجنوبيين المتضررين من "وحدة الضم والإلحاق" والسلب والنهب.

4.  كانت الثورة الجنوبية السلمية خالية من تأثير القوى السياسي المقربة من النظام أوحتى المعارضة له، باستثناء ذلك الحضور لبعض الناشطين الجنوبيين من الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري، كما إن الهيئات العليا للحزبين لم تتردد في التعاطف مع مطالب المواطنين الجنوبيين بصورة عامة دون الخوض في التفاصيل.

"كانت الثورة الجنوبية السلمية خالية من تأثير القوى السياسي المقربة من النظام أوحتى المعارضة له" 

5.  وأخيراً فإن أهم ما ميز الثورة الجنوبية السلمية عن بقية ثورات "الربيع العربي" يكمن في أنها أقدم هذه الثورات، وأكثرها سلمية واستمرارية وتواصل، رغم ما واجهته من تعتيم وتجاهل ومحاولات السحق، واختراق بعض المكونات، واستنساخ مكونات أخرى، ومع ذلك بقيت الثورة كثورة وانكسر خصومها وتمسك روادها وأنصارها بقضيتهم العادلة، التي ما تزال تقف على رأس قائمة العناوين الرئيسية في المشهد السياسي اليمني.

الثورة السلمية الجنوبية والإخوان المسلمين 

لقد تميزت ثورة الجنوب بميزة مهمة تمثلت في غياب أي تأثير لحركة الإخوان المسلمين، (بخلاف بقية ثورات "الربيع العربي") بسبب تورط جناح الإخوان (التجمع اليمني للإصلاح) في ما تعرض له الجنوب من احتلال واجتياح واستباحة ونهب وسلب وسفك دماء.

وما تزال فتوى الوزير الإصلاحي عبد الوهاب الديلمي حاضرة في أذهان الجنوبيين عند ما أفتى بإجازة قتل النساء والأطفال والعجزة الجنوبيين في سبيل القضاء على "المفسدة الكبرى" كما وصفها، والمتمثلة بانتصار "الكفار الجنوبيين"، وحتى الشباب الإصلاحيين الذين أعلنوا تأييدهم للثورة الجنوبية السلمية وخرجوا من حزب الإصلاح، وهم قلة قليلة، كانوا ضحايا مثل غيرهم من ضحايا القمع والاغتيال والملاحقة والتنكيل، ويتذكر أبناء أبين المصير المؤلم التي تعرض له الناشط الإصلاحي السابق المحامي عبد الله اليزيدي الذي اغتيل بعد أيام من خروجه من الإصلاح وانخراطه في الحراك السلمي الجنوبي وكذا الخضر ناصر السعيدي الذي كان أحد ضحايا مجزرة زنجبار يوم 23 يوليو 2009م ضمن عدد من المحتجين على سياسات النظام تجاه الجنوب، مثله مثل عشرات آلاف الضحايا من ناشطي الحراك السلمي الجنوبي الذين قضوا أثناء الفعاليات السلمية على أيدي قوات الأمن المركزي والسياسي والقومي والحرس الجمهوري والجيش الرسمي في الجنوب.

"ما تزال فتوى الوزير الإصلاحي عبد الوهاب الديلمي حاضرة في أذهان الجنوبيين" 

وللإنصاف نشير هنا بأن عددا من ناشطي الإصلاح ونوابه البرلمانيين الجنوبيين، قد عبروا بهذا الشكل أوذاك عن تأييدهم لمطالب الشعب الجنوبي بإزالة آثار الحرب، وتوسيع دائرة المشاركة الجنوبية في إدارة شؤون البلاد وشاركوا في بعض الفعاليات الجنوبية مثل مؤتمر القاهرة و غيره، لكن أحداً من هؤلاء لم يتصدر المشهد أو ينتمي إلى أي مكون من مكونات الحراك السلمي الجنوبي الحاضرة في الميدان مع الإشارة إلى أن البعض قد تراجعوا عن مواقفهم تحت ضغط القيادات التاريخية والهيئات المركزية لحزب الإصلاح.

أين أصابت وأين أخفقت تلك الثورات ولماذا وكيف؟ 

من المؤسف أن الكثير من المتابعين والقراء المهتمين بل وبعض من بقدمون أنفسهم كمحللين سياسين ومعهم بعض الناشطين الإعلاميين ينظرون إلى ثورات "الربيع العربي" بمنظار أحادي أو كما يقول العامة "يا اسود يا ابيض" وهذا النوع من التعامل مع ظاهرة أو ظواهر سياسية - اجتماعية شديدة التعقيد ومتعددة العوامل والمفاعيل والمؤثرات والتأثيرات، لا علاقة لها لا بالسياسية ولا بالعلم، ولا بمنطق الرصد والتحليل، لعدة أسباب لعل أهمها: 

أولاً، إن هذه الثورات قامت في بيئات مختلفة ومناطق مختلفة وظروف مختلفة وتكمن وراءها أسباب وعوامل مختلفة.

وثانياً، إن هذه الثورات انخرط فيها الملايين من ذوي المشارب الاجتماعية والانتماءات الفئوية والمستويات المعرفية والسياسية المختلفة من البسطاء والمثقفين والفئات الاجتماعية ذات الهويات والمصالح المتفاوتة، وهو ما لا يصلح أن نتعامل معه بهذا المنطق الأحادي.

وثالث هذه الأسباب، أن ما قد يراه أحدنا حقا قد يراه الآخر باطلا، وما يراه هذا صوابا قد يراه ذاك خطأ والعكس بالعكس.

وبعيدا عن الخوض في تفاصيل ومحاججات لا طائل منها لنتحدث بوضوح، بأنّ الأنظمة التي تعرضت لسخط الشعوب وغضبها وإعلان التمرد والثورة عليها، لم تكن أنظمة مثالية لا في مستوى معيشة أبناء شعوبها ولا في نجاح مستوى الإدارة والحوكمة وتفعيل القانون، ولا في احترام الحريات العامة وحقوق المواطنة وحفظ الكرامة الإنسانية لأبنائها، ولا حتى في حماية السيادة الوطنية لبلدانها وحمايتها من التعرض للإملاءات الخارجية، حتى لا يقول أحدٌ أنّ ثورات "الربيع العربي" كانت عملا مؤامراتيا خارجياً، فالخارج قد كان موجوداً ومستمتعاً بكل ما يريده دون أن يحتاج لممارسة أية إملاءات أو ضغوط على الحكام ناهيك عن حبك مؤامرات أو تدبير انقلابات على هذه الأنظمة.

لسنا بحاجة إلى التأكيد على أنّ ثورات "الربيع العربي" إنما قامت بسبب تدهور منظومة الحقوق في البلدان العربية، بدءً بالحقوق السياسية وكل ما يتصل بها وانتهاء بنظام الخدمات والحياة المعيشية وتوسع مساحة الفقر والبطالة واتساع الفجوة الاجتماعية بين الأغلبية السكانية من شرائح الفقراء والمعوزين وتلك الأقلية من طبقة الأثرياء القادمين في معظمهم من الطبقات الطفيلية التي أثرت من خلال تزاوج السياسة والبيزنيس، بحيث تحول بعض الحكام إلى جزء من طبقة الأثرياء وتفوق بعضهم على أثرى الأثرياء في بلاده، بمقابل تدهور منظومة الحوكمة وتغييب القانون والاحتيال على الدساتير وإعداد الأرضية للانتقال إلى النظام الوراثي.

"ثورات "الربيع العربي" إنما قامت بسبب تدهور منظومة الحقوق في البلدان العربية" 

لكن ما يمكن تأكيده هنا هو إن كل هذه العوامل كانت تصنع حالة من انسداد الأفق أمام الأجيال الجديدة التي انتقلت في ظل وجود حكم نفس الحكام من سن الرضاعة والطفولة المبكرة إلى الحياة الجامعية ودخول عالم السياسة والثقافة والتعرف على ما يجري في العالم من تحولات اجتماعية وديمقراطية وخدمية، وشاهد الشباب العربي دول عظمى يتداول فيها الحكم خمسة وستة رؤساء، وحاكم بلادهم لم يتغير على مدى ثلاثة وأربعة عقود، ورأى العالم يدخل مراحل الخدمات المجانية وصناعة الروبوت، وبلاده تذهب من السيء إلى الأسوأ وتستورد إبرة الخياط وقرص الأسبرين من الخارج، وشهد انتقال بلدان عديدة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وغيرها  من التحولات والمتطلبات التي  تفتقدها بلدانهم، وهو ما دفعهم إلى الانخراط في الثورة والمطالبة بـ "إسقاط النظام".

ثورات "الربيع العربي" لم تكن حالة عبثية ولا مؤامرة خارجية ولا حتى نزاع مصالح بين المتنافسين السياسيين في البلد الواحد، بل كانت تعبيرا عن حالة من ذروة اليأس والإحباط والسخط الشعبي تجاه حكام أوصلوا بلدانهم إلى حافة الانهيار وما يزالون يتبجحون بأنهم "صناع المنجزات" و"أبطال المعجزات" و"فرسان العرب والعالم" والخلق الذين لم يخلق الخالق أمثالهم.

أما كون القوى الانتهازية وأصحاب المصالح والطامعين بمزيد من المصالح على حساب معاناة الشعوب قد انخرطوا في هذه المعمعة الشعبية  العفوية الهائجة فذلك أمرٌ آخر لا يفقد الثورات العربية مشروعيتها وأحقيتها وعدالة المطالب التي طرحتها منذ يوم انطلاقها.

- من صفحة الكاتب على فيسبوك 

كلمات مفتاحية: ثورات الربيع العربي الثورة السلمية الجنوبية جنوب اليمن