12-11-2021 الساعة 1 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | د. إيمان زهران
يبدو أنّ فصول "الإضطرابات الأمنية" لازالت مستمرة في جنوب اليمن، كان آخرها مقتل صحفية وجنينها بعبوة ناسفة، وما تمَّ تسجيله عقب عملية التفجير أمام إحدى بوابات مطار عدن، في 30 أكتوبر2021، كواحدة ضمن سلسلة من التفجيرات خلال الأسابيع الأخيرة في المناطق الجنوبية، مما يؤسس لعدد من التساؤلات تتأرجح ما بين الأهمية الجيوسياسية لجنوب اليمن، وعوامل تمدد الإضطرابات الأمنية، فضلا عن مستقبل العملية السياسية اليمنية وحجم انعكاساتها على تقويض دعائم الإضطرابات الأمنية هناك.
أولا- الأهمية "الجيوسياسية" لجنوب اليمن":
يُشكل "الجنوب" عمقاً جيوستراتيجياً للمنطقة، ومحور ارتكاز لعدد من المحددات السياسية والاقتصادية تتقاطع بشكل مباشر مع أولويات الاستقرار والأمن والتنمية. وذلك بالنظر إلى عدد من النقاط، تنعكس بشكل مباشر بالنظر إلى الخريطة التالية:
File:Yemen regions map (Arabic).png - Wikimedia Incubator
- يُعد "جنوب اليمن"، تمركزاً جيوسياسيا لقوى التحالف العربي "الإمارات والسعودية ومصر ودول التحالف، بالتعاون مع المجلس الانتقالي الجنوبي" لمواجهة نفوذ إيران في المنطقة.
- التأثير/ والتحكم فى حركة الملاحة الدولية، وذلك إنطلاقا من موقع "الجنوب" الذي يتوسط "مثلث النفوذ الحيوي"، لأهم ثلاث ممرات بحرية "هرمز، باب المندب، قناة السويس". فعلى سبيل المثال: تُشكّل جزيرة سقطرى أهمية تجارية وسياحية واستراتيجية، خاصة وأنها تشرف على خطوط الملاحة البحرية الدولية في المحيط والخليج. فضلا عن المكانة الجيوسياسية والتجارية لميناء عدن، جنبا إلى جنب، الاستفادة من الميزة التفضيلية لما يعرف بـ "اقتصاديات الموانئ الجنوبية"، وذلك على طول الساحل بدءاً من ميناءي نشطون في المهرة، وحولاف في سقطرى شرقاً حتى مرفأ جزيرة ميون غرباً.
- امتلاك "الجنوب" لما يُعرف بـ "إقتصاديات الطاقة"، إذ يزخر بمخزون لا يُستهان به من المواد الهيدروكربونية، لاسيما النفط والغاز الطبيعي المسال، والمعادن، إذ قُدَّر ذلك المخزون بنحو 128 عنصراً من المعادن والفلزات المختلفة.
- يمثل "جنوب اليمن" إحدى نقاط الإرتكاز الداعمة لمشروع "الحزام والطريق"، أو ما يعرف بـ"طريق الحرير الجديد"، نظراً لأهمية موقعه وامتلاكه عدداً من الموانئ والجزر المتناثرة، وعددها 130، بين طريق مينائي عدن والمخا الذي يتوسطهما مضيق باب المندىب، وجزيرة بريم التي تتوسط هذا المضيق.
استناداً على ما سبق، يحظى جنوب اليمن بالعديد من الخصائص التي تؤهله كإرتكاز محوري نحو تطبيق سياسات "النفاذ إلى الغرب"، أو "الاستدارة نحو الشرق"، ومسار يمكن البناء عليه لإنجاز متطلبات الإستراتيجية الإقليمية نحو "مشروع التكامل العربي".
ثانيا - دعائم "الإضطراب الأمني" :
ثمة عدد من الترجيحات، التي تتفق على أنّ "الإضطرابات الأمنية" لم تبدأ في الظهور مع بدء الحراك المجتمعي اليمني في 2011، بل سبق هذا التاريخ بسنوات. وذلك إستنادا إلى ثلاث ملاحظات، أولاً: الاضطراب نتيجة إدارة نظام حكم رئيس السابق علي عبد الله صالح واستتباعه لمؤسسات وأجهزة الدولة، في صراعات السيطرة والتوازن بين المجموعات الطائفية والقبلية والجهوية. وثانيا: تهميش نظام حكم صالح للقوى الفاعلة في جنوب اليمن، خاصة فيما بعد النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين. وثالثا: عجز صالح عن فرض سيادة القانون، واحتكار الدولة الوطنية للاستخدام المشروع للقوة الجبرية، على نحو مكّن الكثير من القبائل والحوثيين في شمال اليمن والقاعدة وأطراف محلية في الجنوب من التسلح، وبناء تحالفات قائمة على إمدادات السلاح والمال مع أطراف إقليمية متنوعة. ورابعا: الانعكاسات المجتمعية الناجمة عن إشكالية توزيع الثروة، وتصاعد الفساد، وغياب الجهود التنموية الفاعلة وسياسات العدالة الاجتماعية.
عقب ذلك، تعددت الأطرر النوعية لمحفزات "الإضطرابات الأمنية"، والتي ترتكز أهمها فى: تداعيات جائحة كورونا، إعادة إنتاج/ وتمدد تنظيم القاعدة في اليمن، المواجهات مع الحوثيين، فشل التوصل إلى تسوية سياسية سلمية تقودها جهود أممية وتحظى بتوافقات محلية وإقليمية، وهو ما يظهر تفصيلا بالنقاط التالية:
1. تداعيات جائحة كورونا:
إذ أضفت تلك الجائحة مزيداً من التعقيدات على التفاعلات الداخلية وأنماط التسوية وانعكاس ذلك بشكل مباشر على تصاعد نمط "الاضطرابات الأمنية"؛ كما دفعت الجائحة بتوظيفات الفاعلين الإقليميين (مثل إسرائيل وإيران وتركيا ومصر والسعودية والإمارات، وقطر)، وسياسات الفاعلين المحليين (مثل جماعة الحوثي، والمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، ومقاتلي السلفية المدخلية في اليمن ،.. إلخ)، إلى تعميق الاستقطابات الإقليمية والدولية، وهو ما يستدعي مزيدا من الوقت للتوصل إلى حلول توافقية ومعالجة آثاره السلبية. فعلى سبيل المثال: إختزلت التسويات الدولية والإقليمية "المسألة اليمنية"، في منظور "أمني/ إغاثي"، دون النظر لحجم التعقيدات الداخلية وتشابكاتها مع الأبعاد الدولية والإقليمية، فضلاً عن تجاهل "الإنقسام النخبوي" وفشل الدولة فى إدارة مؤسساتها الداخليه وتحالفاتها الخارجية.
2. إعادة إنتاج/ وتمدد تنظيم القاعدة:
ساهمت مجموعة من العوامل في تمدد تنظيم القاعدة في اليمن وبقائه رغم كل الضربات التي تعرّض لها منذ بدايات القرن الحالي، وذلك بالنظر إلى النقاط التالية:
- العامل الأول: ثمة عدد من الدعائم التحفيزية لتعزيز المكانة الاستراتيجية لليمن في فكر القاعدة، أبرزها: المعيار الديموغرافي المتمثل في كثافة عدد السكان في اليمن، وما تتيحه من فرص لاستقطاب المتطرفين وتجنيدهم، والثاني متمثلا في العامل الجغرافي المرتبط بما تتميـز به اليمن من طبيعة جبلية، والمعيار الثالث مرتبط بانتشار السلاح في اليمن، والرابع يتمثل في الحدود المفتوحة والتي تتيح للتنظيم حرية الحركة والمناورة العسكرية.
- العامل الثاني: التوظيف السياسي للجماعات المتطرفة وعناصر تنظيم القاعدة لخدمة الأجندات الخاصة للأطراف المحلية، فعلى سبيل المثال: جيش "عدن أبين الإسلامي" والذي شُكل في اليمن في تسعينيات القرن الماضي، كان يعمل بدعم من القائد العسكري البارز في نظام الرئيس صالح آنذاك "علي محسن الأحمر" (1). كما اتهم تقرير صدر عن فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات على اليمن في مجلس الأمن الدولي عام 2012، الرئيس صالح بأنه سهل لكل من الحوثيين وتنظيم "القاعدة" توسيع سيطرتهم على شمال اليمن والجنوب بعد أحداث عام 2011، وأشار التقرير نفسه إلى مقابلة صالح في مكتبه بصنعاء عام 2011 وبحضور وزير الدفاع آنذاك اللواء محمد ناصر أحمد بالأمير المحلي لتنظيم القاعدة "سامي ديان". فضلاً عن ذلك ساهم التعاطي غير الحكيم أحياناً من قبل النظام اليمني السابق مع تنظيم القاعدة على المستوى الأمني في مضاعفة خطر هذا التنظيم، مثل: الإفراج عن أعداد كبيرة من منتسبي القاعدة عام 2007 بعد قيامهم بإجراء مراجعات صورية، إذ سرعان ما عادوا بعدها للانضمام للتنظيم.
- العامل الثالث: يرتكز على أنماط العلاقة التحالفية التي ربطت القاعدة بالتنظيمات المتطرفة الأخرى، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع، وخاصة في أوساط الجنوبيين، كراعٍ وعامل مُحفّز على تمدد تنظيم "القاعدة" في جنوب اليمن (2).
- العامل الرابع: إذ يرتبط بحالة التوتر وعدم الاستقرار السياسي والأمني التي شهدها اليمن منذ تسعينيات القرن الماضي (الحرب الأهلية عام 1994، الحروب المتكررة مع الحوثيين، الحراك الجنوبي منذ عام 2007، الفوضى التي خلّفتها أحداث الربيع العربي)، إذ شكلت جميعها بيئة ملائمة لتمدد تنظيم القاعدة.
3. المناوشات/ التمدد الحوثي في جنوب اليمن:
إذ يسعى الحوثيون عبر التحرك الجغرافي نحو جنوب اليمن إلى السيطرة على خارطة سكان اليمن وموارد مناطقها الجنوبية، وذلك للاستعانة بإعادة ترسيم الجغرافيا الميدانية للصراع كأحد الأوراق السياسية للتفاوض بعملية التسوية السلمية حين إعادة طرحها من جانب المبعوث الأممي الرابع. فعلى سبيل المثال: استطاع الحوثيون السيطرة على محافظة البيضاء التي أضحت مركز انطلاق للعمليات الحوثية الجديدة شرقاً، بالإضافة إلى التمدد نحو أربع مديريات في كل من مأرب وشبوة، إذ يُنظر إلى تمدد الحوثيين في شبوة للدفع نحو السيطرة على حقول النفط كمورد اقتصادي ضخم، واستخدامها نقطة انطلاق لوجستي نحو المحافظات الجنوبية، باعتبار شبوة منطقة تتوسط المحافظات الجنوبية، بالتالي سيتخذها الحوثي مقراً لإعداد وتجهيز قواته بكل الأسلحة والإمكانات المادية والبشرية تمهيدا للسيطرة على محافظات أبين وعدن جنوباً، وحضرموت والمهرة شرقاً.
4. فشل التوصل إلى تسوية سياسية سلمية بجهود أممية وإقليمية:
حيث لم يتم التوصل حتى وقتنا هذا إلى الحديث عن خلق مساحات مشتركة بين مختلف الأطراف المنخرطة بالمسألة اليمنية، وذلك تمهيدا لإنجاز متطلبات "التسوية السلمية" والتي دوما ما تخفق نتيجة لعدم مراعاه التعقيدات الداخلية للمجتمع اليمني وجذور القضايا المحلية، فضلا عن حجم التشابكات الإقليمية والدولية على الأراضي اليمنية، وهو ما يتطلب معه إعادة النظر لعملية "التسوية السياسية"، إذ يحتاج الأمر إلى البحث عن مقاربة جديدة مغايرة للنهج المتبع في إدارة عملية التسوية السياسية في اليمن، مقاربة أممية تأخذ في إعتباراتها أربعة أبعاد رئيسية: ردع تعنت جماعة الحوثي، مراجعة القرارات الأممية بما يتوافق مع التطورات الميدانية بالمسألة اليمنية، العمل على استعادة مؤسسات الدولة الرسمية والخدمية، بالإضافة إلى إشراك منظمات المجتمع المدني، وذلك لتدشين صياغات توافقية حول شكل التسوية السياسية ومحددات السلام العادل لكافة المدنيين .
ثالثا - مستقبل "الإضطرابات الأمنية":
قياساً على حجم التطورات السياسية والعسكرية والاستراتيجية في جنوب اليمن، فثمة عدد من المسارات التي قد تحدد مستقبل "الإضطرابات الأمنية"، وذلك على النحو التالي:
1. نجاح جهود المبعوث الأممي الرابع - السويدي "هانز جروندبرج":
ثمة ضغوط متباينة تحيط بأجندة التحركات الخاصة بالمبعوث الأممي الرابع إلى اليمن، خاصة في ظل عدم وجود مؤشرات واضحة وملموسة تُنبئ بحدوث تقدم وشيك علي صعيد التسوية السياسية، وهو ما سبق أن أعلنه "هانز جروندبرج" في إحاطته الأولى في 10 سبتمبر 2021، التي لم تحمل في مضمونها ما يخالف العديد من التوقعات بشأن صعوبة المهمة وطبيعة التحديات التي ستواجه وساطة الأمم المتحدة في اليمن. يتمثل أبرزها في:
- تداخل/ تشابك الملفات:
حيث أضفى طول فترة الصراع المزيد من التعقيدات على آلية الحل، إذ لم يعد الأمر فقط دراسة "الأوضاع الميدانية للصراع وفرص السلام" استنادا لأجندة الأطراف المحلية/ الداخلية، بل تخطى ذلك لخلق مساحات مشتركة للتجاذبات والمساومات الإقليمية والدولية على الأراضي اليمنية، لضمان دعمهم لـ "التسوية السياسية السلمية". فعلى سبيل المثال: ثمة مشاهدات تُرجّح العلاقة الارتباطية بين التقدم في عملية "التسوية السياسية" للمسألة اليمنية، والتقدم في المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني. وقياسا على ذلك رصد حالة الصراع والتنافس الإقليمي بين إيران والمملكة العربية السعودية، وتأثيراته المتباينة على فرص إنهاء الحرب في اليمن، وانتقال الملف اليمني مع مرور الوقت إلى ورقة مقايضة مقابل تحقيق مكاسب متنوعة على صعيد القوة والنفوذ والمكانة الإقليمية والدولية.
- تعدد/ تباين أجندات أطراف الصراع:
إذ بالنظر لأغلب المباحثات التي قامت برعايتها الأمم المتحددة لحلحلة المسألة اليمنية باستثناء مباحثات جنيف، فقد ركزت بصفة رئيسية على "الأطراف المباشرة للصراع" ، والمتمثلة في "الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا - وجماعة الحوثيين"،ولكن مع تعثر فرص الحل، والتغير الديناميكي والميداني سياسيا وعسكريا، وبروز قوى أخرى نجحت في إيجاد موطئ قدم لها في "المسألة اليمنية، حيث تزايدت الدعوات لتوسيع طاولة المفاوضات وضم أطراف أخرى إلى جانب الأطراف الرئيسية المباشرة، ومن بين أبرز الأطراف ذات الثقل - حديثا - في مباحثات التسوية السياسية: أولا، المجلس الانتقالي الجنوبي: حيث تمكن من انتزاع اعتراف رسمي به من خلال توقيعه "اتفاق الرياض" مع الحكومة المعترف بها دوليا في نوفمبر 2019، برعاية المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وبتأييد ومباركة أممية ودولية، وتضمن الاتفاق مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي في وفد الحكومة لمشاورات الحل السياسي النهائي، كما أن حرص المبعوث الأممي الرابع زيارة الإنتقالي، أضفى المزيد من الإعتراف الأممي، وأكد على مدى اهتمام المجتمع الدولي بأفكار وتوجهات المجلس، باعتباره أبرز الفاعلين والممثلين عن القضية الجنوبية في أية مباحثات مستقبلية. وثانيا، "المقاومة الوطنية - حراس الجمهورية" المتمركزة في الساحل الغربي، حيث أعلن في مارس الماضي عن تأسيس المكتب السياسي للمقاومة الوطنية، وهو كيان محسوب بشكل أو بآخر على حزب المؤتمر الشعبي العام، ويسعى هذا الكيان إلى توسيع سلطته في أجزاء كبيرة من محافظتي الحديدة وتعز، غرب البلاد، ومن ثم ضمان موقع مؤثر في أي تسوية سياسية مقبلة.
بالإضافة إلى ذلك، تنامي حضور/ ومشاركة أطراف نوعية أخرى للمشاركة بصياغة العملية السياسية للمسألة اليمنية، وفي مقدمتها: "الجماعات النسوية"، إذ بات حضورها يتنامى أكثر فأكثر مع تركيز الأمم المتحدة على هذه الفئة والحرص على تدوين رؤيتها وإشراكها في المحادثات الخلفية حول تصورات الحل السياسي في اليمن، إلى جانب "عنصر الشباب"، وبعض "المكونات المجتمعية والسياسية والقبلية" الأخرى في الشمال والجنوب التي تسعى لتمثيل خاص بها والحفاظ على مصالحها وخصوصياتها في مرحلة ما بعد التسوية السياسية، وذلك في إطار تعيين "ميكانيزمات أممية جديدة" ، تستند على توسيع آفاق المشاركة السياسية، واستيعاب مختلف المكونات المحلية، والأخذ بمصالحها بعين الاعتبار عند الحديث عن آفاق "تسوية السلمية" للدولة اليمنية ومستقبل شعبها.
- تراجع الإهتمام المحلي/ الداخلي بإنجاز "التسوية السياسية":
أحد أهم أبرز التحديات التي قد تقوّض الجهود الأممية، ما يتمثل في تراجع اهتمام أطراف الصراع المحلية للتوصل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب، واستمرارها في الرهان على خيار الحسم العسكري، إذ لا يزال نهج الإقصاء وفرض سياسة الأمر الواقع قائمة بين الأطراف المنخرطة بالعملية السياسية وتوجهاتها الميدانية على الأرض. وهو ما يمكن إرجاعه إلى عدد من الاعتبارات: أولا، العداء القائم بين الأطراف المحلية/ الوطنية بالداخل اليمني، وثانيا، انعدام الثقة المتبادل، وثالثا، عدم توفر أي ضمانات كافية لمختلف الأطراف في إطار الرؤى ومبادرات التسوية السياسية المطروحة تُطمئن الجميع بشأن مستقبلهم، وتضمن لهم مشاركة وحضور دائمين في صناعة القرار السياسي في اليمن.
ومن ثم، فثمة ما يفيد بتنامي نظرية "اللاسلم واللاحرب"، وذلك بين الأطراف المنخرطة بالعملية السياسية، إذ يُعوّل الأطراف من خلال حالة "السكون السياسي"، على ضمان حداً معيناً من الإستقلالية والموارد الاقتصادية والمداخيل المالية في مناطق النفوذ والسيطرة خاصة بها، وحصرية عليها.
وتأسيسا على ذلك، فلا تجنح أي من أطراف الصراع لتقديم ما يكفي للتدليل على رغبتها في عقد مباحثات/ حوار والقبول بالطرف الآخر كشريك في عملية السلام المُحتملة، كذلك، لا يوجد ما يكفي من الضغوط الداخلية والخارجية التي تدفع بتلك الأطراف نحو المسارعة في الاتفاق على إنهاء الحرب، بل أنّ الأجندات الخارجية والمحركة لهذه الأطراف المحلية تستثمر في هذه الحرب بأشكال مختلفة، وتستفيد من اقتصاد الحرب المتنامي، وقد تخسر كل ذلك في حال توقفت الحرب. ومن ثم، فالدور الأممي عليه بذل مزيد من الجهود لخرق حالة الجمود القائم، والدفع بحزمة من الإجراءات والسياسات تتضمن مزيجاً من المحفزات والضمانات والضغوط التي تدفع الجميع وتشجعهم على الاستجابة لمتطلبات التسوية السياسية في اليمن.
- تراجع الاهتمام الدولي/ والإقليمي بالملف اليمني:
ثمة عدد من المؤشرات والتي تدفع بفرضية "تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي" بالقضية اليمنية، أبرزها :
أولا: الجمود السياسي الذي تلى الزيارة الاستثنائية لوفد المكتب السلطاني العُماني للعاصمة صنعاء في مايو الماضي، ومحاولة السلطنة تكثيف تحركاتها الدبلوماسية بوصفها وسيطاً للسلام بين الرياض وصنعاء ومسقط، إلا أنه بالمقابل، لم يطرأ أي تطور يذكر على جهود السلام، باستثناء اللقاءات التي أجراها المبعوثان الأممي والأمريكي مؤخراً مع الأطراف المعنية في كل من الرياض ومسقط، وتصريحات وزير الخارجية العماني في منتصف شهر سبتمبر الماضي، التي أعرب فيها عن تفاؤله بقرب استئناف المفاوضات السياسية في اليمن.
ثانيا: ما حمله التأخير في تعيين المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن من دلالات نوعية، بدأت أن تتشكل ملامحها في أعقاب تأخره في تسلم مهامه بشكل رسمي على نحو لم يحدث مع سابقيه، وربما هذا المؤشر ينعكس بشكل رئيسي على مُجمل ديناميكيات الملف اليمني، والذي أرسى مخرجاته تراجع دور الأمم المتحدة، استنادا لعدد من المشاهدات، أبرزها: أولا، تعثر العديد من الجهود والوساطات والمبادرات التي طرحت في إطار "التسوية السياسية"، وثانيا، تنامي وتيرة الصراع في محافظة مأرب وتمدد رقعتها لتصل إلى محافظات مجاورة مثل الجوف والبيضاء والضالع وأبين وشبوة ومناطق أخرى، وثالثا، فشل تجارب المبعوثين الثلاثة السابقين، ورابعا، تعيين مبعوث أمريكي خاص بالملف اليمني، وخامسا، بروز دور الوساطة العمانية، وربما وساطات دول أخرى غير معلنة.
ومن ثم، فيستلزم نجاح جهود المبعوث الأممي الرابع، وإحداث خرق/ وحلحلة لجمود العملية السياسية، البحث عن مقاربة جديدة مغايرة للنهج المتبع في إدارة عملية التسوية السياسية في اليمن، مقاربة أممية تأخذ في إعتباراتها أربعة أبعاد رئيسية: ردع تعنت جماعة الحوثي، مراجعة القرارات الأممية بما يتوافق مع التطورات الميدانية بالمسألة اليمنية، العمل على استعادة مؤسسات الدولة الرسمية والخدمية، بالإضافة إلى إشراك الفواعل الأخرى مثل قوى الجنوب، ومنظمات المجتمع المدني، وذلك لتدشين صياغات توافقية حول شكل التسوية السياسية ومحددات السلام العادل لكافة المدنيين .
2. التحرك نحو إنجاز المبادرة السعودية:
فى خطوة نحو كسر "جمود العملية السياسية" ومحاصرة "الإضطرابات الأمنية " في اليمن، وفي ظل إجماع دولي على أهمية تسريع إنهاء الأزمة اليمنية، دفعت المملكة العربية السعودية بمبادرة لإنجاز خطوات جادة نحو "التسوية السلمية"، وذلك في 24 مارس 2021، حيث ترتكز بنودها الأربع على: "وقف شامل لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة بمجرد موافقة الحوثيين على المبادرة، وتخفيف القيود على ميناء الحديدة مع تحويل إيرادات العوائد الجمركية إلى حساب مشترك في البنك المركزى بالحديدة، وفتح مطار صنعاء لعدد من الوجهات الإقليمية والدولية، وإعادة إطلاق المحادثات السياسية لإنهاء الأزمة". إذ جميعها بنود تدفع بتوطئة عدد من الملفات "السياسية والاقتصادية والإنسانية"، والتمهيد لمسار التسوية السياسية، في إشارة ضمنية إلى رسالتين:
• الرسالة الأولى - إستحقاق مرحلي: إذ تشتمل مبادرة التسوية المطروحة من جانب المملكة السعودية على خطوات تنفيذية تبدأ بوقف شامل لإطلاق النار تمهيدا للتفاوض وإحداث خرق بمسار التسوية السياسية، بينما عملية "وقف الصراع" نهائياً تتطلب استحقاقات أوسع تبدأ بالتوافق حول بنود المبادرة وإطلاق مسار جديد للتسوية. والتمهيد لتشكيل سلطة سياسية/ وطنية جديدة على الأرجح أقرب إلى اتفاق "السلم والشراكة" الذي سبق عرضه بالتزامن مع سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء، وتم تضمينه في اتفاق المبادرة الخليجية.
• الرسالة الثانية - التماهي مع الأطراف: عمدت بنود "المبادرة السعودية" على خلق مساحات مشتركة مع الأطراف المتداخلة بالملف اليمني، فعلى سبيل المثال: تخفيف القيود على ميناء الحديدة ومطار صنعاء يتقاطع مع ما سبق وطالبت بها جماعة الحوثيين لكن وفق ضوابط، ففتح مطار صنعاء لا يعني العودة إلى استئناف الرحلات إلى إيران أو لبنان حتى لا يعاد فتح الأجواء أمام الأولى ووكلائها الإقليميين لتوفير مزيد من الدعم العسكري الإيراني أو عبر حزب الله لجماعة الحوثي. كذلك، تحمل دلالات عملية تقاسم العوائد الجمركية في ميناء الحديدة على التخلي عن سياسة "الفصل الاقتصادي" بعد نقل البنك المركزي التابع للحكومة المعترف بها دوليا، إلى عدن.
وبناءًا على ذلك، فثمة مساريين يحددان مستقبل التحرك نحو إنجاز بنود "المبادرة السعودية" في اليمن، حيث:
المسار الاول - البناء المرحلي:
يعزز ذلك المسار عدد من الفرضيات لإنجاح التحركات الرامية لإنجاز مخرجات "المبادرة السعودية"، الأولى: مدى نجاح المملكة السعودية في تطويع الموقف الأمريكي والأممي الداعم لـ "التسوية السياسية" في إنجاز مزيد من الضغوط على جماعة الحوثيين والأطراف الداعمة لهم ولاسيما إيران. والثاني: أن طهران تخشى العزلة الدولية والإقليمية جراء سياستها بـ"المسألة اليمنية" لاسيما وأن هناك بداية الحديث عن انفراجة حثيثة تجاة الملف النووي والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وبالتالي قد نجد موقفها يحمل طابع "المقايضة" ما بين إنجاز أجنداتها الوطنية "الإتفاق النووي+ رفع العقوبات الاقتصادية"، وبين إقناع جماعة الحوثيين بإنجاز تعهدات "المبادرة السعودية"، والتفاوض حول خطوات "بناء الثقة". بينما الثالث: فيتمثل في إستناد الحوثيين على إستراتيجية "الحرب الدبلوماسية"، إذ بعد إعلان الرفض المبدئي للمبادرة السعودية، قد يلجأ الحوثيين بقبول فكرة "التفاوض المرحلي" مع بقاء التقدم الميداني خاصة في جنوب اليمن لفرض تصوراتهم الخاصة على "ملف التسوية السياسية" إستنادا لنظرية "المكاسب على الأرض"، والتي يُرجح أن تكون أقل بكثير مما تطمح له الحكومة المعترف بها دوليا في اليمن، بل أسوأ من اتفاق ستوكهولم 2018 قياسا على تراجعها العسكري على الأرض وظروفها الاقتصادية الحرجة فضلاً عن استمرار تصدعاتها الداخلية وانقسام النخب.
المسار الثاني – فشل التحركات نحو إنجاز "المبادرة السعودية":
ينتهي ذلك المسار إلى فشل إنجاز "اتفاق الرياض" كخطوة تمهيدية نحو إعادة الدفع بمسار التسوية السياسية، وذلك استنادا إلى عدد من المحددات، الأول: واقع خريطة التحركات الميدانية الجديدة للحوثيين خاصة في جنوب اليمن، والثاني: تعثر التوصل الى "نقاط توافقية" بين أغلب الفصائل المسلحة والقوى السياسية المحلية، فجذور الصراع داخلية أكثر منها خارجية أو إقليمية. بينما الثالث: العجز عن إيجاد صياغات تحفيزية للأطراف المتداخلة بالمسألة اليمنية، فعملية "التسوية السياسية" أصبحت تُعد في جوهرها "تسوية إقليمية"، وأقرب إلى "المقايضة الجيوسياسية" منها لـ "التسوية الفعلية".
3. إعادة إنتاج "إتفاق الرياض":
تدفع حالة "الإضطرابات الأمنية" المتسارعة في جنوب اليمن، نحو إعادة التفكير بالحديث مرة أخرى عن استكمال مخرجات "اتفاق الرياض" بما يتوافق والتطورات الميدانية والسياسية القائمة بالمسألة اليمنية بشكل عام، إذ تم توقيعع بين الحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي ، في 5 نوفمبر 2019، برعاية سعودية. وذلك لضبط العلاقات المؤسساتية، ومن ثم، فالحديث عن استكمال الاتفاق، من شأنه أن يسهم في تقويض حالة "الإضطرابات الأمنية"، وتنظيم الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية التي شهدت تدهوراً خلال الفترة الأخيرة، وذلك في إطار:
- محاصرة "الاضطراب الاقتصادي": وذلك عبر إطارين، الأول: قد يدفع إعادة استكمال "اتفاق الرياض"، نحو توطئة "المؤسسات الجنوبية" بما يتيح لها إدارة مواردها المتنوعة ما بين النفطية، والجمركية، ..إلخ. والثاني: احتواء تردي الأوضاع الاقتصادية في الجنوب، الذي انعكس في تعطل صرف الرواتب، وانهيار البنية التحتية، وتراجع الخدمات بشكل عام. إذ في حالة وجود الحكومة في عدن وتولي الجنوبيين معظم الحقائب الاقتصادية سيسهم في إعادة تشغيل قوى الإنتاج المعطلة بسبب الأزمة.
- تقويض إشكالية "تعدد الأزمات": إذ أحد أهم إشكاليات "المسألة اليمنية" تتمثل في تعدد الأزمات وتباينها، فعلى سبيل المثال: ضاعفت الأزمة الجنوبية من أزمات اليمن التي كانت منحصرة من قبل في تحركات الحوثيين المضادة في سبتمبر 2014. ومن ثم، فالحديث عن استكمال "اتفاق الرياض"، سيدفع نحو تقويض الأزمات، خاصة مع حالة النجاح بإنجاز التعهد الخاص بهيكلة "حكومة مشتركة".
- تعيين "النموذج": إذ يمكن توظيف التحرك نحو إعادة استكمال مخرجات اتفاق الرياض، في بناء ما يُعرف بـ "الشراكة الوطنية القابلة للتعميم"، وذلك مع مختلف الأطراف المنخرطة بالمسألة اليمنية ككل، وليس الجنوبيين فقط. فعلى سبيل المثال: هناك العديد من الإرهاصات التشاركية، أبرزها ما تمثل في: اتفاق السلم والشراكة (سبتمبر 2014) الملحق بالمبادرة الخليجية (إبريل 2011) والذي فتح الباب أمام مشاركة جماعة الحوثيين في السلطة. وكذلك بالنظر إلى المفاوضات الثنائية بين المملكة العربية السعودية وجماعة الحوثيين خلال عام 2016، وعلى أثرها تم الإعلان عن هدنة من طرف واحد في إبريل 2020 لتحفيز الحوثيين على الانخراط في عملية التسوية السلمية التي ترعاها الأمم المتحدة. إذ مثل تلك التحركات يمكن البناء عليها في تطويق الإنعكاسات الممتدة لحالة "الإضطرابات الأمنية".
في النهاية، تعج محفزات "الإضطرابات الأمنية" في جنوب اليمن، بالعديد من الدعائم ، والتي تتباين ما بين كونها داخلي، وأخرى خارجي يدمج عليه سياسات "تنافس الأجندات الإقليمية والدولية" استنادا لما يحظى به الجنوب من أهمية جيوسياسية بالمنطقة. وهو ما يتطلب معه التحرك على عدد من المستويات الداخلية، والإقليمية، والأممية، الرامية لإنجاز متطلبات "التسوية السياسية"، التي تنعكس مخرجاتها بشكل مباشر على احتواء وتطويق المهددات الأمنية في اليمن.
د. إيمان زهران
متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي - القاهرة
- (الآراء الواردة في هذه المقالة تعكس رأي المؤلف)
- الصورة: عناصر أمن يتجعون حول سيارة مصحفة لمحافظ عدن، تعرضت لانفجار بعبوة ناسفة في 10 أكتوبر 2021 (ا ف ب / صالح العبيدي)