خلال القمة العربية الصينية في الرياض، 9 ديسمبر 2022 (واس)
11-12-2022 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | فريدة أحمد
برزت شواهد وعلامات كثيرة منذ بدايات العام الحالي حتى اللحظة، تعزز اتجاه العالم فعلياً نحو نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، بعد أن استمر على نظامه القديم لأكثر من ثلاثين عاماً، في ظل مساعٍ أمريكية حثيثة على تعزيز نظام دولي أحادي القطب يتمحور حولها وحلفائها في الغرب. جاء هذا المسار الجديد بفضل التحولات الكبرى في موازين القوى الاقتصادية وكذلك في ظل الوقائع وتطورات المستجدات العالمية، وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية التي ساهمت بشكل كبير على ترتيب العلاقات الدولية من جديد، واستفادت بعض الدول الكبرى من الأزمة مثل الصين، بأن تُظهر تأثيرها على اقتصادات الدول واستغلال الفراغات التي تركتها واشنطن لا سيّما في الشرق الأوسط.
وقد لاقت زيارة الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، في 7 ديسمبر الحالي إلى المملكة العربية السعودية، زخماً كبيراً. فوفقاً للخارجية الصينية، فإن برنامج "شي"، يمثل "أكبر نشاط دبلوماسي على نطاق واسع بين الصين والعالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية"[1]. حيث تضمنت الزيارة عقد ثلاث قمم (سعودية، وخليجية، وعربية)، بحضور أكثر من 10 قادة عرب، وفي مقدمتهم ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان"، الذي كان آخر لقاء جمعه بالرئيس "شي"، في فبراير 2019 في بكين، وكان أبرز عناوين الزيارة في حينه؛ دعم التنوع الاقتصادي وتعزيز استراتيجيات التنمية الخاصة بالبلدين وتقوية الدمج بين مصالحهما[2]. وكان من المتوقع أن تكون زيارة "شي" للشرق الأوسط أبكر من ذلك، لولا الإغلاقات المتكررة بسبب جائحة كورونا.
بالنسبة للعرب، فالصين صديق مطمئن وهو ما حاولت وزارة الخارجية الصينية إثباته في أحد تقاريرها المكوّن من 19 ألف كلمة حول "التعاون الصيني - العربي في عصر جديد"، والذي أكدت فيه أنّ بكين "شريك استراتيجي وصديق مخلص" سيلعب دوراً بناء في الشرق الأوسط ويتجنب القيام بأي شيء يمس "مصلحته الجيوسياسية"[3]. وهو يبدو أمراً متبادلاً بين الجانبين، لاسيّما فيما يمس وحدة الصين وملفات حقوق الإنسان، فقد أكد وزير الخارجية السعودي "فيصل بن فرحان"، بأن "السعودية تعارض دائماً التدخل في الشؤون الداخلية للصين، وتدافع بحزم عن مبدأ صين واحدة، وتؤيد بشدة الموقف الشرعي للصين في شأن المسائل المتعلقة بتايوان وشينغيانغ، فضلاً عن حقوق الإنسان"[4]. على مستوى أعمق، ترى الرياض أن الصين أكثر مرونة في تعاملاتها سواء الاقتصادية أو الأمنية أو حتى ملفات حقوق الإنسان، لاسيّما وأن ولي العهد السعودي كان قد واجه شخصياً اتهامات سابقة من واشنطن عن تورطه في مقتل الصحفي "جمال خاشقجي". بالنسبة للسعودية، طالما أن الصين لا تتدخل في ملفات حقوقية من هذا النوع، فهو أمر مريح نسبياً.
على مدار العقد الماضي، كان الجانبان العربي والصيني قد أقاما 17 آلية تعاون في إطار منتدى التعاون الصيني العربي، ونمت التجارة بمقدار 100 مليار دولار، حيث تجاوز الحجم الإجمالي 300 مليار دولار. كما ارتفع الاستثمار المباشر للصين في الدول العربية بمقدار 2.6 مرة خلال هذه الفترة، حيث بلغ رصيد الاستثمار 23 مليار دولار، وتم تنفيذ أكثر من 200 مشروع من مشروعات مبادرة الحزام والطريق، استفاد منها ما يقرب من ملياري شخص من الجانبين[5]. وهذا الأمر عزز من العلاقات الوثيقة بين الطرفين. كما أن الصين ركزّت في أولويات اهتماماتها بالشرق الأوسط؛ على 3 ممرات مائية رئيسية هي: قناة السويس، ومضيق باب المندب، ومضيق هرمز. فوفقاً لبعض التقارير[6]، تلقت القوات البحرية الصينية تدريبات على إعادة إمداد سفنها من سفن حاويات مدنية، الأمر الذي يشير إلى توسيع نطاق نقاط الدعم العسكري المحتملة حول العالم. ويمكن أن تضمّ هذه النقاط مواقع في الإمارات والسعودية والبحر الأحمر، التي تُعتبر مهمة على نحو خاص لبكين باعتبارها بوابة إلى أوروبا.
بشكل عام، جسّدت الزيارة الصينية الأخيرة عصراً جديداً من التعاون والتنمية وهو ما حمله عنوانها الرئيسي، حيث تضمنت مخرجات بيان القمة (24) نقطة، تلخّص أبرزها في تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة، والاحترام المتبادل لسيادة الدول ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. كما أكد البيان على أن قضية فلسطين قضية مركزية في الشرق الأوسط، وكذا أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لإيجاد حلول سياسية للأزمات والقضايا الإقليمية، وخاصة الأزمات في كل من سوريا وليبيا واليمن. والتأكيد على رفض تسييس قضايا حقوق الإنسان واستخدامها كأداة لممارسة الضغوط على الدول والتدخل في شؤونها الداخلية[7].
مخاوف أمريكية وإيرانية
علناً، بدأ الحديث عن شرق أوسط ما بعد أمريكا، وهو حديث يقلق واشنطن من نواحٍ كثيرة ويمهد لأن يشق الشرق الأوسط وبشكل خاص دول منطقة الخليج طريقها بعيداً عن الولايات المتحدة. إذ بدا من الواضح أن الأخيرة تراقب الزيارة الصينية للسعودية بحذر، خاصة وأن إدارة "جو بايدن" فشلت في مساعيها السابقة بالتأثير على دول الخليج في زيادة إنتاج الطاقة، وباتت ترى أن نفوذها في المنطقة لم يعد بالقوة الكافية لتلبية مطالبها. ذلك الفارق تجسّد في طريقة الاستقبال الكبيرة التي حظي بها الرئيس الصيني "شي"، مقارنة بطريقة الاستقبال الباهتة للرئيس الأمريكي "بايدن"، قبل خمسة أشهر بقبضة يد صامتة، أثارت معها تساؤلات عديدة عمّا يمكن أن تذهب إليه العلاقات السعودية الأمريكية.
يبدو الموقف العام من الزيارة الصينية بالنسبة لواشنطن مازال مربكاً، فقد ذكر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض "جون كيربي"، إن إدارة "بايدن" تدرك أنّ الصين تحاول توسيع نفوذها في جميع أنحاء العالم، لكن الطريقة التي تسير بها حول هذا الأمر تهدد النظام الدولي الذي تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها الحفاظ عليه[8]. وفي خطاب سابق لوزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" بجامعة جورج واشنطن، اعتبر أن "الصين تشكل أخطر تهديد طويل الأمد للنظام الدولي، وهي الدولة الوحيدة التي ـ إلى جانب الرغبة الجادة لإعادة تشكيل النظام الدولي ـ تملك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية المؤهلة للقيام بذلك"[9]. ذلك يفسر المخاوف الأمريكية من النفوذ الصيني في المنطقة الذي لم يعد خافياً أن بكين تطمح لأن يتوسّع، وهو ما يعز، عمليا، ملامح تشكيل نظام دولي جديد.
الأمر لم يعد مقتصراً على التعاون الاقتصادي، إذ أنّ هناك الأمني والعسكري وإن كان بنسبة أقل، وربما يصبح أولوية رئيسية في ظل استعداد دول الخليج لاستكشاف ترتيبات أمنية بديلة تضمن أمنها واستقرارها، لا سيّما وهناك تهديدات وملفات تحدق بالمنطقة، منها النووي الإيراني ووكلاء طهران في اليمن. وقد أشار الرئيس شي خلال القمة الصينية الخليجية، لسعي الصين على إنشاء مركز للأمن النووي في الخليج.
وبالفعل، أظهرت طهران غضبها من نتائج هذه الزيارة الصينية، وبالذات من من البيان المشترك الصادر عن القمتين الخليجية ـ الصينية، والصينية ـ السعودية، الذي يؤيد الاتهامات لإيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ويعتبر سلوكها السبب الرئيسي لحالة عدم الاستقرار في منطقة الخليج. كما أن الخارجية الإيرانية أعلنت استدعاء السفير الصيني لدى طهران، احتجاجاً على البيان، الذي تضمن وضع الجزر المتنازع عليها مع الإمارات ومفاوضات الاتفاق النووي.
وفي إطار التعاون العسكري، أشارت بعض التقارير[10]، بأنّ الصين زودت السعوديين ببعض المدفعيات والطائرات المسيرة التي استخدموها في حربهم المستمرة ضد الحوثيين في اليمن. وفي عام 2017، منحت بكين المملكة ترخيصاً لإنتاج طائرات مسيرة صينية محلياً. كما أن الصين كانت قد أبرمت قبل ذلك أكثر من 15 اتفاقية شراكة مع دول في المنطقة، وتشارك في مهمات مكافحة القرصنة التي تديرها الأمم المتحدة في خليج عدن وبحر العرب ومصر، وأجرت عمليات إنقاذ لرعاياها في ليبيا عام 2011 واليمن عام 2015. [11]
الأمر الذي يعني بالمحصّلة، توجه عام بمزيد من التعاون بين الجانبين العربي والصيني في مختلف المجالات ورفع مستوى التنسيق بينهما على أوجه عديدة. غير أن التعاون الاقتصادي المشترك يأتي في مقدمتها، لا سيّما مبادرة "حزام واحد طريق واحد" التي تضم 68 دولة في خمس قارات، والتي يبدو أنها ستعيد ترتيب توازنات وعلاقات دول المنطقة بدول أخرى، من خلال الاستثمارات المتنوعة في هذا الإطار. على المدى المنظور، ستشكل الزيارة الصينية باباً أوسع للتعاون الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، ودول الخليج على وجه الخصوص؛ لديها رؤى ترغب بتحقيقها ويبدو أنها وجدت الطريق لذلك بعيداً عن الغرب.
فريدة أحمد
المدير التنفيذي لمركز سوث24 للأخبار والدراسات
المراجع: