التحليلات

عجز الموازنة وتناقص النفقات: تحليل الأزمة المالية في اليمن

سوق شعبي في مدينة المكلا، حضرموت، سبتمبر 2023 (مركز سوث24)

آخر تحديث في: 30-03-2024 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol language-symbol
"يواجه اليمن أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ويستعد لنتائج غير متوقعة. في هذه الورقة يناقش مركز سوث24 الوضع الاقتصادي الحالي ويقدّم توصيات حلول لقيادة الحكومة الجديدة في قطاعات الدولة الرئيسية"


أحمد باحكيم


مقدمة

شابت المشهد الاقتصادي في اليمن فوضى كبيرة، لا سيما في نهاية عام 2023، حيث واجهت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا تهديدا وشيكا بالإفلاس. خلال السنوات السابقة، لجأ البنك المركزي عدن إلى طباعة أوراق نقدية جديدة لتسوية الديون ودفع رواتب موظفي القطاع العام، بهدف التخفيف من مأزقه المالي غير المستقر. ومع ذلك، أصبحت هذه الأوراق النقدية غير فعالة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن، مما أدى إلى انخفاض كبير في قيمة العملة الوطنية وتدهور الخدمات العامة الأساسية، وقاد ذلك إلى استياء عام واسع النطاق.[1]



شكل 1: متوسط أسعار الصرف في جنوب اليمن (2012-2024):). المصدر: مركز سوث24 للأخبار والدراسات.


تتضح تداعيات هذه التحديات الاقتصادية في متوسط أسعار الصرف في السوق، كما هو موضح في الشكل 1، تؤكد هذه البيانات التأثير الكبير للأزمة المالية على أسعار صرف العملات في البلاد من الفترة من 2012 إلى 2024.


وردا على السيناريو الاقتصادي الصعب، أعربت الحكومة اليمنية عن نيتها الاستفادة من حزمة مساعدات سعودية بقيمة 1.2 مليار دولار لمعالجة عجز الميزانية، والحفاظ على رواتب الموظفين، وضمان الأمن الغذائي، بهدف التخفيف من تداعيات الكارثة الاقتصادية. ومع ذلك، تفاقمت المرحلة الحالية من الأزمة الاقتصادية في اليمن بسبب تصاعد النزاعات الاقتصادية الناجمة عن القيود التجارية التي تفرضها سلطات الحوثيين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. إضافة إلى ذلك، أدى الخلاف الحكومي الداخلي إلى اختلال وظيفي، وانخفاض القدرة الإدارية، وسط مزاعم بالفساد، مما أعاق التحصيل الفعال للضرائب والإيرادات العامة الأخرى.[2]


أدت هجمات الحوثيين المكثف ضد الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا في أواخر عام 2022، التي استهدفت منشآت الطاقة في جنوب اليمن، إلى تقليص كبير في عائدات الضرائب والغاز والنفط، وبالتالي إلى عجز كبير في الميزانية وتضاؤل شديد في القدرة المالية على الوفاء بالالتزامات المالية الأساسية، مثل دفع رواتب القطاع العام وتوفير الطاقة.[3]


تبدو التوقعات الاقتصادية والإنسانية لليمن قاتمة بشكل متزايد، حيث تتأرجح الأمة على حافة أزمة متفاقمة.  لذا فإنّ الدعم المالي المستدام أمر ضروري لتفادي حدوث تدهور حاد في الحالة الإنسانية. وتؤكّد المستويات المقلقة من سوء التغذية، حيث يعاني حوالي 50٪ من الأطفال دون سن الخامسة من التقزم المعتدل إلى الشديد، على حدة الأزمة الإنسانية. إنّ عدم دفع رواتب الآلاف من العاملين في القطاع العام، وما يترتب على ذلك من عدم استقرار مالي، يفرض عواقب مقلقة على كل من هؤلاء الموظفين وأسرهم، مما يؤدي إلى تفاقم الظروف الاقتصادية القاتمة أصلا.[4]


يؤكّد التعطيل المتعمد لتدفقات التمويل العام للحكومة اليمنية من قبل الحوثيين، هذا فضلا عن نتائج اعتداءاتهم على السفن في البحر الأحمر وخليج عدن، إلى جانب التحديات الاقتصادية والإنسانية متعددة الأوجه، على الحاجة الملحة لمعالجة القضايا المعقدة والملحة التي تواجه الاقتصاد والسكان في اليمن، وتقديم مساعدة مالية فورية ومستدامة لتفادي تفاقم الأزمة وتعزيز الطريق نحو الانتعاش والاستقرار.[5]



شكل 2: من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية في اليمن بشكل مستمر بين عامي 2023 و 2028 بإجمالي 12.7 مليار دولار أمريكي.[6]


الإنفاق الحكومي والتحديات الاقتصادية في اليمن


يشمل الإنفاق الحكومي اليمني مكونات رئيسية مثل أجور ورواتب الموظفين العموميين، وشراء السلع والخدمات، والصيانة وخدمة الديون، ومدفوعات الفائدة، والنفقات الرأسمالية. لكنّ فاتورة أجور القطاع العام هي البند الأبرز في الميزانية، حيث تمثل حصة كبيرة من الإنفاق العام.[7]


أدى الصراع طويل الأمد في اليمن إلى ظهور منطقتين اقتصاديتين- واحدة تتبع الحكومة اليمنية والأخرى تتبع الحوثيين المدعومين من إيران، وكل منها تحكمها مجموعة مختلفة من المؤسسات والسياسات. وقد أدى ذلك إلى تفاوت متزايد بين هذه المنطقتين. في عام 2022، ظهر بصيص أمل بعد هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة، على الرغم من انتهاء صلاحيتها في أكتوبر من ذلك العام. ومع ذلك، استمرت هدنة غير رسمية بين الأطراف المتصارعة في البلاد. في عام 2023، تدهور الوضع بسبب الحصار الذي فرضه الحوثيون على صادرات النفط التي تديرها الحكومة المعترف بها دوليا. كان لهذا الحصار تداعيات شديدة على سيولة العملات الأجنبية، مما أدى إلى تفاقم الوضع المالي غير المستقر بالفعل للحكومة.[8]


بالإضافة إلى ذلك، انخفض سعر الصرف في سوق عدن إلى أدنى مستوياته التاريخية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار على الرغم من الانخفاض العالمي في أسعار السلع الأساسية.[9] علاوة على ذلك، فإنّ اعتماد اليمن الشديد على التحويلات المالية وتدفقات المساعدات، قد عرض البلاد لعوامل خارجية خارجة عن سيطرتها.[10]


لا يزال الوضع الاقتصادي في اليمن صعبا للغاية في غياب حل سياسي. أدى استمرار الحرب إلى انخفاض مذهل بنسبة 75٪ في عائدات النفط. يمكن أن يعزى هذا الانخفاض الحاد إلى عوامل مختلفة، بما في ذلك عزوف المستثمرين، وتصفية المشاريع، والشركات التي تختار مغادرة البلاد. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك توقف كامل في التنقيب عن النفط وإنتاجه وتصدير الغاز الطبيعي المسال. ومن الجدير بالذكر أن عائدات النفط في الدولة، التي تجاوزت 2.5 مليار دولار في عام 2013، قد تضاءلت الآن إلى أقل من مليار دولار سنويا منذ بداية الصراع.[11] علاوة على ذلك، تسببت الهجمات الأخيرة التي شنها الحوثيون على موانئ النفط في الجنوب في خسارة إضافية بمليارات الدولارات.[12]



شكل 3: التوازن المالي للحكومة العامة في اليمن من 2000 إلى 2023.[13]


إنّ الإيرادات المتناقصة الحالية تكفي فقط لتغطية رواتب موظفي الخدمة المدنية ومعاشات المتقاعدين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مع بقاء مبلغ محدود فقط للحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات العامة وضمان عمل مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من هذه الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الحكومة اليمنية يواصل الحوثيون المطالبة بجزء من عائدات النفط المتضائلة. وبالتالي، من الواضح أنه بدون حل سياسي، ستظل الآفاق الاقتصادية لليمن سيئة وستستمر التحديات.[14] 


لم يكن الحوثيون حتى الآن راغبين في تخصيص إيرادات القطاع العام لدفع رواتب القطاع العام. من الضروري منع الحوثيين من استغلال القضية الإنسانية المطروحة لأجندتهم الخاصة أو ممارسة السيطرة على السكان اليمنيين.[15] في الواقع، من خلال الاستخدام الفعال للإيرادات المتولدة من الموارد الخاضعة لسيطرتهم، مثل النفط والغاز والموانئ، يمتلك الحوثيون القدرة على لعب دور حاسم في استقرار الاقتصاد اليمني والتخفيف من تأثير الأزمة الإنسانية. ولهذا، من الضروري أن تضمن الأمم المتحدة وصول المدفوعات إلى المستفيدين المقصودين وعدم إساءة استخدامها لدعم أنشطة الحوثيين غير المشروعة أو تمويل مؤيديهم.[16]


من الضروري إنشاء آلية لمنع ميليشيا الحوثي من الاستيلاء على الإيرادات أو اختلاسها، وضمان الصرف المناسب للرواتب والنفقات الأخرى من قبل الأطراف الحاكمة. ومن المهم أيضا أن تتولى الحكومة اليمنية السيطرة على مصادر الإيرادات الأساسية للبلاد وضمان توزيعها العادل. ويشمل ذلك الموارد المالية من قطاع النفط وكذلك الإيرادات الناتجة عن ميناء الحديدة والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.[17] وقد ساهم الفشل في القيام بذلك في تمويل الصراع المستمر. ومن الأهمية بمكان معالجة هذه القضايا لتعزيز الاستقرار واستعادة التوازن الاقتصادي وتسهيل الطريق نحو السلام المستدام في اليمن.[18]


الجمارك والضرائب: التحديات والفساد


كجزء من مفاوضاتها مع الحكومة السعودية، ضمنت سلطات الحوثيين بشكل استراتيجي إزالة قيود الاستيراد التي فرضها التحالف على ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة الجماعة. وفي خطوة محسوبة لتعزيز سلطتها، سيطرت ميليشيا الحوثي عمدا على تدفق البضائع من خلال إعادة توجيه الواردات بعيدا عن ميناء عدن الحيوي، الواقع على الساحل الجنوبي، وإعادة توجيهها إلى ميناء الحديدة، الواقع على ساحل البحر الأحمر.[19] كان لهذه المناورة المتعمدة عواقب اقتصادية مدمرة على السكان اليمنيين الضعفاء بالفعل. أدت إعادة توجيه الواردات بعيدا عن ميناء عدن إلى تعطيل طرق التجارة الحيوية وفاقم المصاعب الاقتصادية التي يواجهها المواطنون. وقد أدت هذه الاستراتيجية المحسوبة من قبل ميليشيا الحوثي إلى تدهور كبير في الأوضاع الاقتصادية في اليمن.


تزامنت سيطرة الحوثيين على الواردات في اليمن مع محاولة الحكومة اليمنية المثيرة للجدل لزيادة إيراداتها من خلال زيادة الرسوم الجمركية. لعب سوء إدارة الحكومة اليمنية وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية دورا في تمكين ميليشيا الحوثي من السيطرة على الواردات. كان لتدابير الحكومة، مثل رفع سعر الدولار الجمركي وزيادة الضرائب على السلع والخدمات الأساسية، تأثير سلبي على الاستقرار الاقتصادي للبلاد. وقد أدى ذلك إلى تصاعد تكاليف الاستيراد، مما أدى إلى التضخم وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين اليمنيين. ونتيجة لذلك، خلقت المصاعب الاقتصادية التي يواجهها السكان ظروفا مواتية لميليشيا الحوثي لاستغلال الوضع لصالحهم.[20]


من المهم أن نلاحظ أن سياسات الحكومة اليمنية، التي تهدف إلى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، قد ساهمت عن غير قصد في الوضع الحالي. وهذا يسلّط الضوء على الحاجة إلى استراتيجيات شاملة وفعالة للإدارة الاقتصادية تعطي الأولوية لرفاهية المواطنين اليمنيين وتمنع استغلال المصاعب الاقتصادية لتحقيق مكاسب سياسية. كشفت البيانات المستقاة من مبادرة التتبع الاقتصادي لليمن التابعة لمشروع قدرات التقييم (ACAPS) عن انخفاض ملحوظ في الواردات عبر ميناء عدن، مما يؤكد بشكل أكبر على العواقب الاقتصادية لسيطرة سلطات الحوثيين على الواردات والحاجة إلى نهج شامل لمعالجة الوضع.[21]



شكل 4: الواردات الغذائية إلى اليمن عن طريق الموانئ (من يناير إلى ديسمبر 2023).[22]