الضالع ومأساة الفلورايد: شرب السم ليس خياراً

طفلة تعاني من إعاقة بالعظام بقرية مرفد بالضالع (سوث24)

الضالع ومأساة الفلورايد: شرب السم ليس خياراً

التقارير الخاصة

الأحد, 04-09-2022 الساعة 09:48 مساءً بتوقيت عدن

سوث24 | رعد الريمي 

على  متن دراجة نارية، وصلنا ظهراً إلى قرية مرفد بالضالع، جنوب اليمن. كانت الطريق الترابية وعرة بما يكفي لترك بصمات التعب على العابرين، لكنَّ بساطة وبشاشة السكان تنعش الأنفس تماما كما تفعل أجواء المحافظة البارزة.

أطفال مقعدون وشبان وشابات يعانون من الكساح وتقوس الأطراف، وأسنان مشوَّهة سوداء على وشك التساقط. هنا في مرفد حيث يتجرع السكان منذ سنوات المياه المُسممة بالفلورايد التي تُستخرج من أعماق الأرض نظراً لشح المياه وتناقصها على مدار السنين.

لقد كان المشهد بالغ التأثير عندما حاولت إحدى طفلات القرية القيام من مكانها لكنَّ هشاشة عظامها وضعفها لم يسمحا لها. لقد تطلب الأمر مساعدة من أحد الرجال لتفعل ذلك. يعرف الناس أنَّ هذه المياه تقتلهم، لكنَّ الحاجة وانعدام الحيلة لم تترك لهم خيارات كثيرة.


قرية مرفد بالضالع (سوث24) 

ومرفد هي إحدى قرى مديرية الحصين، لكنَّها ليست الوحيدة التي تعاني من هذه المشكلة القاسية. فهنالك إلى جانبها قرى ومناطق عديدة في الضالع مثل (المدينة - حجر- الوعرة – الحامورة – الردوع - لكمة الأشعوب- الطفوة – ثوبة).

آبار عميقة 

ووفقاً للأهالي، دفعت قلة الأمطار وشحتها خلال الأعوام الأخيرة في مرفد وغيرها من القرى إلى تعميق الآبار الجوفية التي تُحفر بواسطة آليات حفر يستأجرها المواطنون، في ظل غياب الدولة ومشاريع المياه الحكومية المفترضة.

أحمد قائد، مدرس في مدرسة مرفد، قال لمركز "سوث24": "شهدت القرية أزمة مياه دفعت الكثير من المواطنين إلى تعميق آبار جوفية كانت قد بدأت تتناقص. وصل الحفر لمستويات عميقة حيث تتركز نسب عالية من الفلورايد كما تم إخبارنا". 
 
وحول هذا، قال وكيل عام هيئة البيئة بالضالع، عبد السلام الجعبي، لمركز "سوث24": "مشكلة ارتفاع مادة الفلورايد في مياه الآبار في محافظة الضالع لم تكن موجودة من قبل لكنَّها تصاعدت مع كل تعميق يقوم به المواطنون للآبار".

وأضاف: "مرَّت الآبار بمراحل حفر إذ كانت تحفر بعمق 150 متراً من عام 1990 وحتى عام 1997؛ ومن ثم أخذ المواطنون بتعميق تلك الآبار وازدادت عمقا من 300 متراً إلى 400 متراً بين عامي 1997 - 2000".

وطبقا للمسؤول، "وصل عمق الآبار إلى أكثر من 600 متراً على مدى الأعوام اللاحقة حتى تضاعف ذلك مؤخراً ليصل إلى 900 متراً ثم 1100 متراً في بعض الآبار حيث تتركز نسب الفلورايد في المياه بشكل عالي وكثيف". 

ووفقاً لتقرير صادر عن وزارة المياه والبيئة في سبتمبر 2021، تحصَّل عليه مركز سوث24، كشفت فحوصات مخبرية عن وصول نسبة الفلورايد في مياه الشرب المستخدمة في مرفد وقرى الضالع الأخرى إلى 11.2.



وتعتبر هذه النسبة عالية جداً مقارنة بالنسبة الصحية التي حدَّدتها منظمة الصحة العالمية للفلورايد في مياه الشرب التي تبلغ 1.5 لتقوم هذه المادة بدورها النافع كقيمة حيوية لجسم الإنسان تتفاعل بشكل ثنائي مع عنصر الكالسيوم في جسمه.

