واجهة مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بعدن، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
18-10-2023 الساعة 5 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | عبد اللطيف سالمين
تحتفظ عيون الشاب علي محمد بألم لا يمكن لأحد أن يفهمه فقد عانى من مشكلة نفسية خطيرة، بدأت قبل أكثر من عقد من الزمن. تفاقمت المشكلة حتى تلاشى وعيه عن كل ما يحدث حوله. جاء الشاب الثلاثيني من محافظة البيضاء عام 2012 إلى العاصمة عدن برفقه صهره لتلقي الرعاية النفسية في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية التعليمي، المستشفى الحكومي الوحيد من نوعه في عدن والمحافظات المجاورة.
لمدة عامين، تلقى الشاب العلاج في المستشفى . عاش في غرفة صغيرة رفقة مرضى آخرين، وخرج في 2014 بعد تحسن حالته وتقييم المشرفين على وضعه بإمكانية عودته لممارسة الحياة الطبيعية. لكن الشاب تعرض لنكسة نفسية مدمرة نتيجة غياب التوصيات اللازمة في كيفية العناية النفسية الصحيحة بعد فترة العلاج، لمنع الارتدادات الخطيرة.
صادفت أزمته النفسية الجديدة دخول البلاد في حالة اضطراب وحرب أهلية، فلم يستطع العودة إلى عدن. منعت الإمكانات المادية المتواضعة لأسرة الشاب، بالإضافة لغياب الوعي بأهمية مواصلة المتابعة الصحية النفسية، من عودته إلى عدن على مدى السنوات اللاحقة أيضًا حتى بعد استقرار عدن وانتهاء الحرب فيها. وبعد قرابة تسع سنوات، صادفنا علي مجددا في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية.
باحة مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بعدن، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
وفقًا لصهره علي سالم، الذي رافقه إلى عدن في 2012، وعاد به مجددًا إليها قبل شهر، تضاعفت حالة الشاب بشكل كبير اليوم. قال لمركز "سوث24" إن ما زاد الطين بلة هو وضع المستشفى النفسي في عدن الذي تدهور بشكل حاد. مضيفًا: "عندما قدمنا إلى هنا قبل 11 عاما لم يكن وضع المشفى مثاليا، لكنه كان أفضل من الآن بكثير. لقد تدهورت خدمات المستشفى، وننفق أموالنا دون فائدة تذكر".
أوضاع مزرية
يقر د. ثابت قاسم محسن، مدير مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في عدن، بسوء الأوضاع داخل المستشفى. وقال لمركز "سوث24": "الجهات الرسمية لا تستوعب دور المستشفى واحتياجات المرضى النزلاء. القرارات الحكومية تفتقر إلى التركيز على الصحة النفسية ولا تعتبرها ضمن أولوياتها".
قام موفد مركز "سوث24" بجولة في المستشفى لاكتشاف عمق المشكلة. يتكون المستشفى من 100 سرير و8 أقسام ترقيد للرجال والنساء. بعض الأقسام بحاجة إلى صيانة ولا يوجد فيها الأثاث والطاقم اللازم. كما أنَّ بقية الأقسام بحاجة إلى إعادة التأهيل. المستشفى يحتوي أيضًا على أقسام مُلحقة مثل العيادة الخارجية والطوارئ.
أسرة في إحدى حجرات المرضى المتهالكة في المستشفى، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
وعلى الرغم من وجود مولدات كهربائية في المستشفى لتعويض الانقطاعات الطويلة للتيار العمومي، يعاني نزلاء وطاقم المستشفى من انقطاعات الكهرباء بسبب عدم توفر الوقود في أحيان كثيرة. تنبعث الروائح الكريهة من بعض حجرات المشفى نتيجة غياب التكييف وتكدس المرضى. كما يلاحظ من يزور المستشفى حالة الإهلاك في الجدران والحجرات والحاجة الماسة للترميم.
نتيجة تناقص التمويل الحكومي والاهتمام، تراجعت قدرة المستشفى على استيعاب المرضى من قرابة 500 نزيل قبل سنوات إلى أقل من 100 نزيل اليوم. وفقاً لإدارة المستشفى والعاملين فيه، توقفت العلاوات التي كانت تأتي للطواقم الطبية والتمريضية والإداريين وعمال الخدمات. وتشمل العلاوات التي تم إيقافها علاوة النوبة والخطورة، وعلاوة العدوى والتطبيب.
قالت إحدى الممرضات إنها تشعر بالغبن لأنّها لا تحصل على العلاوات التي تتسلمها ممرضات أخريات في مستشفيات حكومية مختلفة. وفي ممر ضيق، عبر عامل النظافة عن حزنه لوضعه الصعب متمنيًا أن تتحسن الأمور بسرعة.
دورات مياه في المستشفى، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
ويلفت مدير المستشفى إلى أن نقصًا كبيرًا في المعدات والأجهزة والأدوات يمنع الطاقم من تقديم الرعاية للمرضى. مضيفا: "المستشفى بحاجة لميزانية قدرها 30 مليون ريال لتحسين البنية التحتية، ووزير الصحة لم يلتزم بمراجعة الأمر مثلما وعد. بعض أقسام المستشفى لم يتم ترميمها منذ تضررها في حرب 2015 حتى الآن. نفتقر إلى الاحتياجات الأساسية للمستشفى مثل الأجهزة الطبية وفي مقدمتها جهاز CBC لتحليل الدم".
