رامبو في عدن

رامبو في عدن

تاريخ وثقافة

الخميس, 10-03-2022 الساعة 10:11 مساءً بتوقيت عدن

فاطمة جونسون | سوث24 

لقد  كانت مدينة عدن العظيمة ذات يوم موطنا لأكثر مشرفي عمال فرز البن بريقًا وأرفع من تولى هذه الوظيفة على الإطلاق، وهو جان نيكولاس آرثر رامبو. لقد كان هذا الرجل شخصية رائعة متلألئة، وكان متمردًا [1]  وشاعرًا.

 رامبو من مواليد مدينة شارلفيل الفرنسية عام 1854. وكانت حياته في فرنسا سببا في أن يصبح أيقونة ثقافية تحظى بأكبر درجات الاحترام المستحق. 

المنشق السياسي والشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف كتب عام 1981 أن "كلا من الشعراء العرب والفرنسيين وكافة المثقفين يجب أن يحملوا الورود والنبيذ إلى عدن ويقدمونها كعطايا تحت قدمي تمثال رامبو كجزء من رحلات حج سنوية تستهدف تكريم هذا الرجل الحاذق". [2]  

لقد تم العثور على 5 من بذور البن أثناء عملية ترميم للمنزل الذي اعتاد رامبو أن يعيش به خلال مكوثه في عدن. ومن المنظور الأنثروبولوجي، فإن ثمار البن هذه بمثابة تحف أثرية تشي بالكثير بشأن الحضارة والتنمية في عدن عام 1880(العام الذي شهد وصول رامبو إلى الوديمون العربية، الاسم الكلاسيكي لعدن). 

وعلاوة على ذلك، كان جدارًا في "منزل الشعر" اللقب الذي اشتهر به منزل رامبو، مزينًا بخمسة تجاويف زخرفية جميعها يحمل كلمة café وهي المرادف الفرنسي لكلمة "ٌبن" أو "قهوة". وكانت الثمار منسقة وتم استخدام صورة لها في معرض بعنوان "عدن: معرض منزل رامبو". [3] 

لقد كانت عدن العالمية موطنا لوكالة التصدير الفرنسية "باردي&كو" والتي كان رامبو موظفا لديها [4] . وكان بيير وألفريد باردي من رجال الأعمال بمدينة ليون واستثمرا الشعبية الهائلة التي يحظى بها في فرنسا كرز القهوة في شمال اليمن ذات الجودة العالية. وفي عام 1880، كان نصف محصول البن في شمال اليمن يتم شحنه إلى مرسيليا عبر ميناء عدن في جنوب اليمن [5]  بعد أن ساهم افتتاح قناة السويس عام 1869 في زيادة إمكانية تحقيق مثل هذا الإنجاز.

لقد ظل ميناء المخا في شمال اليمن مهيمنا على تجارة البن العالمية على مدار 200 عام. [6]  أحد العوامل التي سهلت هذه الهيمنة تمثلت في قيام جنوب اليمن باستيراد حبوب القهوة من شمال اليمن وإعادة تصديره عبر عدن، موطن الميناء الأكثر عمقًا في العالم، والذي كان أحد المراكز الكبرى والمزدحمة في مجال التجارة البحرية وتموين السفن ونقل بضائع السوق الحرة في القرن التاسع عشر. [7]  

وقبل إعادة تصديرها إلى عدن، كان يتعين حدوث عملية انتقاء لبذور القهوة، وهي الوظيفة التي كان رامبو منوطا بها في عدن. لقد كان الرجل مشرفا على عملية فرز البن ومراقبا لمجموعة من العاملات الهندوسيات [8] . وكان يحدث ذلك داخل ما يعرف بأنه "منزل رامبو"، ولكنه في الحقيقة كان مقرًا استأجرته شركة "باردي& كو" من عائلة مناحم بيسا اليهودية المميزة في عدن [9] . وأصبح ذلك مقرا هائلا لفرز البن كما كان رامبو كذلك يتخذه مسكنا له.

 يذكر أن عملية فرز البن كانت تتسم بالصعوبة وتتطلب درجة عالية من التخصص، وكان يتعين أن يتم تنفيذها بشكل يدوي أو من خلال استخدام المناخل في القرن التاسع عشر. إنها عملية حساسة جدا يتم من خلالها تصنيف بذور البن وفقا للحجم والشكل بين عوامل أخرى. وعلاوة على ذلك، فإن ثمار البن يتم تحميصها وتذوقها عند هذه المرحلة لتحديد كيف سيتم تصنيفها وفقا لجودتها وهو أمر يرتبط بسعر السوق [10].  إننا نرى في هذه القصة المتعلقة بتجارة القهوة دليلا على التطور الاقتصادي والاختلاط العرقي في عدن.

الجدير بالذكر أن معظم السير الذاتية بشأن رامبو تحمل وصفا لحياته بعد أن غادر فرنسا إلى العالم الفسيح كمرحلة هجر فيها تماما الفن، بل تصفه بأنه "رأسمالي نشيط".[11]  ومع ذلك، فإن هنالك شيئا ما عن القهوة يتسم بالفن العميق من منطلق أن القهوة نفسها تسير في رحلة مثيرة للاهتمام.

وقبل أن تصبح القهوة قهوة حقًا، تمر بتحولات بدءا من الكرز الأخضر ثم البذور البنية الداكنة في أعقاب قطف الثمار. وتبدو البذور داخل الثمرة وكأنها قلب فنان. وكانت تلك البذرة الصلبة تخضع لفحص دقيق بل أن رامبو دأب على تذوق عينة بفمه قبل السماح بذهابها إلى متاجر القهوة في أوروبا.

وترتبط القهوة العربية ذاتها برحلة أكثر عمقا حيث نشأت في شمال اليمن بمفهوم تطوري من خلال عملية تزاوج قبل 20 ألف عام بين نوعين مختلفين من البن الإثيوبي البري وهما بن كانفورا وبن يوجينيويدس. [12]  

مثل هذا التاريخ الجميل وعملية الفرز يبدو أنها كانت تتطلب مواهب شخص مفكر وحساس وليست مهنة تستلزم رأسمالية تعتمد على الجهد. دعونا لا ننسى أيضا أن القهوة في حقيقة الأمر مخدر صلد [13]  تساعد من يحتسونها وتبدو عملا ملائما لشاعر متمرد.

وجاء ذلك بالرغم من أن الشاعر المتمرد لم يكن كذلك خلال الأعوام الخمسة التي سبقت مجيئه إلى عدن، حيث توقف رامبو عن تأليف أي أعمال أدبية منذ عام ١٨٧٥ وهي واحدة من أكثر السمات المدهشة في رحلة حياة رامبو لكنه نبذ لاحقا فترة عمله لدى ألفريد برادلي واصفا إياها بـ "السخيفة" و"المثيرة للاشمئزاز". [14] 

إن تحول رامبو من أديب إلى مشرف عمال قهوة يبدو غير قابل للتفسير. لقد بحث مؤلفو السيرة الذاتية لرامبو عن مفاتيح في عمله ربما تشير إلى قراره النهائي باختيار حياة بدون أدب. ومن الصعب عدم تخيل أن المفتاح الرئيسي لوجوده الغامض في عدن يكمن في كتاباته.

وعلى سبيل المثال، في ديوانه "إضاءات" الذي يضم مجموعة من القصائد النثرية ألفها رامبو بين ١٨٧٣-١٨٧٥، كتب قائلا: "أنا سيد العلم" [15] . وخلال أحد الأجزاء تحت مسمى "الوداع"، في قصيدة نثرية عام ١٨٧٢ بعنوان "فصل في الجحيم"، كتب رامبو:" لقد جربت جحيما تعرفه النساء جيدا، والآن سأكون قادرا على امتلاك الحقيقة في جسد واحد وروح". [16]  

يمكن الأخذ في الاعتبار أيضا القصيدة الساحرة لرامبو بعنوان "رومانسي"، كتب خلالها: "عندما تكون في السابعة عشر، لا تكون جادا حقا" [17]. عندما انتقل رامبو إلى اليمن، كان في عمر الخامسة والعشرين.

الصورة الثانية المنشورة في بداية هذا المقال تظهر رامبو جالسا في شرفة فندق يونيفيرس في عدن بتاريخ أغسطس ١٨٨٠[18] . وتتناقض هذه الصورة بشكل صارخ مع الصورة الأولى أعلاها والتي يبدو فيها رامبو في كل بوصة منها مراهقا وحشيا معذبا بعينين داكنتين "محترقتين" وشعر خشن. أما في الصورة الثانية، يبدو رامبو ناضجا بلا شك وأكثر التزاما وهو ما يتضح من خلال شعره الذي تم تقصيره بشكل دقيق، وشاربه الصغير وقميصه الأبيض. وهنا تتحقق قصيدته "رومانسي" إذ أنه لم يكن جادا عندما كان في السابعة عشر لكنه أصبح كذلك في سن الخامسة والعشرين في عدن.

وفي لحظة ما في تاريخ جنوب اليمن، تم تجديد منزل رامبو ليلائم القنصلية الفرنسية، مركز بحوث، مركز ثقافي ومكتبة. وبدءا من عام 1991، كانت تعقد مؤتمرات شعرية سنوية في منزل رامبو. [19] 

إن الاحترام والإعجاب تجاه رامبو ينبع من سمعته التي اكتسبها بعد وفاته بكونه واحدا من أول الشعراء المعاصرين. شعر وتفكير رامبو ( تم الكشف عنهما في رسائل كتبها) يتسم بالجهود المكثفة في التأمل وإدراك الذات. لقد كتب ذات يوم هذه الكلمات الرائعة عام ١٨٧١: " أنا هو الآخر".[20]  لقد تجرأ بالحديث ضد المصلحة الذاتية وانتقد المشاريع الاستعمارية الفرنسية عندما كتب في قصيدته "دماء سيئة":" الرجال البيض يهبطون. مدافع!، والآن ينبغي أن يتم تعميدنا، ونرتدي ملابسنا، ونذهب إلى العمل" .[21] 

وعلاوة على ذلك، رفض رامبو الأعراف الشعرية في عصره بل ذهب أبعد من ذلك بمحاكاة ساخرة لها. وعلى سبيل المثال، رفض الشاعر الفرنسي أن يمتدح فينوس، آلهة الحب عند الرومان. وبدلا من ذلك كتب قصيدة وصفها خلالها بأنها تعاني من قرحة في مؤخرتها. لقد تجاوز الأمر حد السخرية مما استلزم معه شجاعة كبيرة وتسبب في تطور الأمور. كما استطاع رامبو التلاعب بالشكل الشعري. وفي قصيدته المبهجة "حروف متحركة"، وضع الشاعر ألوانًا ثابتة للحروف المتحركة الخمسة، فاختار الأسود لحرف A والأبيض لحرف E، والأحمر لحرف I والأخضر لحرف U والأزرق لحرف O. وهكذا أصبحت الحروف المتحركة ذات طابع مميز ترتبط بالذهن عندما يتم الاستماع إلى القصيدة حيث يكون الصوت الذي يسمعه المرء مقترنا بلون كل حرف متحرك في الأبيات الشعرية [22]  التي يقول فيها:

خلجان الظل؛ E، الأبخرة والمخيمات البيضاء 
رماح الأنهار الجليدية الفخورة، والملوك البيض، وقشعريرة "بقدونس البقرة" 
أنا، أرجواني، أبصق دما وابتسم من شفاه جميلة في حالة من الغضب أو الندم. 

وبعد مرور 10 أعوام من إطلاق الرصاص على رامبو من مسدس ماركةLefaucheux" بواسطة حبيبه الشاعر الفرنسي بول فيرلين، تم بيع السلاح بمبلغ 46000 دولار في مزاد [23] . وفي رسالة عام ١٨٨٣، أخبر رامبو عائلته أنه بدأ في "فقدان مذاق الحياة وحتى اللغة في أوروبا [24] . من المعروف أن رامبو اكتسب القدرة على التحدث باللغة العربية بطلاقة أثناء وجوده في عدن، وأعطى دروسا في القرآن، واشترى كاميرا وكان يعتزم تأليف كتاب عن مدينة هرر الإثيوبية التي تنقل بينها وبين عدن على مدار 11عاما. (1880-1891).

 وقبل وصوله إلى عدن، تنقل رامبو بين كل من ألمانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وإندونيسيا والدنمارك والنرويج ومصر وقبرص. وأثناء الفترة التي عاش فيها في عدن وتنقله بينها وبين إثيوبيا، باع أسلحة إلى سهل ميريام [25]  الذي أصبح في نهاية المطاف إمبراطورا لإثيوبيا (منليك الثاني) والذي ألحق هزيمة تاريخية بجيش إيطاليا الغازي عام 1896.

 وفي عدن، ارتبط رامبو بقصة حب أخرى مع امرأة إثيوبية ظلت تعيش معه على مدار عامين. وكان رامبو يؤدي نشاطا محموما يحسد عليه ويمارس "الحرية الحرة" على حد وصفه. [26] 

"تقوم الحكومة المركزية بتدمير الثروة المعمارية وتاريخ عدن لأنها كانت عاصمة لجمهورية جنوب اليمن. إنهم يقتلون روح المدينة" [27]  وفقا لمحمد السقاف، رئيس مؤسسة تراث عدن" في تصريحات أدلى بها لقناة الجزيرة تعليقا على الإهمال المؤسف لمنزل رامبو وغيره من المواقع الأثرية الهامة في عدن. 

وللأسف، لم يعد منزل رامبو يستخدم لأغراض دبلوماسية أو ثقافية أو تعليمية. ومنذ 2014، آلت ملكية المنزل ذي الطابقين إلى رجل أعمال ويتم استغلاله في بيع أثاث للمستهلكين. تقليص أهمية منزل رامبو يبدو أنه يحمل دوافع سياسية تستهدف تقليل الإحساس بأن الجنوب يمتلك تاريخا فريدا مختلفا عن شمال اليمن، وإضعاف الرغبة في الاستقلال عن الشمال.

إن رامبو يمثل جزءا من نسيج جنوب اليمن التاريخي وهو ما توضحه حياته في عدن، وبالتالي فهو مرتبط بتاريخها المعاصر. ويتوافق مع ذلك الضرورة الحيوية لفهم أن منزل رامبو ينبغي أن يتم الحفاظ عليه على نحو يعكس دوره في تاريخ الجنوب: "عدن هي هويتي وتاريخي، وإذا لم أستطع الحفاظ عليها، سوف أفقد الماضي والمستقبل". [28] 


صحفية مواطنة مقيمة في لندن 

المراجع 
2-تامينيان، لوسين. منزل رامبو في عدن، اليمن: إعطاء صوت للشاعر الصامت. الأنثروبولوجيا الثقافية، المجلد ١٣، رقم ٤.(ويلي، الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا، ١٩٩٨، ص ٤٦٤ jstor.org 
3-تامينيان، لوسين. منزل رامبو في عدن، اليمن: إعطاء صوت للشاعر الصامت . الأنثروبولوجيا الثقافية، المجلد ١٣، رقم ٤.(ويلي، الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا، ١٩٩٨، ص ٤٦٤ jstor.org 
4- mag4.net  
8-تامينيان، لوسين. منزل رامبو في عدن، اليمن: إعطاء صوت للشاعر الصامت. الأنثروبولوجيا الثقافية، المجلد ١٣، رقم ٤.(ويلي، الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا، ١٩٩٨، ص ٤٦٤ jstor.org 
[13] mcgill.ca 
[15] mag4.net 
[17] mag4.net 
[19] تامينيان، لوسين. منزل رامبو في عدن، اليمن: إعطاء صوت للشاعر الصامت. الأنثروبولوجيا الثقافية، المجلد 13، رقم 4.(ويلي، الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا، 1998، ص 464 jstor.org 
[21] mag4.net 
[22] mag4.net 
[24] mag4.net 

جنوب اليمن عدن البٌن القهوة ثقافة جان نيكولاس آرثر رامبو