التحليلات

إدارة التنوع المجتمعي في جنوب اليمن: فُرص وتحديات

مهرجان شبوة للتراث، 17 أكتوبر 2024 (مركز سوث24)

آخر تحديث في: 24-03-2025 الساعة 10 مساءً بتوقيت عدن

"بالنسبة لجنوب اليمن يمكن لمشروع وطني أن يستلهم من ماليزيا في بناء تحالفات سياسية تمثل المجتمعات الصحراوية والجبلية والساحلية، ومن سويسرا في اعتماد نظام لامركزي يحترم التنوع.."


مركز سوث24 |  وهبي النقيب


يُعد جنوب اليمن، بتاريخه العريق وتنوعه الجغرافي والثقافي، واحداً من أكثر المناطق تميزاً في شبه الجزيرة العربية. يمتد هذا التنوع من الصحاري الشاسعة إلى الجبال الوعرة وصولاً إلى السواحل الغنية. هذا التنوع الطبيعي لم يكن مجرد خلفية جغرافية، بل كان عاملاً حاسماً في تشكيل المجتمعات المحلية، عاداتها، تقاليدها، اهتماماتها، وطرق تفكيرها. لهذا يصبح فهم هذا التنوع وإدارته بمثابة حجر الأساس لضمان الاستقرار والتكامل الاجتماعي.


أشار المؤرخ اليمني الحسن بن احمد الهمداني إلى التنوع البشري والثقافي في جنوب اليمن، حيث تتعدد الأنماط المعيشية بين الرعاة والمزارعين والتجار كذلك الى التضاريس المختلفة وتقسيم المجتمعات عليها بين السهول والوديان والجبال والصحاري [1] وهو ما يعكس التكيف مع البيئة المتنوعة. في العصر الحديث، شهد الجنوب تقلبات سياسية كبيرة، بدءاً من الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر وحتى الوحدة اليمنية في 1990 مرورا بالحروب التي تعرّض لها في 1994 و 2015. هذه التطورات أثرت في الهوية الاجتماعية، لكنها لم تلغِ التنوع العميق الجذور بين مجتمعاته.[2]


فالمجتمعات الصحراوية تتميز بطباع قوية تتأثر بقسوة البيئة الصحراوية، بينما يعكس السلوك العام لهذه المجتمعات القيم القبلية مثل الكرم والشجاعة وحماية الأرض وترتبط عاداتهم وتقاليدهم بأسلوب حياة البداوة، كالاحتفالات الشعرية بالمناسبات والرقصات التقليدية وترتكز اهتماماتهم في الحفاظ على الاستقلالية المحلية.[3] تعد هذه المجتمعات عملية وواقعية تعتمد على الحلول السريعة والتكيف مع الظروف القاسية مع تركيز على الروابط القبلية كأساس للتنظيم الاجتماعي. اما المناطق الجبلية يتسم السلوك العام بالصلابة والتمسك بالعادات الزراعية والقبلية، حيث تعيش هذه المجتمعات في قرى متفرقة بين الجبال، مما يعزز روح الاكتفاء الذاتي والدفاع عن الأرض، وتشمل عاداتهم الاحتفال بمواسم الحصاد والزواج بطقوس جماعية تعكس التضامن الاجتماعي، حيث تدور اهتماماتهم حول الزراعة إلى جانب الحفاظ على الأمن المحلي. ومن جهة اخرى تعتمد هذه المجتمعات على القوانين العرفية التي تحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات، مع تركيز على الشرف والانتماء القبلي. أما المجتمعات الساحلية فتتميز بانفتاحها النسبي بسبب التفاعل التاريخي مع البحر والتجارة الخارجية، حيث يعكس سلوكها مرونة وتكيفاً مع الحياة البحرية والحياة الحضرية، كما تتميز ببعض الإرث التاريخي من التقاليد. مثلا، في سقطرى تظهر تقاليد فريدة كالشعر باللغة السقطرية والرقصات المرتبطة بالطبيعة. بينما تحتفظ المهرة بهوية ثقافية متأثرة بالجوار العماني ذات طابع عملي منفتح نسبياً، مع ميل للتعاون مع الخارج لتحسين الأوضاع المعيشية.


إن التنوع المجتمعي في جنوب اليمن، بكل ما يحمله من سلوكيات وعادات واهتمامات، يشكل تحدياً وفرصة في آن واحد. إدارة هذا التنوع ضمن مشروع وطني متكامل لبناء دولة تتطلب فهماً عميقاً لهذه الخصوصيات، ورؤية شاملة تستثمر في الروابط التاريخية والاجتماعية لخلق هوية موحدة تحترم التعددية وتعزز الاستقرار.


تنوع المجتمع في جنوب اليمن بما يحمله من اختلافات في السلوكيات، العادات، الاهتمامات، وطرق التفكير بين المجتمعات الصحراوية، الجبلية، والساحلية، يمكن أن يصبح بؤرة للتوتر إذا لم يُدار بعناية. هذا التنوع، الذي يعكس تاريخاً طويلاً من العزلة الجغرافية والاستقلالية القبلية، قد يؤدي إلى تفضيل المصالح المحلية على المصلحة الوطنية العامة. على سبيل المثال، المجتمعات الصحراوية التي تعتمد على القيم القبلية والتجارة، قد تجد صعوبة في الاندماج ضمن هيكل دولة مركزية تفرض قوانين موحدة تتعارض مع أعرافها التقليدية. كذلك، المجتمعات الجبلية بطباعها المحافظة وتركيزها على الشرف والدفاع عن الأرض، قد تقاوم أي محاولة لفرض سلطة خارجية لا تحترم هويتها المحلية. يصف المؤرخ اللبناني أمين الريحاني، الذي زار جنوب الجزيرة العربية في عشرينيات القرن العشرين، عادات القبائل التي أقام بينها، مشيراً إلى أن كل قبيلة تعيش كدولة صغيرة مستقلة، تحمي حدودها وتدير شؤونها بعيداً عن أي سلطة مركزية. هذا التنوع في الهوية يمكن أن يتحول إلى صراع إذا حاولت سلطة مركزية فرض وحدة قسرية دون مراعاة هذه الخصوصيات، مما يولد نزاعات مناطقية أو قبلية تهدد الاستقرار.[4]


على الجانب الآخر، يمكن لهذا التنوع أن يصبح مصدر قوة إذا تمت إدارته بذكاء ضمن مشروع وطني متكامل. المجتمعات الصحراوية، بمهاراتها التجارية وعلاقاتها التاريخية، يمكن أن تسهم في اقتصاد مزدهر يعتمد على التجارة والخبرات المتراكمة. المجتمعات الجبلية، بقدراتها الزراعية وروحها القتالية، يمكن أن تكون عماداً للأمن الغذائي والدفاع الوطني. أما المجتمعات الساحلية، بانفتاحها وخبرتها البحرية وثقافاتها المتنوعة ستكون هوية جامعة للتحضر والمدنية التي قد تجمع مختلف الهويات. لتحقيق ذلك، يجب أن تعتمد الدولة المأمولة على نظام حكم لامركزي يحترم الخصوصيات المحلية، مع توفير منصات للحوار بين هذه المجتمعات لخلق هوية مشتركة.


البريطاني انجرامش الذي عمل في عدن خلال العهد الاستعماري يقول[5] إن القبائل في حضرموت ولحج كانت قادرة على التعاون بشكل مثمر عندما شعرت أن مصالحها محترمة، لكنها تنقلب إلى العداء عندما تُفرض عليها سلطة غريبة. هذا يشير إلى أن النجاح يكمن في التوازن بين الاستقلالية المحلية والوحدة الوطنية.


فشلت الأنظمة السابقة في جنوب اليمن سواء في ظل الحكم الاشتراكي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أو بعد الوحدة مع اليمن الشمالي في إدارة هذا التنوع، مما أدى إلى صراعات داخلية مدمرة. أحداث 13 يناير [6]1986، التي شهدت اقتتالاً دموياً بين قادة الحزب الاشتراكي في عدن تعدّ مثالاً صارخاً لهذا الفشل، الصراع الذي أودى بحياة الآلاف وشرد عشرات الآلاف كان نتيجة مباشرة للمناطقية والتنافس بين قادة من محافظات مختلفة، حيث تحولت الخلافات السياسية إلى حرب أهلية داخلية. النظام الاشتراكي حاول فرض نمط مركزي موحد على شعب متعدد الثقافات، فأهمل الانقسامات المناطقية والقبلية التي تفاقمت بسبب سياسات التمييز في توزيع السلطة والثروة. هذا الإهمال أدى إلى انهيار الثقة بين المجتمعات، وزرع بذور الانقسام التي أثمرت لاحقاً صراعات مستمرة حتى اليوم. ويمكن القول أنّ أحداث 1986 لم تكن مجرد صراع على السلطة، بل كانت تعبيراً عن تراكم التوترات بين المجتمعات الجنوبية التي شعرت أن هويتها ومصالحها مهددة، هذا الفشل في احتواء التنوع أدى إلى انهيار النظام الجنوبي الاشتراكي وترك ندوباً اجتماعية وسياسية لا تزال قائمة.


إن تحليل فشل الأنظمة السابقة يظهر أن فرض الوحدة بالقوة أو تجاهل التنوع المجتمعي يؤدي حتماً إلى الاضطراب. على العكس، يمكن لمشروع وطني متكامل أن يستلهم من هذه الدروس من خلال تبني سياسات تشاركية تضمن تمثيل كل المكونات الاجتماعية في صنع القرار. وفي شهادة أخرى، يقول أمين الريحاني أن "القبائل التي زرتها كانت تتفاوض وتتعاون في المناسبات الكبرى مثل الأسواق أو الدفاع عن الأرض المشتركة.[7] هذا يعني أن التعاون ممكن إذا تم بناء الثقة وتوفير قنوات للحوار. ويمكن القول هنا، أنّ التنوع المجتمعي في جنوب اليمن هو سيف ذو حدين إما أن يكون مصدراً للقلق والصراع كما حدث في الماضي أو قوة دافعة لبناء دولة مستقرة ومزدهرة إذا أُحسنت إدارته.


لو أخذنا نماذج لاستخلاص الدروس تُعد ماليزيا واحدة من أبرز النماذج العالمية في إدارة التنوع المجتمعي حيث يتكون المجتمع الماليزي من ثلاث مجموعات عرقية رئيسية هي الملايو، الصينيون، والهنود، إلى جانب أقليات أخرى[8]، مع تعدد ديني يشمل الإسلام والبوذية والهندوسية والمسيحية. شهدت ماليزيا توترات عرقية في ستينيات القرن العشرين أبرزها أحداث الشغب في 13 مايو 1969 بين الملايو والصينيين نتيجة التفاوتات الاقتصادية والسياسية.[9] لكن النظام الماليزي نجح في تحويل التنوع من مصدر توتر إلى قوة دافعة من خلال سياسات مدروسة عقب تلك الاحداث. في عام 1971م أُطلقت السياسة الاقتصادية الجديدة في ماليزيا لمعالجة الفقر وإعادة توزيع الثروة بين المجموعات العرقية.[10] وشملت الإصلاحات في ماليزيا التمثيل السياسي العادل الذي أفرز تشكيل الجبهة الوطنية عبر تحالف ضم أحزاباً تمثل مختلف الأعراق. ونتيجة لهذا شهدت ماليزيا في العقود الاخيرة استقرارا سياسيا ونموا اقتصاديا ملحوظا حيث، أصبحت ماليزيا واحدة من أقوى الاقتصادات الآسيوية.


نيجيريا أكبر دولة أفريقية من حيث السكان، تضم أكثر من 250 مجموعة عرقية، أبرزها الهوسا-فولاني، اليوروبا والإيغبو، بالإضافة الى تقسيم ديني بين المسلمين والمسيحيين. تاريخياً عانت نيجيريا من صراعات عرقية ودينية، أبرزها الحرب الأهلية او ما تسمى بحرب بيافرا (1967-1970)، التي قتل فيها أكثر من مليون شخص نتيجة محاولة الإيغبو الانفصال. رغم ذلك نجحت نيجيريا نسبياً في إدارة تنوعها عبر نظام فيدرالي يمنح الحكم الذاتي للولايات الـ 36، مما سمح في إدارة هذا التنوع والحفاظ على وحدة البلاد. كما اعتمدت سياسة "التوازن العرقي" في توزيع المناصب الحكومية والموارد. وبهذا تكون نيجيريا نجحت في تحويل تنوعها إلى مصدر قوة اقتصادية بفضل مواردها النفطية وتنوعها الثقافي وهذا النجاح يظهر في استقرارها السياسي بعد 1999، ويعد الاقتصاد النيجيري من أقوى الاقتصادات الإفريقية اليوم.[11]


على المستوى العالمي تُعد سويسرا مثالاً بارزاً لإدارة التنوع فهي تضم أربع مجموعات لغوية رئيسية (الألمانية، الفرنسية، الإيطالية، والرومانسية)، بالإضافة الى تقسيم ديني بين الكاثوليك والبروتستانت. نجحت سويسرا في تحقيق الاستقرار عبر نظام كونفدرالي يمنح الكانتونات (المقاطعات) استقلالية واسعة في التعليم، الضرائب، والثقافة، مع حكومة مركزية تعتمد التوافق بين الأحزاب. لذا فإنّ التنوع اللغوي والثقافي لم يكن عائقاً، بل أساساً لنظام ديمقراطي متين. هذا النموذج يُظهر كيف يمكن للحكم اللامركزي أن يحول التنوع إلى ركيزة استقرار.[12]


على النقيض، تُعد يوغوسلافيا (سابقاً) مثالاً صارخاً لفشل إدارة التنوع ضمت الدولة ست جمهوريات (صربيا، كرواتيا، البوسنة، سلوفينيا، الجبل الأسود، ومقدونيا) ومجموعات عرقية متعددة مثل الصرب، الكروات، والبوشناق، مع تنوع ديني بين الأرثوذكس، الكاثوليك، والمسلمين. خلال الحكم الشيوعي في عهد تيتو تم قمع التوترات العرقية بقوة السلطة المركزية. لكن بعد وفاته في 1980م تفاقمت الانقسامات بسبب غياب رؤية موحدة وسياسات تمييزية وفي تسعينيات القرن العشرين انهارت يوغوسلافيا في حروب دموية (1991-1995) أودت بحياة عشرات الآلاف خاصة في البوسنة. إنّ فشل النظام في يوغسلافيا في احترام التنوع وفرض هوية موحدة قسرياً أدى إلى تفكك الدولة وهذا النموذج يُظهر مخاطر الإدارة المركزية القمعية لمجتمع متنوع.[13]


السودان، قبل انفصال جنوبه في 2011 عانى من فشل في إدارة تنوعه العرقي والديني حيث يضم السودان مئات القبائل، مع تقسيم بين المسلمين في الشمال والمسيحيين والأنيميين في الجنوب. حاولت الحكومات المتعاقبة فرض الهوية العربية الإسلامية على الجنوب، مما أدى إلى حربين أهليتين (1955-1972 و1983-2005) قتل فيهما مئات الآلاف حيث انتهى الأمر بانفصال جنوب السودان بعد استفتاء. وهذه كانت نتيجة حتمية لسياسات التهميش والتمييز ضد الجنوب مما جعل الوحدة مستحيلة، وتحول التنوع إلى سبب للتقسيم. هذا الفشل يُبرز أهمية العدالة في توزيع الموارد والسلطة كشرط لإدارة التنوع.[14]


كما إنّ النموذج اليمني الحالي في الوحدة بين الشمال والجنوب، مثال آخر للفشل. ساهمت السياسات التمييزية في السياسة والجيش والاقتصاد  تجاه سكان الجنوب، فضلا عن غياب التوزيع العادل للثروة والسلطة إلى اندلاع حرب 1994، ولاحقا تصاعدت التوترات مع اندلاع الحراك الجنوبي السلمي المطالب باستعادة الدولة الجنوبية السابقة التي كانت قائمة حتى العام 1990، ودخول البلد في حرب أهلية واسعة ذات طابع إقليمي.[15]


من النماذج الناجحة (ماليزيا، نيجيريا، سويسرا)، نرى أن اللامركزية، توزيع الموارد بشكل عادل، واحترام الخصوصيات الثقافية هم مفاتيح النجاح. أما النماذج الفاشلة (يوغوسلافيا، السودان، اليمن) فتُظهر أن القمع، التمييز، وفرض الهوية الموحدة قسرياً يؤدي إلى الانهيار.


بالنسبة لجنوب اليمن يمكن لمشروع وطني أن يستلهم من ماليزيا في بناء تحالفات سياسية تمثل المجتمعات الصحراوية والجبلية والساحلية، ومن سويسرا في اعتماد نظام لامركزي يحترم التنوع، مع تجنب أخطاء السودان واليمن بالتركيز على العدالة الاجتماعية لمنع الانقسامات، إدارة التنوع المجتمعي ليست مستحيلة لكنها تتطلب رؤية استراتيجية تجمع بين التعددية والوحدة.


لنعود لنركز على عوامل ناجحة تسهم في إدارة التنوع في جنوب اليمن، أحد أهم العوامل لتحويل التنوع إلى قوة هو ضمان الشراكة الوطنية والعدالة في توزيع الثروة والفرص الاقتصادية والسياسية بين المجتمعات الصحراوية، الجبلية والساحلية. التفاوتات الاقتصادية كما أظهرت تجربة ماليزيا، يمكن أن تؤدي إلى توترات إذا لم تُعالج، الاعتراف بالخصوصيات الثقافية واللغوية والاجتماعية لكل مجتمع يعزز الثقة بين المكونات. على سبيل المثال، تعزيز اللغة المهرية والسقطرية في التعليم المحلي، إلى جانب الحفاظ على التقاليد القبلية كجزء من الهوية الوطنية، يمكن أن يقلل من الشعور بالتهميش. كما ان التعليم يلعب دوراً حاسماً في بناء هوية وطنية جامعة دون إلغاء التنوع عبر انتاج برامج تعليمية تُبرز تاريخ جنوب اليمن المشترك، من الحضارات القديمة إلى النضال ضد الاستعمار، يمكن لهذا أن يرسخ قيماً مشتركة بين الشباب من مختلف المناطق، كما ان إشراك المجتمعات في صنع القرار عبر منصات حوار دائمة يضمن أن تُسمع أصوات الجميع، كما في تجربة نيجيريا مع المجالس المحلية، ايضا الاستثمار في مشاريع تنموية تلبي احتياجات كل منطقة يعزز التكامل.


ان اعتماد هياكل مؤسسية تشمل اعتماد نظام لامركزي يمنح المناطق سلطات واسعة في إدارة شؤونها المحلية مع وجود حكومة مركزية مسؤولة عن الدفاع والسياسة الخارجية. ففي جنوب اليمن يمكن تقسيم الدولة إلى وحدات إدارية تعكس التنوع الجغرافي والاجتماعي، مثل إنشاء ولايات متعددة وإنشاء مجلس دائم يضم ممثلين عن المجتمعات المختلفة لمناقشة القضايا الوطنية وتسوية النزاعات مشابه لـ "مجلس الأمة" في ماليزيا ونظام قضائي يجمع بين القوانين الوطنية والأعراف القبلية، وهيئة مستقلة تراقب توزيع الإيرادات، وقنوات إعلامية ومراكز ثقافية تُروج للتنوع كجزء من الهوية الجنوبية، فان النتائج المتوقعة لذلك ستشمل استقراراً سياسياً واجتماعياً، نمواً اقتصادياً مستداماً، هوية وطنية قوية مع احترام التعددية، تجنب الصراعات الداخلية، وجاذبية دولية للاستثمارات والتعاون. إن العوامل الناجحة مدعومة بهياكل مؤسسية لامركزية وتشاركية يمكن أن تحوّل التنوع إلى مصدر قوة حقيقي، مما يشكل أساساً متيناً لدولة حديثة تحترم ماضيها وتستثمر في مستقبلها. إلى جانب ذلك،  يجب الاعتراف بالآخر، باعتباره عامل مهم واستراتيجي. وهذا الاعتراف ليس مجرد موقف أخلاقي، بل ضرورة عملية لضمان الاستقرار والتكامل في جنوب اليمن.


إنّ خلق التوازن هو الخطوة التالية، والذي بدوره يتطلب توزيعاً عادلاً للسلطة والموارد بين المجتمعات المختلفة، بدون توازن قد تتحول الدعوة إلى الوحدة الجنوبية إلى هيمنة مجموعة واحدة، مما يعيد إنتاج الصراعات السابقة.


وباعتبار المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة سياسية رئيسية في جنوب اليمن، فإنه بحاجة إلى تطوير هياكله الداخلية لتكون أكثر قدرة على فهم التنوع وإدارته. حالياً يُنظر إليه على أنه يمثل بشكل أكبر المناطق الغربية، مما يثير مخاوف في حضرموت والمهرة من الهيمنة. ولفهم التنوع داخل الجنوب ولحسن ادارته على المجلس الانتقالي تعزيز قيمة العقل في هياكله، كما يمكن للمجلس توسيع التمثيل السياسي بإشراك ممثلين من حضرموت، والمهرة وباقي المناطق في هيئاته القيادية بنسب عادلة يكون لها تأثير حقيقي على قراراته، وأن يبني رؤية استراتيجية شاملة مستلهمة من سويسرا، وأن يعمل على تدريب كوادره على إدارة التعددية الثقافية.


لإدارة التنوع عملياً يجب البحث عن آلية للتوافق بين محافظات الجنوب، تعتمد سياسات لامركزية، ومبادرات مشتركة لتعزيز الثقة تتجاوز التحديات. والتحديات تشمل العقلية المناطقية، وضعف الثقة، والتدخلات الخارجية. ومن أجل التغلب عليها يتطلب قيادات عقلانية والاعتراف بالآخر وخلق التوازن وتجاوز المصالح الضيقة.


إنّ التنوع المجتمعي في جنوب اليمن يحمل إمكانيات هائلة للقوة الاقتصادية والاجتماعية، لكنه يظل تهديداً إذا لم يُدار بحكمة، كما يتضح من تاريخه الصراعي. فتجارب الأنظمة السابقة تُظهر أن القمع أو التهميش يؤدي إلى انهيار الوحدة، بينما الاعتراف والمشاركة يعززان الاستقرار. فالنجاح في ماليزيا وسويسرا يعتمد على اللامركزية والعدالة، بينما الفشل في يوغوسلافيا والسودان واليمن يحذر من مخاطر الهيمنة المركزية. لذا فإنّ القوى المحلية بحاجة إلى عقلانية لتجاوز العصبيات المناطقية وبناء هوية جنوبية جامعة.


وهبي النقيب
كاتب وباحث مهتم بقضايا المجتمعات المحلية في اليمن

[1] الحسن بن أحمد الهمداني، كتاب "صفة جزيرة العرب"​
[2] دراسة | الواقع الجنوبي بين الاختلاف والتوافق.. رؤية في التاريخ والسياسة والمجتمع، مركز سوث24 للأخبار والدراسات
[4] أمين الريحاني، كتاب "ملوك العرب: رحلة في البلاد العربية"​
[5] دبليو إتش إنجرامس، كتاب "حضرموت 1934-1935م"​
[6] 13 يناير 1986 | خيُوط
[7] أمين الريحاني، كتاب "ملوك العرب: رحلة في البلاد العربية"​
[8] ملامح من التعايش العرقي في ماليزيا:دروس وعبر - الرواية الأولى
[9] حادثة 13 مايو - ويكيبيديا
[10] القيادة والتنمية السياسية دراسة حالة النموذج الماليزي : مهاتير محمد - المركز الديمقراطي العربي
[12] النظام السياسي السويسري - SWI swissinfo.ch
[13] تفكك يوغوسلافيا - ويكيبيديا
[14] جمال الشريف، كتاب "الصراع على السودان"​
[15] باسم «الوحدة اليمنية»: تجييش الشمال ضد الجنوب، فريدة أحمد، مركز سوث24 للأخبار والدراسات
شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا