خارطة القوى ومحركات الصراع في تعز

اكتسبت  محافظة تعز أهمية استثنائية في خارطة الصراع اليمني، نظراً لموقعها المفتاحي الذي يجعلها عقدة مواصلات حيوية بين الشمال والجنوب، واطلالها المباشر على مضيق باب المندب، إضافة الى الرمزية السياسية التي تحظى بها المحافظة باعتبارها بؤرة نشطة للحراك الفكري والحزبي الذي جعلها "عصية على التصنيف"، وحوّلها لاحقاً إلى ساحة مُعقّدة من الصراع الذي يكثّف الى حد كبير تناقضات وتشابكات الأزمة اليمنية.

يوجد في تعز ثلاث قوى رئيسية (حزب الإصلاح، جماعة الحوثي، والمقاومة الوطنية) تقاسمت السيطرة الجيوسياسية على المحافظة عبر تشكيلاتها المسلحة على الأرض. وإلى جانب هذا الثلاثي تبرز بعض المكونات السياسية والمدنية الساعية للتأثير في مسار الأحداث، إضافة إلى قوات المجلس الانتقالي الجنوبي التي تتموضع في بعض المديريات الجنوبية الغربية للمحافظة، ورغم نفوذها العسكري، فإنَّها ترفض حتّى الآن أن تلعب دوراً سياسياً استباقياً في تعز، ملتزمة بحدودها الجنوبية.

تُحكِم جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، سيطرتها على أجزاء واسعة من شرق وشمال المدينة (مديريات شرعب الرونة،  شرعب السلام، مقبنة، التعزية وماوية) وأجزاء من غرب المحافظة (في مديريتي مقبنة وجبل حبشي)، إضافة إلى مديريتي حيفان ودمنة خدير في الريف الجنوبي الشرقي للمحافظة، وتفرض حصاراً خانقاً على المدينة، التي لم تعد تتنفس إلا عبر شريان واحد يربطها بالعاصمة عدن في الجنوب.

بالمقابل تتموضع قوات طارق صالح (المقاومة الوطنية) المدعومة إماراتياً، والعاملة ضمن القوات المشتركة، في مديريات المحافظة على الساحل الغربي، تُشاركها بعض وحدات القوات الجنوبية في مديريتي موزع والوازعية القريبتين من مديرتي المخا وذوباب الساحليتين.

أما حزب الإصلاح (فرع الإخوان المسلمين في اليمن)، فيفرض سيطرة كاملة خصوصاً من الناحية العسكرية والأمنية على باقي المحافظة (وتحت غطاء الحكومة اليمنية)، حيث تتموضع ميليشاته والقوات الموالية له في وسط المدينة وغربها وأجزاء واسعة من أحياء جنوب شرقي المدينة، والمدينة القديمة التي كانت تتمركز فيها قوات القيادي السلفي المعروف بـ "أبو العباس" ⁽¹⁾، والذي تمَّ إخراجه منها بتهمه أنَّه موالٍ للإمارات ⁽²⁾، ثم وسّع "الإصلاح" سيطرته الكاملة على مديريات ريف تعز الجنوبي المعروف بـ "الحُجرية"، بعد اغتيال العميد عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع في نهاية عام 2019، واجتياح المنطقة بعد ذلك بأشهر، بقوات كبيرة تتهم أنها تُمول من قطر ⁽³⁾ وتركيا ⁽⁴⁾، بالذات ما يعرف بـ " قوات الحشد الشعبي" ⁽⁵⁾ التي أسسها القيادي بحزب الإصلاح، حمود سعيد المخلافي ⁽⁶⁾، وتحت إشراف محور تعز العسكري، بهدف السيطرة على "الحجرية" والتوسع باتجاه الساحل الغربي، والجنوب. ⁽⁷⁾

منذ منتصف العام 2017، لم تخض القوات الحكومية في تعز أي عملية عسكرية حقيقية ضد الحوثيين، وتحديداً بعد أن بدأ حزب الإصلاح، يحكم سيطرته على مفاصل المؤسستين العسكرية والأمنية، وأجرى العديد من التغييرات في الجيش والأمن، بإزاحة القيادات التي يعتقد أنها مناوئة له وتمكين عناصر "غير كفؤة"، وظلت العمليات القتالية تراوح بين الكر والفر في محيط تبة السلال بالجبهة الشرقية والجبهة الشمالية للمدينة. ⁽⁸⁾

