نائب الأمين العام لـ«حزب الله» نعيم قاسم ورئيس كتلته النيابية محمد رعد خلال تشييع إبراهيم عقيل (أ.ف.ب)
25-09-2024 الساعة 12 مساءً بتوقيت عدن
"هذا النوع من الحروب السيبرانية الجديدة كشفت ضعف حزب الله استخباراتياً وأمنياً، فضلاً عن تصاعد حدة القلق في كيفية التعامل مع هذا النوع من التهديدات التقنية غير المسبوقة."
مركز سوث24 | أورنيلا سكر
بحسب ما كشفته معظم وسائل الإعلام المحلية والأجنبية إلى جانب التحقيقات في لبنان، فإن هجومي أجهزة الإتصال في 17-18 أيلول الجاري، التي قامت بها إسرائيل عبر ما يعرف بهجمات البيجر السيبرانية[1]، تعد فصلاً جديداً من الحروب الجديدة التي كشفت ضعف حزب الله استخباراتياً وأمنياً، فضلاً عن تصاعد حدة القلق في كيفية التعامل مع هذا النوع من التهديدات التقنية غير المسبوقة[2]، وما أعقبها من هجمات جوية أودت بحياة نخبة من قيادة حزب الله بينهم قائد عمليات الحزب ابراهيم عقيل[3]. إذ يبدو أن الهجوم السيبراني الأخير، يعد جزءاً من استراتيجية شاملة تهدف إلى إضعاف الحزب وإحداث خلل في بنيته التحتية العسكرية والشعبية، دون اللجوء إلى مواجهة عسكرية مباشرة شاملة، سواء برية أو إقليمية. وتتميز الهجمات السيبرانية بقدرتها على التخفّي وتحقيق سلامة الهدف وخرق البيئة المستهدفة بدقة وسهولة ذكية وآمنة، وإحداث أضرار كبيرة دون الحاجة إلى تدخل عسكري أو إلحاق خسائر معنوية ومادية لإسرائيل[4].
حروب جديدة
أمام هذه التهديدات التكنولوجية الجديدة، تواجه الحروب الحديثة تحولاً نوعياً في الأدوات المستخدمة، حيث إنّ الهجمات السيبرانية أصبحت جزءاً من استراتيجيات الصراع، مما يدفع الفاعلين الإقليميين إلى تطوير استراتيجيتهم الدفاعية، وإعادة تقييمها أمنياً وعسكرياً.
لقد تجاوزت الاستهدافات الإسرائيلية قواعد الاشتباك مع حزب الله، وفق سلاح سيبراني متقدم وغير مسبوق في تحقيق الهدف وخرق بيئة حزب الله، وإحداث تأثير نفسي واستراتيجي تكتيكي كبير، دون أن يتطلب من إسرائيل الدخول في حرب عسكرية برية مباشرة، أو تكبّد خسائر مادية ومعنوية. كما أنّ ردود الأفعال الإعلامية[5]، ركزت على توجيه الأحداث والمبالغة في مدح تفوق إسرائيل العسكري والتقني دون مناقشة الخيارات الاستراتيجية الدفاعية التي يملكها الحزب، للرد على هذا الاعتداء، ودون تسليط الضوء على الأبعاد الأمنية والعسكرية لهذه الهجمات وتأثيرها الاستراتيجي عالمياً، ومحاسبة وإدانة الإرهاب السيبراني، وخطره على الأمن النفسي والاجتماعي والعسكري والمعلوماتي[6]، وما يعتريه من دلالات قدرة تخريبية تهدد سلامة الأمن العالمي، فيما لو وصلت هذه التقنيات إلى أيادي الجماعات الإرهابية.
سبق واستخدمت هذه التقنيات السيبرانية في أحداث مشابهة، منها الهجوم على المنشآت الإيرانية (نطنز)، والتي عرفت بفيروسات (استاكس نت)، وهجمات أوكرانيا (نوت بيتيا)، والولايات المتحدة (سولارويند)، وهو ما يتطلب فهماً أوسع، لمدى استجابة حزب الله وقدراته واستراتيجيته الدفاعية المضادة، لأثر مثل هذه الهجمات المحتملة على مستوى العمليات المستقبلية والصراع الإقليمي المحتمل.
لا شك أنّ تأثير الهجمات السيبرانية على حزب الله، كان لها تداعيات نفسية وسياسية وأمنية ومعلوماتية، تدلل على مخاطر شديدة بأنه مخترق أمنياّ بشكل دقيق جداً، وغير قادر على الرد بالمثل بشكل متوازٍ يخلق عنصراً من القلق والخوف. فضلاً عن دقة التحكم في الميدان بالشكل الذي عبرت عنه إسرائيل، وذلك بفعل تمكنها من تحقيق الهدف بسرعة وتكرار عملياتها بشكل متتالٍ، الأمر الذي عزّز من تفوقها على حساب حزب الله. وعلى الرغم من دخول الصراع مرحلة خطيرة مع قصف إسرائيل العشوائي للمدنيين اللبنانيين وسقوط آلاف الضحايا، فضلا عن استهداف مقرات حزب الله في أكثر من منطقة لبنانية، وما تلاه من رد الحزب بقصف أهداف إسرائيلية جديدة في مدن خارج قواعد الاشتباك المعهودة، إلا أنّ ضربات حزب الله لم تحقق أي تهديد أو استهداف محكم في العمق الإسرائيلي، بدليل أن إسرائيل استطاعت خرق وضرب بنيته وتعطيل قنوات الاتصال في أجهزته العسكرية وإفشال مخططاته بشكل متكرر وسهل، الأمر الذي يشي بتفوق إمكانية إسرائيل في هجمات البيجر عبر مرحلتين (أ-ب). وهذا الأمر يُفسّر بعدين مهمين:
أ. البعد الامني: أنّ هذه الهجمات والاستهدافات، كشفت بعض العناصر الحساسة داخل الحزب سواء من حيث الأفراد أو العمليات، ما يقلّص من قدرة الحزب الاستخباراتية والتأثير في عملياته السرية، وتقليل الثقة الداخلية في أنظمته الأمنية، بالرغم من محاولة الإعلام "المقاوم" التقليل من أهمية هذه الهجمات.
ب. البعد العسكري: هذه الضربة، تسببت في إعاقة عمليات الاتصال والتنسيق بين مختلف الوحدات القتالية والتأثير على الخطط العسكرية والتكتيكية.
كيف سيستجيب حزب الله؟
من المتوقع أن يعزز حزب الله قدراته في مجال الأمن السيبراني من خلال الاستثمار في تقنيات الحماية الرقمية المتقدمة. وقد يشمل ذلك تطوير أنظمة تشفير لتأمين الاتصالات الحساسة بين الكوادر الأمنية والعسكرية، واستخدام تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي لرصد الأنشطة غير المعتادة. كما قد يتعاون الحزب مع حلفاء خارجيين مثل الصين وروسيا وإيران لتعزيز قدراته. ومن المحتمل أن ينفذ هجمات مدعومة من إيران تستهدف البنية التحتية الحيوية لإسرائيل، مثل شبكات الاتصالات والكهرباء والمؤسسات الحكومية، وأنظمة الدفاع الصاروخي، بهدف تعطيل القدرات العسكرية الإسرائيلية في أي مواجهة محتملة. ومع ذلك، مثل هذه الخطوات لا يمكن حدوثها بين عشية وضحاها، إذ تحتاج لتخطيط طويل وموارد متقدمة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لحزب الله التركيز على التأثير على الرأي العام من خلال وسائل الإعلام وتخفيف الأضرار المعنوية عبر الحرب السيبرانية، دون تصعيد الصراع إلى حرب شاملة. خاصة وأن الأطراف الرئيسية، بما في ذلك الولايات المتحدة وإيران وحزب الله، لا ترغب في توسيع نطاق الحرب أو انتهاك قرار مجلس الأمن رقم 1701[7]. كما يمكن للحزب اعتماد أنظمة سيبرانية احتياطية كخطة بديلة في حالة التعطيل[8]، وتعزيز حماية المعلومات الاستخباراتية الحساسة. وقد أكد حزب الله مراراً قدرته على الصمود أمام الهجمات السيبرانية، مشيراً إلى أن هذه الهجمات جزء من الحرب المستمرة بينه وبين إسرائيل.
تأثير التدخلات الإقليمية والدولية
تحمل الهجمات الإسرائيلية ضد حزب الله أبعاداً إقليمية ودولية، إذ تأتي ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، عبر استهداف إيران وحلفائها العسكريين. وهذا قد يؤدي إلى تصعيد أكبر في الحرب السيبرانية بين الجانبين، مما يزيد من تعقيد الأوضاع في لبنان ويؤثر على استقرار المنطقة بشكل عام. خصوصا، وأنّ الولايات المتحدة، في ظل إدارة جو بايدن، لم تبدِ أي تأثير حقيقي على سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سواء فيما يتعلق بمعبر رفح وفيلادلفيا في غزة أو الضاحية الجنوبية في لبنان. فقد تجاوز نتنياهو قواعد الاشتباك مع حزب الله، على الرغم من تحذيرات المبعوث الأمريكي، آموس هوكستين[9]، الذي أكد على ضرورة استخدام الخيارات الدبلوماسية.
في المقابل تسعى إيران للاستفادة من هذا التصعيد لتحسين موقفها الدولي، خاصة مع الغرب. وقد أشار الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزكشيان[10]، إلى إمكانية إجراء محادثات مباشرة مع واشنطن إذا أظهرت الأخيرة استعداداً لعدم معاداة إيران. هذه المحادثات قد تهدف إلى تطوير المشروع النووي الإيراني ورفع العقوبات الاقتصادية[11]، مما يعزز الاستقرار الداخلي لطهران. في المقابل، يحاول نتنياهو استغلال الوقت لتحقيق أهداف استراتيجية تمكنه من مواجهة أزماته الداخلية والانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية. إذا تحسنت العلاقات بين واشنطن وطهران، فقد يواجه نتنياهو صعوبة في مواصلة سياساته العدوانية دون تعريض مصالح الولايات المتحدة للخطر.
هذه العوامل إضافة إلى استمرار هجمات مليشيا الحوثيين ضد الملاحة البحرية، قد تدفع الولايات المتحدة إلى التحرك دبلوماسياً لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وكبح أي نوايا لتصعيد إيراني، للحفاظ على مصالحها في المنطقة.
السيناريوهات المحتملة
في الختام، على الدول تفعيل الجهود الدبلوماسية للحد من مخاطر التهديدات السبرانية في الحروب الجديدة بين اسرائيل ومحور إيران، تفادياً لحرب إقليمية قد تعرّض المنطقة لمزيد من التوتر والإرهاب والصراعات، وبخاصة أنّ النظام العالمي يعتريه قصور في الإمكانيات ولديه فجوات عميقة في الاستجابة لهذا النوع من التهديدات الجديدة وغير المسبوقة من التحكم، وهو ما يجعل السيناريوهات لدى حزب الله تأتي على النحو التالي:
• التصعيد المحدود المدروس: من المحتمل أن يقوم حزب الله بالرد بهجمات مدروسة ومحدودة عبر العمليات البرية أو البحرية الصاوخية بهدف إرسال رسالة واضحة لإسرائيل دون الدخول في صراع شامل بهدف الحفاظ على الردع مع تجنب تصعيد غير محسوب.
• تكثيف الهجمات السيبرانية المضادة: وذلك عبر الرد بنفس الأدوات وتكثيف الهجمات السيبرانية ضد البنية التحتية الإسرائيلية، سواء العسكرية أو الاقتصادية أو حتى الإعلامية. إنّ هذه الخطوة تهدف إلى إظهار امتلاك القدرة على الرد بالمثل وإثبات قدرة الحزب في هذا المجال.
• الاستفادة من الحلفاء الإقليميين: يمكن أن يستفيد الحزب من هذا التعاون من أجل تعزيز منظومته الدفاعية والهجومية السيبرانية، الأمر الذي يبرز قوة محور المقاومة وتعزيز القدرة في تبادل المعلومات الاستخباراتية.
• الانتقام عبر وسطاء: وذلك عبر تحريك مجموعات متحالفة معه في أماكن أخرى مثل سوريا أو العراق أو اليمن، خاصة وأنّ حزب الله تحدث عن تجنيد الزينبيين، ولوّحت حماس باستئناف "طوفان الاستشهاديين"[12]، وفي ضوء تقارير إسرائيلية[13] عن توافد مقاتلين حوثيين إلى سوريا بهدف الاستعداد للمشاركة في معارك برية ضد إسرائيل.
• الصمت الاستراتيجي والمراقبة: من خلال استغلال الوقت لتقييم الوضع والتخطيط لهجمات مضادة أكبر وأكثر تأثيراً على المدى الطويل، من أجل استدراج إسرائيل إلى كشف مزيد من أوراقها.
• التوجه للمنظمات الدولية والدبلوماسية: وهذا ما فعلته الحكومة اللبنانية في مجلس الأمن والتأكيد على القرارات الدولية لفضح التحركات الإسرائيلية ووضعها في موقف دفاعي دبلوماسي.
• التحضير لصراع شامل: في حال استمرار الانتهاكات وتصاعد التوتر، قد يقوم حزب الله بالتحضير لصراع عسكري أوسع نطاقاً، يعتمد على تنسيق جهوده مع الفصائل الفلسطينية والإيرانية والاعتماد على شبكة من الأنفاق ومجموعة المقاومة المحلية في الجنوب اللبناني.
في المحصّلة، يملك حزب الله خيارات متعددة، وهي تعتمد إلى حد كبير على الحسابات الاستراتيجية والسياسية الخاصة بالحزب وحلفائه، بالإضافة إلى مدى تصاعد التوتر مع إسرائيل وردود الأفعال الاقليمية والدولية، وما هي الكلفة التي يستطيع حزب الله تحملها قبل أن ينخرط في حرب شاملة.
أورنيلا سكر
صحفية لبنانية وباحثة في الدراسات الاستشراقية