23-03-2020 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
تختلف أسباب وأبعاد أزمات الصراع المحلي من بلد إلى آخر في العالم، لكن في وقتنا الحاضر يكاد اختصارها في بُعدين، البعد القومي، كما هو حاصل، مثلا، في أزمة أكراد منطقة الشرق الأوسط وأزمة جزيرة القرم وولايات الشرق الأوكراني. البعد الطائف، كما هو حاصل، مثلا، في أزمة جنوب السودان وأزمة البوسنة والهرسك وأزمة العراق.
إن تحديد أبعاد كل أزمة صراع محلي في كل بلد على حده، يساهم بشكل فعّال في بلورة الرؤى والحلول السياسية التي دفع بها المجتمع الدولي لانتشال البلد من أتون الحروب والاقتتال وما قد يترتب عليها من انتهاك لحقوق الانسان ومن تداعيات أخرى تلقي بظلالها لتهدد الأمن والسلام الدوليين. لذا فتحديد بُعد أي أزمة، طائفي كان أو قومي، مهم جدا لاستشراف مستقبل الحل السياسي المطروح ومدى إمكانية إحلال السلم الاجتماعي بين الأطراف المتصارعة.
إذ أنه من الضروري جدا الأخذ بعين الاعتبار "إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة" في رؤية المجتمع الدولي لأي حل سياسي ممكن لأي أزمة صراع محلي محتدم، لكون إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة يعتبر من أهم عوامل إقامة كيان دولة آمنة ومستقرة كعضو في المجتمع الدولي على كامل جغرافيا بلد الصراع المحلي. كما تأتي عملية إقامة كيانين منفصلين عن بعض كعضوين دوليين على جغرافيا بلد الصراع المحلي مسببة بمثول العامل المهدد للسلم الاجتماعي في الأفق البعيد للحل السياسي، في كيان الدولة الواحدة، خصوصا وهو يلقي بظلاله على ما يهدد الأمن والسلم الدوليين.
لهذا بإمكاننا اعتبار أن "إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة" هو الركيزة الهامة لرؤية أي حل سياسي يدعمه المجتمع الدولي لأي أزمة صراع محلي لبلد ما.
إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة يعتبر من أهم عوامل إقامة كيان دولة آمنة ومستقرة كعضو في المجتمع الدولي على كامل جغرافيا بلد الصراع المحلي
لقد ولّدَ البُعد الطائفي لأزمة جنوب السودان ديمومة العامل المهدد للسلم الاجتماعي، مما أقنع المجتمع الدولي بانتفاء معالجة الأزمة في رؤية حل سياسي في إطار الدولة الواحدة، فأتت رؤية الحل السياسي الدولي بخيار فصل جنوب السودان وانشاء كيان دولة جديدة مستقلة عن شماله بحدود سياسية جديدة، رُسمت على أساس طائفي وعلى قاعدة إنهاء العامل المهدد للسلم الاجتماعي.
كان للأزمة العراقية خصوصيتها، فقد ولّد بُعدها الطائفي بعدا آخر قوميا مختص بأكراد العراق في ما بات يعرف بإقليم كردستان، فبسبب تناسل الأزمة الطائفية العراقية إلى أزمات مذاهب ونحل وملل عديدة وتداخل جغرافيتها، إضافة لأزمة القومية الكردية، كان خيار الدولة الفدرالية هو الحل السياسي الصائب والمعقول.
ولّدَ البُعد الطائفي لأزمة جنوب السودان ديمومة العامل المهدد للسلم الاجتماعي، مما أقنع المجتمع الدولي بانتفاء معالجة الأزمة في رؤية حل سياسي في إطار الدولة الواحدة
لجريان الأزمة اليمنية حتى لحظتنا الراهنة رأيها المخالف لآلية الحل السياسي الذي اعتمدت الأمم المتحدة على تنفيذه عسكريا على أرض الواقع "حل الدولة الفدرالية"، ومازالت الأزمة حتى هذه اللحظة تُخبرنا بأن ثمة انفصام بين: الحل السياسي النظري والواقع العسكري العملي، ناتج عن وجود خطأ تشخيصي للأزمة، أُعتِمد البُعد الطائفي كقاعدة حل سياسي أقر خيار الدولة الفدرالية، مهملا أن ثمة بعدا سياسيا قابع في قعر الأزمة اليمنية يتمثل جنوبا في وجود القضية الجنوبية ببعدها السياسي، قضية لديها إرث ثقافي من إرادة شعبية ثورية ضد الشمال اليمني على خلفية فشل الوحدة السياسية، التي على إثرها أتى الاجتياح الشمالي للجنوب عسكريا في حرب صيف العام 1994م.
حيث يرى الجنوبيون أن الوحدة فشلت وفرضت بالقوة عندما يسترشدون بتوصيف قضيتهم الجنوبية. في الأزمة اليمنية الاخيرة أتى البُعد الطائفي المنبجس كالمارد من شمال الشمال ليسقط صنعاء أولا ومن ثم اتجه لغزو الجنوب مرة أخرى، ليضيف لجراح الجنوب السياسية جراحا أخرى ذات بعد طائفي أيقظت، من التاريخ، بُعدين للازمة، عقائدي وسياسي، أُثيرا جنوبا معا واختلطا فدحرا تمدد الشمال الطائفي خارج أسوار الجغرافيا الجنوبية بحدودها السياسية سابقا، لينطبع البُعد الطائفي في الذاكرة الجمعية الجنوبية مشكلا تراصفا فوقيا على البعد السياسي للأزمة اليمنية من منظور جنوبي.
في الأزمة اليمنية الاخيرة أتى البُعد الطائفي المنبجس كالمارد من شمال الشمال ليسقط صنعاء أولا ومن ثم اتجه لغزو الجنوب مرة أخرى، ليضيف لجراح الجنوب السياسية جراحا أخرى ذات بعد طائفي
بينما كان للأزمة اليمنية متغيران سياسيان منعا بُعدها الطائفي من الحضور في الذاكرة الجمعية الشمالية. حضر المتغير الأول شمالا منذ بداية الأزمة في صورة تحالف سياسي بين الحوثيين وقيادة حزب المؤتمر - ممثل النظام السابق -. بينما حضر المتغير الثاني جنوبا في نهاية الأزمة في صورة انتصار وإفلات جنوبي من قبضة السيطرة الشمالية.
حضور المتغير الأول شمالا
منذ بداية الأزمة اليمنية لم تستحضر الذاكرة الجمعية الشمالية "البُعد الطائفي" لأزمة انقلاب جماعة الحوثيين على الدولة اليمنية، بسبب تلبيس التحالف السياسي بين جماعة الحوثيين وحزب المؤتمر "ممثل النظام السابق بزعامة الرئيس صالح"، وإخفاءه على عامة الناس. زحف البُعد الطائفي إلى موقع السيطرة والصدارة وهو يحاول أن يُضفي على الأزمة بعدا سياسيا. لقد ظلت الخطابات السياسية للرئيس الراحل صالح في أكثر من مناسبة تضلل المجتمع المحلي والدولي بتأكيده على أن الأزمة هي أزمة سياسية وليست طائفية (بإمكانكم العودة لأول خطاب له وجهه إلى أول قمة عربية عقدت في مصر بعد تدخل التحالف العربي عسكريا في الأزمة اليمنية وإلى الخطابات التي تلتها). في نفس وقت تأكيد الرئيس عبدربه منصور هادي في أكثر مناسبة على أن الأزمة طائفية وليست سياسية.
قبل الانتقال إلى الحديث عن المتغير الثاني جنوبا لابد من الإشارة إلى حضور فترة زمنية برزخية قصيرة، بعد مقتل الرئيس صالح عندما بدأت جماعة الحوثيين ممارسة شعائرها الدينية الشيعية بشكل علني واضح، استحضرت خلالها الذاكرة الجمعية الشمالية البعد الطائفي للازمة ثم ما لبثت أن عادت لاستحضار البعد السياسي عندما أدركت حضور المتغير الثاني جنوبا التالي ذكره.
المتغير الثاني جنوبا
في منتصف يوليو من العام 2015 حرر الجنوبيون العاصمة عدن ومن ثم اتجهوا غربا مواصلين دحر جماعة الحوثي إلى الشمال على محورين، جبلي باتجاه الضالع ويافع وساحلي باتجاه الحديدة. على صعيد الجزء الشرقي من الجغرافيا الجنوبية وتحديدا في ساحل حضرموت في أبريل 2016 تمكنت قوات النخبة الحضرمية من دحر تنظيم القاعدة الذي كان يسيطر على مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وفي محافظة شبوة كذلك تمكنت مجاميع المقاومة الجنوبية من تحرير المدن الجنوبية لمحافظة شبوة من سيطرة تنظيم القاعدة، كما حررت العاصمة عتق من سيطرة جماعة الحوثيين وتواصل دحرها من المديريات الشمالية الواقعة على الحدود مع محافظتي مأرب والبيضاء الشماليتين.
لقد أتت الانتصارات الجنوبية وخصوصا انتصارات شبوة - بعد مقتل الرئيس صالح شمالا في أواخر 2017 وبروز سيطرة جماعة الحوثيين الطائفية على السلطة شمالا - لتُعيد الاستحضار الشمالي المؤقت لبُعد الازمة الطائفي إلى كينونته السابقة باستدعاء واستحضار بعد الأزمة السياسي في صورة الجنوب الخارج عن السيطرة الشمالية. فما لبث أن عاد البُعد السياسي إلى الذاكرة الجمعية الشمالية مرة أخرى!
الانتصارات الجنوبية وخصوصا انتصارات شبوة - بعد مقتل الرئيس صالح شمالا في أواخر 2017 وبروز سيطرة جماعة الحوثيين الطائفية على السلطة شمالا - أعادت الاستحضار الشمالي المؤقت لبُعد الازمة الطائفي
مما يدلل خفوت النفس الطائفي شمالا هو مراوحة جبهات الصراع، الشمالي – الشمالي، مكانها خلال فترة طويلة من الأزمة في كل من جبهات مأرب والجوف المتخامتين لصنعاء. قد يبدو هذا ليس دليلا كافيا يثبت صحة هذا الزعم، لكن ما يعزز هذا هو مستجد الأحداث العسكرية جنوبا بين قوات الحكومة اليمنية وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي في كل من شبوة وأبين وعلى مشارف مدينة عدن، حيث رأينا زحف سريع وعنيف وشرس للقوات المرابطة في محافظة مأرب المجاورة لصنعاء وتفصلها عنها بضع كيلومترات فقط. لقد استدارت بسرعة في ليلة وضحاها هذه القوات وأدارت ظهرها لسيطرة الحوثيين وراحت جنوبا لمحاربة النخبة الشبوانية والمقاومة الجنوبية وقوات الانتقالي الجنوبي، فكشفت عن امتلاكها عنفوان حربي استخدمته جنوبا ولم تستخدمه شمالا ضد الحوثي كل هذه المدة.
باستحضار الذاكرة الجمعية الشمالية على التوالي لبُعد الأزمة السياسي في ظل حضور المتغيرين السابق ذكرهما. أخيرا حضر المتغير الخارجي في صورة "اتفاق الرياض" السياسي بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي على خلفية الأزمة المندلعة بينهما في العاصمة المؤقتة عدن مؤخرا، المتغير التالي ذكره.
المتغير الثالث خارجيا
مؤخرا رعى المجتمع الإقليمي والدولي ممثلا بالمملكة العربية السعودية خطوة توقيع اتفاق سياسي بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي في العاصمة السعودية الرياض، يهدف لتعزيز الصف اليمني في التصدي للسيطرة الحوثية والتوجه لصنعاء لإنهاء الانقلاب الحوثي، إلا أن الجانب التنفيذي للاتفاق يشهد تعثرا حتى هذه اللحظة. وكل طرف يوجه إصبع اتهامه للآخر بالعرقلة والتنصل. يأتي هذا التلكؤ في تنفيذ بنود اتفاق الرياض ليؤكد الحضور الطاغي للبُعد السياسي للأزمة اليمنية على حساب انتفاء البُعد الطائفي من الذاكرة الجمعية الشمالية تماما. فمثلما دلل الاتجاه الشمالي القوي للقتال جنوبا ذلك، بدون أدنى شك أن محاولة عرقلة "اتفاق الرياض" تؤكد ذلك أيضا. كان حضور المتغير الثالث خارجيا بمثابة الإدراك المتأخر لبُعد الأزمة اليمنية الحقيقي، بُعدها السياسي المتدثر بالعباءة الفضفاضة للبُعد الطائفي المنفي شمالا والمثبت جنوبا فقط.
تمكين الحوثيين من السيطرة على محافظة مأرب وتنفيذ خطة التوغل العسكري الموحد جنوبا، ستسقط شرعية الحكومة اليمنية، لكنها ستنفّذ خطة السقوط المحقق لاتفاق الرياض بسقوط شرعية الطرف الحكومي فيه وبسحب تمثيله القانوني لأي اتفاق موقع قد يمنح الجنوب استحقاقا سياسيا
فاتفاق الرياض منح هذا البُعد طابع الاعتراف الرسمي بوجوده بعد أن منحته نوايا الشمال اليمني المبيتة للجنوب طابع الاعتراف الضمني بإخفائه القسري في ثنايا أدائه العسكري الملتبس والمعقد والذي أشكل على التحالف العربي والمجتمع الدولي فك التباسه وعقدته. فكل ما حدث قبل اتفاق الرياض وبعده جعل البُعد السياسي المتمثل في الصراع "الشمالي-الجنوبي" يطفو على سطح الأزمة اليمنية، وبالتالي فإن عملية عرقلة وإرباك أمر كهذا تتمثل في استمرار الشمال في إخفاءه القسري لبُعد الأزمة السياسي بواسطة السعي تارة لإفشال اتفاق الرياض وإلغاء أهدافه ومضامينه وتارة أخرى في تمكين الحوثيين من السيطرة على محافظة الجوف المحاذية للسعودية للضغط على السعودية وإجبارها على السير والسعي لتمكين الحكومة من تنفيذ أجندات السيطرة الشمالية جنوبا، وتارة أخيرة ستكون في تمكين الحوثيين من السيطرة على محافظة مأرب وتنفيذ خطة التوغل العسكري الموحد جنوبا، وهذه الخطوة الأخيرة رغم أنها ستسقط شرعية الحكومة اليمنية إلا أنها ستنفذ خطة السقوط المحقق لاتفاق الرياض بسقوط شرعية الطرف الحكومي فيه وبسحب تمثيله القانوني لأي اتفاق موقع قد يمنح الجنوب استحقاقا سياسيا، شريطة أن يتزامن السقوط الحكومي بتنفيذ عملية واسعة لإسقاط الجنوب في يد الجماعة الحوثية مرة أخرى.
ثمة سلم اجتماعي شمالي – شمالي، يتشكل بحدوده السياسية، وأن ثمة سلم اجتماعي جنوبي – جنوبي، تشكله ذات الحدود السياسية، يتشكلان في سياق تصادمي في صورة من اللاسلم اجتماعي شمالي – جنوبي، يستشف على المدى المنظور والبعيد
هذا بدوره يثبت أفول نجم البُعد الطائفي لدى قوى الشمال واستحضارها بشكل موحّد للبُعد السياسي الموجه جنوبا، في مقابل استحضار الجنوب لبعدي الأزمة الطائفي والسياسي بشكل موحّد ضد التوجه العسكري الشمالي ناحية الجنوب، وهذا بحد ذاته أثبت:
أولا: خطيئة الحل السياسي المعتمد نظام الدولة الفدرالية استنادا على تقسيم ذي بعد طائفي.
ثانيا: بالعودة لاعتماد رؤى الحلول الدولية لأزمات الصراع المحلي في بلدان العالم، على عملية إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة، فإن انتفاء البُعد الطائفي لدى الشمال أثبت أنه يعيش في سلم اجتماعي مع نفسه وبين طائفتيه الشيعية والسنية عبّر عنه انقضاضه الموحّد على الجنوب، وعلى طريقة الضد بالضد يُعرفُ، تأتي حالة السلم الاجتماعي التي يعيشها الجنوب مع نفسه بصده الموحد للانقضاض الشمالي الموحد، لتعبّر أن:
ثمة سلم اجتماعي شمالي – شمالي، يتشكل بحدوده السياسية، وأن ثمة سلم اجتماعي جنوبي – جنوبي، تشكله ذات الحدود السياسية. يتشكلان في سياق تصادمي في صورة من اللاسلم اجتماعي شمالي – جنوبي، يستشف على المدى المنظور والبعيد.
وجود ما يهدد السلم الاجتماعي بصورة مستدامة في أفق الازمة اليمنية بين الشمال والجنوب يحتّم على المجتمع الدولي أخذه بعين الاعتبار، خصوصا وأن مثل هذا التهديد يهدد الأمن والسلم الدوليين بسبب خصوصية الموقع الجغرافي للجنوب وحتمية تأثير الصراع المحلي فيه على أمن المنطقة والعالم أجمع.
- بدر قاسم محمد: كاتب لعدد من الصحف المحلية، باحث سياسي من جنوب اليمن
- هذه المادة خاصة بـ مركز سوث24 للأخبار والدراسات