كما شكل "الإصلاح" العديد من الوحدات العسكرية ⁽⁹⁾ بدون قرارات جمهورية وحدّد مسرح عملياتها بعيداً عن قيادة المنطقة الرابعة التي تقع تعز ضمن نطاقها، وأوكل قيادتها لعناصره من خارج الجيش الذي أعلن ولائه للحكومة اليمنية. كما أسند مهام قيادة الكتائب في الوحدات التابعة لمحور تعز العسكري إلى أبناء قيادات المحور وأشخاص من "ذوي السوابق" والمطلوبين أمنياً وبعض "الفارين" من السجون ⁽¹⁰⁾، حتى تَسهل عملية السيطرة عليهم وتوجيههم لتنفيذ مخططاته وأجنداته في المحافظة وفقاً لمراقبين، ومن هذه الوحدات "اللواء الرابع مشاة جبلي"، الذي كشف بشكل جلي عن توجه الحزب "للسيطرة على "الحُجرية" ⁽¹¹⁾ على حساب اللواء 35 مدرع، الذي كان يصنفه "الإصلاح"، على رأس قائمة العوائق التي تحد من توسيع نفوذه وسيطرته.

وعقب اجتياح "الحجرية" في 22 أغسطس 2020، نشر حزب الإصلاح المئات من مسلحيه والقوات الموالية له في مسرح عمليات اللواء 35 مدرع، وسيطر على المرتفعات الاستراتيجية في المنطقة، والتي تطل على الجنوب ⁽¹²⁾. كما حاول التوسع في مناطق الصبيحة بالتحديد في مديرية طور الباحة، وشكّل محوراً عسكرياً فيها بدون قرار رسمي معلن ⁽¹³⁾، وأوكل قيادته لأحد أعضاء الحزب ويدعى أبو بكر الجبولي ⁽¹⁴⁾، الذي كان يعمل مدرساً، وسبق أن عينه "الإصلاح" قائداً للواء الرابع مشاة جبلي، واستقطب العشرات من أبناء المنطقة وضمهم إلى قوات المحور الجديد ⁽¹⁵⁾. وحتى اليوم، لا زال "الإصلاح" يحاول خلق خطوط مواجهة محتملة مع "خصمه اللدود" المجلس الانتقالي الجنوبي في المنطقة، غير أنَّ اتفاق الرياض يكبح كل خططه وجموحه، خصوصاُ تجاه الجنوب حتى اللحظة، كما يؤكد مراقبون.

ويقول مراقبون أنَّ حزب الإصلاح يغلف تحركاته وسعيه في توسيع نفوذه بغطاء "الشرعية" مسنوداً بـ "ماكينة إعلامية" ضخمة محلية وكذلك خارجية مرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، إضافة إلى تسخيره الإعلام الرسمي، من قنوات وصحف ومواقع الكترونية، لتبرير توجهاته وتحركاته، وإظهارها بأنَّها في سياق معركة استعادة الدولة ومواجهة الحوثيين، ومهاجمة أي صوت مختلف ومناهض لهذه التحركات. 

ويشير المراقبون إلى أنَّ العديد من قيادات حزب المؤتمر العليا المحسوبة على تعز تسنُد حزب الإصلاح في توجهاته وتتغاضى عن كل ما يخطط له، بعد أن ضمن لها استمرار مصالحها وبعض الامتيازات التي كانت تحظى بها في عهد النظام السابق. ومن هذه القيادات رشاد العليمي الذي يشغل مستشار رئيس الجمهورية، محافظ المحافظة الحالي نبيل شمسان، المحافظ الأسبق علي المعمري، سلطان البركاني الرئيس الحالي لمجلس النواب المنتهية ولايته، وعضو مجلس النواب محمد مقبل الحميري، وغيرهم من القيادات المحلية المرتبطة بهم، أبرزهم وكيل المحافظة عارف جامل، إضافة إلى بعض من قيادات الأحزاب الأخرى في المحافظة. وهذا ما أعطى حزب الإصلاح "غطاءً" للتحرك بأريحية تامة في تعز، كما يشيرون.

ومنذ اغتيال الحمادي، وما سبقه من "حملات تشويه" تبناها ناشطو حزب الإصلاح ضدّه ⁽¹⁶⁾، والسيطرة على مسرح عمليات اللواء 35 الذي كان يقوده، لجهة تمكين "المليشيات" التابعة له، يؤكد محللون أنَّ توجهات "الإصلاح" باتت الآن محصورة في التوسع غرباً، والتموضع استعداداً للزحف جنوباً ⁽¹⁷⁾، مشيرين إلى تناسي الحزب "المعركة الكبرى والوجودية" ضد جماعة الحوثي. وهذا ما كشفت عنه العملية الأخيرة التي أطلقها محور تعز، وتحرك خلالها على محورين: الأول من جهة الغرب في مناطق مقبنة والكدحة في المعافر وجبل حبشي وكلها مناطق تطل على الساحل الغربي. فيما الثاني كان جنوباً وتركز على مناطق حيفان في الأحكوم والأعبوس، وكلها تطل على مناطق محافظة لحج الجنوبية. وكانت العملية تحت غطاء استكمال تحرير المحافظة من "مليشيا الحوثي"، وهو المشروع العام الذي تلتف حوله القوى المؤيدة لـ "لشرعية اليمنية" في تعز.

ويذهب العديد من الخبراء العسكريين إلى أنَّ المعركة مع الحوثيين وتحرير تعز من سيطرتهم تأخذ مسارات مختلفة عما ذهب إليه المحور وحزب الإصلاح، الذين "سخروا كل إمكانيات وموارد المحافظة بصورة مخالفة للقانون ⁽¹⁸⁾ يسودها الفساد والنهب للمال العام لهذه العملية"، والتي وفقاً لهؤلاء الخبراء "لا تخدم سوى مخططات وطموحات الإصلاح في توسيع نفوذه"، أهدر خلالها الكثير من المقاتلين والإمكانيات. مؤكدين أنَّه لو كانت العملية ذهبت بمسارين مختلفين: الأول من جهة شرقي صبر ومديرية دمنة خدير والصلو وصولاً إلى الراهدة جنوب شرق تعز، وقطع خط إمداد الحوثيين إلى حيفان، والثاني: عبر اختراق منطقة الربيعي وصولاً إلى الستين وقطع خطوط الإمداد الحوثية إلى مقبنة التي كانت "ستسقط معه بشكل تلقائي"، ومع الضغط المستمر كانت القوات ستحقق تقدما متسارعا ويمكن أن يلتقي المسارين في نقطة واحدة هي الاتجاه نحو منطقة الحوبان، بيد أنَّ حسابات الإصلاح طبقاً لمحللين كانت تذهب إلى خيارات أخرى لا تعني معركة التحرير في شيء، بقدر ما تعني "مخططاته وأجنداته باتجاه الساحل الغربي والجنوب".

صادرت الحرب بشكل كبير المجال السياسي على أغلب القوى السياسية والمدنية، ومع تحرير أجزاء من مركز المحافظة وبعض مديرياتها، بدأت هذه القوى بالتحرك محاولة المساهمة في تطبيع الأوضاع واستعادة مؤسسات الدولة ⁽¹⁹⁾ لكنَّها كما يؤكد قادة ونشطاء مدنيون اصطدمت بـ "تغول حزب الإصلاح" ⁽²⁰⁾ على كل مفاصل مؤسسات الدولة مدنية وعسكرية، و"تهربه من استحقاقات كثيرة تعزز الشراكة السياسية"، ونالت معه هذه القوى كثيراً من تهم الخيانة ⁽²¹⁾ لمجرد أنَّها طالبت بإجراء إصلاحات جوهرية في الجهاز الإداري المدني والعسكري، لجهة تعزيز حضور الدولة والقضاء على الاختلالات ومظاهر الفساد الذي تمارسه قيادات المحافظة مدنية وعسكرية، حد تعبيرهم.

ومؤخراً برزت إلى الساحة تكتلات سياسية تضم القوى المدنية في مقدمتها الحزبين الاشتراكي والناصري، وتيار من حزب المؤتمر "المناهض لـ "هيمنة الإصلاح" إلى جانب منظمات المجتمع المدني، ونظم هذا التكتل مظاهرة حاشدة تحت اسم "حركة يكفي" ⁽²²⁾، مطالباً بإحداث تغييرات حقيقية في بنية السلطة المحلية والجيش والأمن وتعبئة الموارد نحو استكمال معارك التحرير. وخلق هذا المتغير معادلة جديدة على قاعدة "3+1". لكنَّ هذه القوى لازالت تتحرك في هامش مناورة ضيق، ولا يمكن لها كما يشير محللون أن تتحول إلى لاعب رئيسي في الصراع الجاري على المدى المنظور.