التحليلات

ليسوا عملاء أو دمى: دحض خرافة «الحرب بالوكالة» في اليمن

من الاحتفال بعيد استقلال جنوب اليمن في 30 نوفمبر 2016. جندي يحمل علم اليمن الجنوبي (أحمد شهاب)

05-08-2023 الساعة 10 صباحاً بتوقيت عدن

language-symbol language-symbol

"إنّ سردية الحرب بالوكالة لا تمثل فقط اختزالا يبسّط من تعقيد الصراع لكنها تسيء فهم الصراع بأكمله وتجرد اليمنيين من قوتهم وتقوّض مطالبهم المشروعة."


سوث24 | علاء محسن


إنّ الصراع الدائر في اليمن والذي تسبب في معاناة هائلة لملايين اليمنيين في الجنوب والشمال على حد سواء، عادة ما يتم وصفه باستمرار في وسائل الإعلام والمناقشات السياسية داخل أروقة المجتمع الدولي  بأنه "حرب بالوكالة". مثل تدخل دول إقليمية، كالمملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة وايران في هذا الصراع قاد إلى التسليم بهذا التوصيف دون نقد كافي وجاد لهذه التأطير الخطير. ومع ذلك، فإن سردية الحرب بالوكالة في اليمن لا تمثل فقط اختزالا يبسّط من تعقيد الصراع لكنها تسيء فهم الصراع بأكمله وتجرّد اليمنيين من قوتهم وتقوّض مطالبهم المشروعة، حيث يتجاهل توصيف الحرب بالوكالة نقطة رئيسية وهي أنّ الحرب الأهلية اليمنية صراع متعدد الأطراف بين جماعات محلية تتنافس من أجل فرض مشروعاتها السياسية الخاصة بغض النظر عن مشاركة الأطراف الاقليمية. وقبل الخوض في الأسباب حول لماذا يعد هذا التصور خاطئا، ليس فقط من الناحية الموضوعية ولكنه أيضا يرتبط بتداعيات سلبية على عملية بناء السلام بقيادة الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص الحالي هانس جروندبرج، لا بد من تقديم تعريف واضح لمفهوم الحرب بالوكالة وماهية شروطها.


الحرب بالوكالة: تعريف وشروط


وفقا لقاموس أوكسفورد، فإن تعريف الحرب بالوكالة "هي حرب تشنها دول عظمى دون الانخراط المباشر في العمليات العسكرية، وتكلف عملائها المحليين بالقتال نيابة عنها". لا يتسم الصراع اليمني بهاتين الخاصيتين الجوهريتين. أولا، المواجهات المسلحة بين الأطراف المحلية سبقت تدخل التحالف بقيادة السعودية، حيث كان المتسبب المباشر للحرب واندلاع المواجهات هو سيطرة المتمردين الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014. وعلى الجانب الآخر، لم تنطلق عمليات التحالف إلا في أواخر مارس 2015. وبالرغم من التوقيع على اتفاق السلم والشراكة الوطنية كما أراد الحوثيون، الا أنه تم احتجاز الرئيس هادي ووضعه تحت الإقامة الجبرية لانتزاع تنازلات أكثر من قبل الجماعة. تمكن الرئيس هادي من الهروب من الإقامة الجبرية ونجح في الوصول إلى عدن محاولا إعادة ترتيب أوراقه ومستجديا العون الدولي في حماية السلطة الشرعية من الانقلاب الحوثي. رد الحوثيون بإرسال طائرات مقاتلة لقصف القصر الرئاسي في معاشيق. وعلاوة على ذلك،  انتشرت قوات الأمن المركزي الموالية للحوثيين وصالح في عدن بقيادة العميد عبد الحافظ السقاف للسيطرة على مطار عدن. وفي ظل فشل هاتين المحاولتين، أعلن الحوثيون تعبئة عامة للهجوم على الجنوب للتخلص من نظام هادي والمقاومة باستخدام ذريعة مكافحة الإرهاب. شعر الجنوبيون بالذعر والقلق من هذه الخطوة، لا سيما في ظل تواجد ملحوظ لقوات صنعاء الموالية داخل مؤسسة الجيش في الجنوب، ناهيك عن وجود تعزيزات إضافية كانت ما تزال تتدفق من الشمال.