كما حصل مركز "سوث24" على نتائج فحص لعينات مياه من قرية مرفد، قال مواطنون إنَّها تمت بجهود مجتمعية خالصة في مختبرات بمدينة صنعاء، أظهرت نسب عالية من الفلورايد وصلت إلى 8.6 في النتيجة المخبرية. 


فحص مخبري بمكتب "الحفري" يظهر نسبة عالية من الفلورايد بمياه قرية مرفد بالضالع 

آثار وخيمة 

وعن الآثار الصحية الخطيرة للمياه الملوثة بنسب الفلورايد العالية، أوضح أخصائي أمراض العظام والأعصاب والعمود الفقري الدكتور مجاهد الحصيني أنَّ المخاطر "قد تصل للإصابة بالشلل الرباعي لمن هم دون الخمسين". 

وأضاف الأخصائي الذي يملك مركزا لجراحات العظام المتقدمة في عدن لمركز "سوث24": "عشرات الحالات تأتينا باستمرار من قرى وأرياف الضالع. لقد تحولت هذه المشكلة لظاهرة صحية خطيرة تسبَّب تقزم الأطفال واعوجاج أطرافهم وتشوهات في أسنانهم". 

وأردف: "يؤدَّي ترسب الفلورايد في أجسام المواطنين بدلا عن الكالسيوم إلى تكلسات غير طبيعية، وليونة في العظام أدت إلى اعوجاج كثير من الأطراف (الأقدام والأرجل) وتساقط الأسنان، وتشوهات في الفك".

وتابع، "كما يؤدي ذلك إلى انسداد الفقرات العنقية والقطنية وهو ما ينتج عنه تضيق في القناة العصبية والتكلس في الأربطة الكامنة حول القناة العصبية. يجعل ذلك الحلول العلاجية شبه مستعصية. في معظم الأوقات. ينتهي الأمر بالإصابة بشلل رباعي".
 
ويلفت الدكتور خليل الشعيبي، الذي يعمل مساعداً للحصيني في مركزه الطبي، إلى أنًّ "90% من الزوار المرضى في المركز خلال العام الماضي هم أولئك الذين يعانون من مشاكل في العظام نتيجة مياه الشرب التي ترتفع فيها نسب الفلورايد".


موفد سوث24 في مركز الحصيني لجراحات العظام المتقدمة بعدن 

وأضاف الشعيبي لمركز "سوث24": "ما يقارب 30 مريضاً يأتون إلينا بشكل يومي. تبرز خطوط بيضاء في هياكلهم العظمية كما تظهر الأشعة المقطعية بسبب تفاعل الفلورايد مع الفقرات مما ينتج عنه تحول لونها إلى الأبيض مثل الطباشير". 


أشعة مقطعية في مركز الحصيني لجراحات العظام المتقدمة لمصابين بإعاقات بسبب المياه الملوثة بالفلورايد  


أشعة مقطعية في مركز الحصيني لجراحات العظام المتقدمة لمصابين بإعاقات بسبب المياه الملوثة بالفلورايد  

وحول التكاليف المادية الباهظة لمعالجة هذه الحالات، قال الشعيبي: "عمليات فتح العمود الفقري لغرض تصفية القناة العنقية والقطنية هي بالعادة عمليات جراحية مجهدة للمرضى تفوق تكلفتها قدرة المرضى ماليا، علاوة على أنَّها لا تكون ذات جدوى كبيرة نظرا لتعسر هذه الحالات". 

غياب الحكومة 

بشكل أساسي، تتقاسم ثلاثة أطراف مسؤولية استفحال مشكلة المياه الملوثة بالفلورايد بالضالع، الحكومة ممثلة برئاسة الوزراء والوزارات ذات الصلة، السلطة المحلية بالمحافظة، ومنظمات المجتمع الدولي والمدني.

ووفقاً للأهالي الذين التقاهم "سوث24"، فإنَّ أفواج كثيرة من المنظمات زارت قرية مرفد وغيرها من القرى للوقوف على المأساة الصحية هناك، لكن الكثير لم يقدم أو يتغير؛ كما لم توضع أي حلول أو معالجات، بحسب المواطنين. 

تواصل مركز "سوث24" مع مدير عام مكتب الصحة بمحافظة الضالع، أياد صالح عبد الله، لسؤاله عن دور المكتب والسلطة المحلية بالمحافظة إزاء المشكلة. قال المسؤول المحلي إنَّه تم تعيينه حديثاً.

وأضاف: "حتى اللحظة مضى على تعييني قرابة ستة أشهر. لم أتلق بلاغات صحية بهذا الخصوص. نحن بصدد طلب البلاغات من مديري مكاتب الصحة في المديريات". 

وبالنسبة لمدير عام الموارد المائية بالضالع، بدر عبد الحميد، فإن الحلول والمعالجات الممكنة لمشكلة المياه الملوثة بالفلورايد "منعدمة".

وأضاف عبد الحميد لـ "سوث24": "الحلول الموضوعة اليوم لمعالجة مشكلة المياه في ريف محافظة الضالع والمتمثلة في إنشاء محطات تنقية للمياه من الفلورايد منعدمة تماماً". 

ولفت المسؤول إلى أنَّ "جميع المنظمات الدولية التي تم عرض هذه المشكلة عليها أفادت بأنَّه يصعب عليها تحمل تكلفة إنشاء محطات أو فلاتر لتنقية المياه من الفلورايد لأنَّها مكلفة جدا".

وأردف: "ما كان بمقدور هذه المنظمات أن تقدمه هو حفر آبار فيها مياه بنسب فلورايد أقل من غيرها واستخدامها للشرب. لقد تم تخصيص تلك ذات النسب العالية للاستخدام الآدمي الآخر". 

لكنَّ الأهالي في القرى وصفوا هذا النوع من الحلول بـ "عديم الجدوى". وأضاف الأهالي لـ "سوث24": "لم تقدم تلك الحلول الكثير. سرعان ما نضبت الآبار التي حفرتها المنظمات لأن عمقها كان بسيطا". 


إحدى الآبار الممولة من المنظمات بقرية مرفد بالضالع (سوث24) 

وفي تصريح لـ "سوث24"، نفى غازي سيف مدير عام مياه الريف بالضالع أن يكون هناك "معالجات فعلية وعملية لواقع المياه في قرى الضالع التي تعاني من ارتفاع نسبة الفلورايد".

وأضاف المسؤول المحلي: "المشكلة برمتها رفعت إلى جميع الجهات الحكومية والجهات المانحة والمنظمات الدولية ووزارة المياه. لقد تمت مناقشتها في عدة محافل محلية لكن لم يتم التوصل لحلول أو طرق لفصل الفلورايد عن المياه".
 
وتابع: "كل ما تم التوصل إليه هو وجود فلترات طُبقت في بعض الأرياف بعدد من الدول مثل الهند. الحصول على هذا النوع من المفلترات محفوف بكثير من الصعوبات أبرزها ارتفاع تكلفتها".

ويقترح التقرير الصادر عن وزارة المياه والبيئة جملة من المعالجات للمشكلة مثل تنظيم عملية حفر الآبار بطريقة علمية مدروسة، بالإضافة تعزيز التنسيق المشترك بين الجهات ذات العلاقة، مع ضرورة إنشاء محطات أو فلترات لمعالجة المياه. 



وحتَّى الآن، لا تلوح بوادر أي استجابة من الجهات المسؤولة في المحافظة أو الحكومة. كما يبدو أن هذه المشكلة الإنسانية بعيدة عن اهتمام المنظمات الدولية بالفعل.

وفي طريق العودة من مرفد وصولاً لمدينة الضالع، تتصاعد الأنفاس الثورية من بين ثنايا وأضلع الجبال التي تتميز بلونها المائل للسواد. وعلى امتداد الطرقات الرئيسية والفرعية، يمكن مشاهدة صور ومجسمات لجنود وقادة جنوبيين قضوا في السنوات الماضية.

وعلى الرغم من حضورها السياسي والعسكري الممتد الجذور، يبدو أن الضالع لا تتمتع بالقدر ذاته من الاهتمام المفترض حيث يعيش كثير من سكانها حياة صعبة تماما مثل أهالي مرفد وقريناتها من القرى التي تتجرع السم من باطن الأرض. 


صحفي لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات

هذا التقرير ضمن سلسلة تقارير ميدانية خلال زيارة فريق مركز سوث24 لمحافظة الضالع


جنوب اليمن الضالع الفلورايد تسمم مائي