وأشار إلى أنّ المستشفى يعتمد على التبرعات الخيرية في تسيير كثير من شؤونه ونشاطه. مضيفًا: "هناك دعم موجود ولكنَّه محدود جداً، حيث تُقدَّم المنظمات الخارجية الدعم بشكل غير منتظم مرة كل عام أو عامين. نتلقى أيضًا دعمًا من بعض المؤسسات الحكومية والخاصة والمنظمات والسلطة المحلية، ولكن نتمنى وجود شراكات مع رجال الأعمال لتحسين الخدمات الصحية والعقلية".
وأوضح د. ثابت أنَّ مشكلات نقص التمويل تمتد إلى الغذاء والمياه النظيفة التي يفترض أن يحصل عليها النزلاء بشكل مجاني خصوصا المرضى الفقراء، بالإضافة إلى الأدوية. ولفت إلى أنَّ الصعوبات في هذا الاتجاه "كبيرة وقاسية ومؤلمة". مضيفًا: "العيادات النفسية هنا تعتمد على ثلاثة أطباء نفسانيين فقطـ بالإضافة لعدد بسيط جدا من الباحثين. بالرغم من أنَّ جميعهم يعملون بكفاءة عالية، إلا أن العيادات بحاجة إلى طاقم طبي أكبر من أطباء الأمراض النفسية والعصبية المتخصصين".
مخزون السلع الغذائية في المستشفى، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
ومع ذلك، يذكر د. ثابت تحقيق بعض الإنجازات خلال الفترة السابقة مثل "تثبيت كاميرات المراقبة ونظام البصمة للموظفين. وكذلك تجهيز جهاز فحص الدماغ".
بدوره، أكد المسؤول الإعلامي في المستشفى، عبد الله المشجاجي، على أن البنية التحتية هناك متدهورة للغاية. قال لمركز "سوث24" إنه لا يمتلك حتى حاسوبا واحدا للعمل من خلاله، ويكتفي بالعمل من خلال الهاتف. مضيفًا: "أحصل على حافز شهري بسيط للغاية. لا وجود للإنترنت هنا ولا لأي إعلامي مساعد. اعتبر عملي مهما في توثيق أنشطة المستشفى وتوعية الناس بالصحة النفسية".
وطالب المشجاجي بتوفير كل المستلزمات "في مقدمتها أدوات عمل مناسبة مثل الحواسيب المحمولة لتسهيل العمل وربطها بمرافق المستشفى عبر شبكة الإنترنت".
حاولنا زيارة أقسام النساء ولكن لم يسمح لنا بالدخول. وفي أقسام الرجال، كان الوضع سيئًا حيث كان العديد منهم يعانون من اضطرابات نفسية وكانوا محجوزين خلف الأبواب المغلقة. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك بعض الابتسامات على وجوههم عندما شاهدوا زوارًا جدد.
معاناة النزلاء
نزلاء مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في عدن هم الضحية الأكبر لهذه الأوضاع المزرية. تضيف هذه الظروف القاسية المزيد من الأعباء النفسية عليهم فتقتل فرص كثيرين ممن كانوا قد يشفون من علتهم إذا تلقوا الرعاية الصحية اللازمة. علاوة على ذلك، يشتكي مرافقوهم مما وصفوه بـ "الإهمال والمعاملة السيئة" من قبل الأطباء والممرضين.
الأسوأ من ذلك، أن المستشفى مهدد اليوم بالإغلاق التام كما أكدت إدارته لمركز "سوث24" نتيجة الإهمال الحكومي.
سرير علاجي في المستشفى، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
كما تكشفت خلال جولتنا الميدانية ملفات أخرى تتصل بعمل المستشفى وخطورة الوضع فيه على النزلاء، من بينها الحديث عن حالات صحيحة نفسيا أدخلت إلى المستشفى قسريا لأغراض سياسية في سنوات سابقة أو لخلافات أسرية، حتى أصيبت بالعته والجنون.
ولتتأكد من صحة الأمر، سألنا مسؤول البحث الجنائي في المؤسسة، حسن يوسف، الذي أشار إلى أن هذا قد يحدث بعض الأحيان. مضيفًا: "قد يكون بصورة متعمدة أحيانًا، أو نتيجة لإهمال آليات العمل الصحيحة التي إن لم يتم العمل وفقها تزداد احتمالية حدوث مشاكل من هذا القبيل وعدم تطبيق العدالة الاجتماعية".
وشدد المسؤول على أهمية التنسيق مع دائرته قبل إدخال حالات جديدة للمشفى لمنع حدوث أي ضرر متعمد أو سوء معاملة. وأشار إلى أن الأشخاص المقيمين في المشفى يجب أن يخضعوا للبحث الجنائي للحصول على الإذن بالدخول وفق توقعيهم، وإلا لن يسمح لهم بالدخول لضمان أمن المرضى والعاملين. بالإضافة إلى ذلك، انتقد يوسف القرارات الانفرادية لإدارة المستشفى في إدخال بعض المرضى دون توقيع البحث الجنائي.
باحة خارجية للمستشفى، 5 أكتوبر 2023 (مركز سوث24)
وقبل أيام، وفي اليوم العالمي للصحة النفسية 10 أكتوبر، قال صندوق السكان في الأمم المتحدة إن 1 من بين كل 4 يمنيين يعانون من اضطرابات نفسية وهم في حاجة إلى الرعاية. وتكشف هذه الأرقام الكبيرة عن استفحال الاضطرابات النفسية نتيجة تفشي الفقر والجوع والحرمان في أوساط اليمنيين، لاسيما مع الحرب المستمرة منذ أكثر من ثمانية أعوام.