ثانيا، التحالف العربي بقيادة السعودية مشارك بشكل مباشر في الحرب من خلال حملات جوية فيما عرف بـ “عاصفة الحزم". منذ ذلك الحين، ظل التحالف طرفا نشيطا في الصراع، وقام الحوثيون بقصف مدنًا سعودية وإماراتية كرد فعل لانخراط هذه الدول في علميات عسكرية ضدهم. وعانت كلتا الدولتين من خسائر كبيرة، حيث فقدت الإمارات العربية المتحدة 45 جنديا في يوم واحد في مأرب جراء قصف حوثي على معسكر لقواتها. من أجل تعزيز تأثير حملاتهم العسكرية، تعاون التحالف الذي تقوده المملكة السعودية مع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا والمقاومة الجنوبية وجماعات محلية أخرى كانت تحارب الحوثيين بالفعل على الأرض. لهذا بدلا من مصطلح حرب الوكالة، فإن التوصيف الأكثر دقة هو بأنه "صراع ذو صبغة إقليمية"، والذي يشير إلى نوع معين من الحروب الأهلية التي تتدخل فيها دول إقليمية بشكل مباشر في الصراع المحلي دون أن تكون سببا مباشرا في اندلاعه جراء تنافس جيوستراتيجي بين دول عظمى كبيرة. 


تعريف العلاقة بين التحالف والحلفاء المحليين


إنّ مصطلح 'الحرب بالوكالة' لا يمكن أن يستند فحسب على وجود دعم دولي لأطراف محلية فقط. كافة الصراعات المحلية تتضمن شكلا ما من الدعم الدولي لأحد أو بعض الأطراف المحلية. ومع ذلك، فإن الحرب بالوكالة تفترض أن تمثل الأطراف المحلية مصالح دول أقوى وتقاتل بالنيابة عنها، وهذا لا ينطبق على الأطراف في الحالة اليمنية. على سبيل المثال، بدأت العلاقة بين التحالف والمقاومة الجنوبية كشراكة ارتجالية للتصدي لعدو مشترك. عندما توسعت قوات الحوثيين وصالح إلى الأراضي الجنوبية، تشكلت المقاومة الجنوبية من جيوب المقاتلين المدنيين الذين يفتقرون الى التجهيزات العالية والخبرة العسكرية الكافية اذا ما قورنت بجيش دولة [ الموالي للرئيس السابق صالح] مدعوما بتعزيزات من ميليشيا عقدية متمرسة من جماعة الحوثي. لذلك، كان التدريب ودعم الأسلحة المقدم من التحالف موضع ترحيب لتعزيز إمكانيات المقاومة الجنوبية. وبينما قدّم التحالف دعما جوهريا لقوات الحكومة المعترف بها دوليا وقوات مقاومة شمالية أخرى، أظهرت القوات الجنوبية إمكانيات عسكرية واعدة وأكثر تأثيرا ضد الحوثيين. حقيقة تلقي القوات الجنوبية مساعدات عسكرية من التحالف، لا سيما الإمارات العربية المتحدة، لا يجعلهم وكلاء للدولة الداعمة، بل يمكن اعتبارها شراكة ضرورية قائمة على مصالح مشتركة بين الطرفين، مثلما لا يمكننا أن نختزل الحوثيين في كونهم مجرد "عملاء لإيران". غالبا ما يتم استخدام مصطلح "عميل" من الخصوم السياسيين لنزع شرعية بعضهم البعض. بيد أن استخدام المصطلح فحسب لا يجعل الزعم صحيحا او يعطيه مصداقية أكثر. لهذا ينبغي أن نقيّم هذه السرديات والمصطلحات استنادا على دليل ملموس بدلا من الاعتماد فقط على الخطاب الإعلامي للخصوم السياسيين وقاعدة الناشطين التابعة لهم.


بالإضافة إلى ذلك، فإنّ القوات الجنوبية وممثلها السياسي، المجلس الانتقالي الجنوبي، لا يمكن وصفهم بوكلاء السعودية او الامارات، استنادا إلى حقيقة وحيدة مفادها أن الجنوبيين لديهم مشروعهم السياسي الخاص الذي قد يتفق او يتصادم مع بعض مصالح دول التحالف خلال الحرب وبعدها. وبينما يتشارك الجانبان في محاربة عدو مشترك (الجماعة الحوثية)، فإنهما لا يحملون بالضرورة نفس الرؤية والأولويات في إدارة الحرب أو هيكل الدولة في يمن ما بعد الصراع أو العلاقة مع بعض الفاعلين المحليين والدوليين. بالنسبة للجنوبيين، تمدد الحوثي إلى الجنوب ماهو إلا عملية غزو عسكري ومحاولة لتعزيز الاحتلال الشمالي القائم منذ عام 1994. على الجانب الآخر، ينظر السعوديون إلى الحوثيين باعتبارهم تهديداً أمنيا لحدودهم خصوصا إذا استطاعوا في تثبيت حكمهم على اليمن بأكلمه. لهذا ركزت العمليات الجوية للتحالف بقيادة السعودية على احتواء هذا التهديد من خلال الضغط العسكري على أمل إجبار الحوثي للمثول على طاولة المفاوضات السياسية. ومن أجل هذا السبب، يضع السعوديون مشكلة الحوثيين كأولوية أكبر من أي محادثات تتعلق بحل المشكلة الجنوبية أو استقرار المناطق المحررة. لكن بعد إعادة السعودية هيكلة سياستها الخارجية في أعقاب اتفاقها الاخير مع إيران، ثمة فرصة لنشوب صدام بين السعوديين والمجلس الانتقالي الجنوبي، لا سيما إذا حاول السعوديون تقويض الوحدة الجنوبية وتقسيم الأراضي الجنوبية إلى مناطق نفوذ جهوية على مستوى المحافظات. لكن حتى اللحظة، فإنّ العلاقة السعودية مع المجلس الانتقالي الجنوبي ما تزال تحكمها المصالح المتبادلة وهي دلالة على علاقة شراكة بدلا من ديناميات الراعي والعميل. 


منظور كارثي: العواقب السلبية على عملية بناء السلام


إن إبراز الحرب الأهلية اليمنية على أنّها "حرب بالوكالة" يرتبط بعواقب كارثية على جهود صناعة السلام. بينما يمكن فهم زيارات المبعوث الأممي إلى دول ضالعة بشكل مباشر في الصراع أمثال السعودية وإيران والإمارات ، فإن النهج الأكثر تأثيرا ينبغي أن يشمل تواصلا مكثفا مع أطراف الصراع المحلية في الداخل. في الوقت الراهن، يقوم المبعوث الأممي الخاص بزيارات لبلدان أجنبية بمستوى أكبر بكثير مقارنة بزياراته للأطراف المحلية. على سبيل المثال، بالرغم من أنّ عدن هي مقر الحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي، قام المبعوث الاممي بأقل من 5 زيارات لها منذ توليه منصبه في سبتمبر 2021. عملية بناء السلام في اليمن تتطلب تكثيف الزيارات والوساطات المستمرة بين عدن وصنعاء كونها أكثر أهمية من التواصل مع دول صاحبة نفوذ محدود على الأطراف المحلية مثل الصين أو حتى الولايات المتحدة. إذا أردنا إنهاء الصراعات وإحلال السلام، فإنه من المنطقي أن نركز على معالجة القضايا العالقة بين الأطراف المعنية المحلية. لكننا عندما ننظر إلى هذا الصراع على أنه مجرد حرب بالوكالة بين دول إقليمية كالسعودية في مواجهة إيران، فإنّ هناك مخاطرة تتعلق بالتقليل من المسببات المحلية للحرب والتركيز فقط على التعامل مع قوى خارجية استنادا على افتراض خاطئ بأنها تمتلك القوة الحاسمة لإنهاء هذا الصراع.


عادة ما ترتبط حرب الوكالة بتحكم مباشر وسيطرة فعالة من الراعي على العميل، حيث يقتصر دور الأخير على كونه دمية تروّج مصالح الدولة الراعية دون أي درجة من الاستقلالية. هذه الدينامية غائبة بشكل كبير في صراع الأطراف الرئيسية في اليمن. على سبيل المثال، يمثّل المجلس الانتقالي حركة الاستقلال والحراك الجنوبي الذي يسعى إلى استعادة دولة جنوب اليمن التي كانت قائمة قبل عام 1990. وعلى الرغم أنّ دولة الإمارات قدمت دعما لحلفائها المحليين المناهضين للحوثيين مثل المجلس الانتقالي الجنوبي والمقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح، فإنّ هذا لا يعني التأثير على القرار السياسي لهؤلاء الحلفاء المحليين. وإذا اعتبرنا المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الجنوبية التابعة له مجرد عملاء لدولة الإمارات، لكان خروج الأخيرة من الصراع اليمني عام 2019 قد أثّر سلبيا على تماسك هذه القوات وسيطرتها على الأرض في المناطق الجنوبية. وفقا لمنطق الحرب بالوكالة، فإنّ انسحاب الإمارات ينبغي أن ينتج عنه اصطفاف أفعال القوات الجنوبية مع مصالحها والتخلي المحتمل عن قتالهم ضد الحوثيين. ومع ذلك، لم يتحقق هذا السيناريو الذي يمليه منطق الحرب بالوكالة. بدلا من ذلك، رأينا التزام المجلس الانتقالي الجنوبي بالقضية الجنوبية بشكل أساسي والدفاع عن الجنوب بوجود الإمارات أو عدمه.


خاتمة


ختامًا، أود التأكيد على أن وصف الحرب اليمنية بأنها "حرب بالوكالة" يمثل تبسيطًا لتعقيداتها وتجاهلا للمظالم السياسية والتطلعات الحقيقية للأطراف اليمنية المحلية. لقد انخرطت في هذه الحرب جماعات داخلية متعددة، لكل منها مشاريع سياسية مستقلة تدافع عنها. وبينما تقدم دول خارجية الدعم لفصائل متنوعة، فإن اختزال الصراع إلى مجرد "حرب بالوكالة" يمثل ضررا يعمّق معاناة الشعب اليمني التي لا زال يعاني من نفس مسببات الحرب والصراع. لهذا السبب يجب علينا التحرك في معالجة هذه الأسباب ابتداء من تجاوز سردية الحرب بالوكالة واكتساب فهم أكثر دقة للدوافع المحلية للصراع.


إنّ تفنيد سردية "الحرب بالوكالة" لا تعني الإلغاء التام لأهمية الأطراف الخارجية مثل المملكة السعودية التي تظل طرفا معنيا قويا في هذا الصراع. يمكن فهم الدور السعودي بشكل أدق باعتباره طرفا في الصراع وليس مجرد محرك دمى مسيطر على ديناميات الحرب في اليمن ومتحكم في شبكة من المرتزقة المحليين. بالنسبة للسعودية، يمكن تأمين مصالحها القومية في اليمن من خلال ضمانات أمنية أو اتفاقيات خلفية مع الحوثيين. لكن الصراع أكثر تعقيدا بالنسبة لليمنيين بما فيهم الجنوبيين، حيث يتعلق الاقتتال بالحفاظ على الحقوق الأساسية والحريات السياسية ضد نظام رجعي في صنعاء سيطر على مقدرات الدولة وصادر الحريات وأفرغ الجمهورية من جميع إنجازاتها وحصر السلطة في سلالة عنصرية لا تؤمن بالمواطنة المتساوية. وطالما استمرت هذه الأوضاع والمسببات، فإنه ليس من المحتمل أن تضع الحرب أوزارها بغض النظر عن وجود الأطراف الخارجية من عدمه. إن نقد تأطير "الحرب بالوكالة" يسمح لنا أن نركز على النحو الصحيح في الأطراف التي تهم بشكل أكبر في عملية السلام. ومن غير الاعتراف بمظالم الأطراف المحلية ومعالجة مخاوفها الحقيقية، فلن يتم التمكن من إنهاء الحرب وتحقيق سلام مستدام في البلد.




باحث دكتوراة بجامعة يوتا ومتخصص في سياسات الشرق الأوسط، مع التركيز على  اليمن ودول الخليج وتركيا. يمكن متابعة المؤلف على صفحته بتوتير: algahafy@

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا