التقارير الخاصة

الإيحاء السياسي.. كيف سيبدو مجتمع ما بعد كورونا؟

21-06-2020 الساعة 5 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

سوث24| يوسف فوزي


مقدمة 

أراد أدولوف هتلر معاقبة ثلاث ضباط خالفوا أوامره مخالفة واضحة وصريحة، فأراد أن يجعل من قصة موتهم عبرة لكل من يجرؤ على مخالفته حتى قرر أن يقتلهم دون قطرة دم واحدة على أن يكون موتهم قاسيا ومحيّرا. قام هتلر بوضع كل ضابط في سجن وجعل أمامهم ماسورةً تتساقط منها قطرات مياه، إلا أنه أقنعهم بأنّ المواسير ستقوم بتسريب غاز سام سيؤدي إلى موتهم خلال 6 ساعات، وبالفعل عندما عاد ليتفقدهم بعد 4 ساعات فقط وجد اثنان فارقا الحياة بينما الأخير كان يعاني من تشنجات ثم مات بعدها.

وفى تجربة أخرى لدكتور بورهيف على أحد المسجونين -كما ذكر موقع «مكتبة ألفا العلمية»- تم إقناعه بالتجربة مقابل تعويضات مالية لأهله والتنسيق مع المحكمة العليا. اتفق الباحث مع المسجون أن يتم إعدامه بتصفية دمه، وقام بعصب عينيه ووضع خرطومين على جسده، ضخ فيهما ماء درجة حرارته مثل درجة حرارة الدم، وأسفلهما وضع دلوين يتساقط بهما الماء ليعطى إيحاء بأنه صوت الدم المسال. بعد فتره اكتشف الباحث أن جسم المسجون بدأ فعليا في الانهيار، حتى مات في نفس الوقت الذي يستغرقه الإنسان في الموت إذا تمت تصفية دمه، ليثبت الباحث أن الوهم بإمكانه أن يقتل صاحبه إن أدخلت في عقلة الباطن فكرة الموت بالإيحاء، وبعد أن أقنع المسجون بأنه سيقتله بتصفية دمه ولم يفعلها، مكتفيًا بالإيجاء فقط، مات المسجونُ فعلاً.


تجربة مستر رايت

في عام 1957 ذكرت مجلة «Projective Techniques»، أنّ مستر رايت الذي كان يعاني من مرض سرطان الغدد الليمفاوية في مراحله المتأخرة وانتشر في أنحاء جسده، لم يفلح معه طرق العلاج والعقاقير التي كانت تستخدم، ولم يتوقع دكتور ويست -وهو دكتور مستر رايت- أنه سيصمد فقط لمدة أسبوع.

في ذلك الوقت سمع مستر رايت بوجود نوع دواء جديد تحت التجريب يسمي «كريبيوزين»، فلم يكن أمامه إلا أن يجرّبه بعد أن أقنعه البعض بأن لديه قدره كبيرة على الشفاء، وبالفعل تم حقنه بالعقار، وبعد عشرة أيام من الحقن غادر المستشفى.

بدأ «رايت» في الشفاء، إلا أن الأبحاث أثبتت أن الـ «كريبيوزين» غير فعّال، الأمر الذي أدى إلى انتكاسة نفسية جديدة للمريض عاد على أثرها مرة أخرى إلى المتاعب الشديدة، وانتكست حالته، وفقد الأمل في العلاج والثقة في الأطباء ومات.


 ليثبت الباحث أن الوهم بإمكانه أن يقتل صاحبه إن أدخلت في عقلة الباطن فكرة الموت بالإيحاء

الإيحاء السياسي

عن "الإيحاء" في علم النفس ومدى تأثيره على العقل الباطن وقدرة الإيحاء على تغيير السلوك الإنساني ووظائف أعضائه، وما ينتج عنه من انحرافات في التأويل من صيغة النص الأصلي أو الفعل الأولي الذي لا يمت بصلة إلى الواقع، هذا يعطي فكرة أولية عن الدور الذي لعبه السياسيين بإدخال الرعب في نفوس مواطنيهم جراء جائحة كورونا بقدرة هذا الفيروس على خلق إيحاء ترهيبي لتغيير الإدراك والسلوك المجتمعي يفضي بإعادة رسم وبرمجة خطوط العالم السكّانية وشكل الدولة الجديدة وطبيعتها الاقتصادية والاجتماعية ودرجة المسؤولية الفردية وهذا الأخير هو أهم ما تسعى إليه النخبة العالمية.

فحين يتم الإيحاء للناس بأن حياتهم بالجملة أصبحت في خطر، وأصبحوا مهددين بالفناء السريع حينها سيتم خلق رعب وخوف داخل نفوس البشر بما يسمح للسلطة العالمية بتمرير جميع مشاريعها التي لا يمكن تمريرها في الأحوال العادية المستقرة. ونحن كبشر لدينا درجات وعي متفاوتة، لكن السواد الأعظم منّا إدراكهم لم يتخطى الحدود الأولية البسيطة المعنية بتكوين وعي بدائي مرتبط بالمادة. فلا يمكنهم تخيّل الأحداث او الوقائع إلا بمنظور مادي. والمادية هنا تعني درجة ما يشعر به الإنسان في جسده نتيجة المستقبلات الحسية والحواس التي تتجسد في شكل المعاناة من حر وبرد وجوع وعطش وخوف ورهبة، تلك المستثيرات المادية الأولية كلها إيحاءات في معظم الأحيان لا تمثل حقيقة الأمر.

وهنا تكمن خطورة الوعي المادي كونه مقصور على مستقبلات عاطفية وليست ادراكية، بما أن الشعور له قدرة أكبر على التأثير على الجسد من الإدراك. وهذا لا يفيد بأن الإدراك البشري ضعيف، كلا لكنه مُغيّب. فموضوع الإيحاء والتأويل حسب الوعي المادي الضيق هو أخطر على الإنسان من جميع المهددات الأخرى مجتمعة من حر وجوع وعطش وما إلى ذلك، فالوعي البشري درجات، وأقل درجة وعي هو تلك التي تربط "الحدث" ب "المادة"، وهذا ما قد شرعنه ماركس في الجدلية المادية حتى أصبحت سنّة السياسة الحديثة، لقدرتها على التأثير على المجتمعات قاطبة، والتي تفيد بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يفهم جدوى تغيير الأحداث من حوله (إن كانت أنظمة سياسية او اجتماعية او دينية جديدة) إلاّ إذا قاسى ظروف معيشية قاهرة وحينها فقط سيتم إقحام الإيحاء لعقل الإنسان الباطن -دون أن يدري- بأن التغيير أصبح شيء حتمي وضروري وأمر حياتي لا مفر منه، لكن حقيقة هذا التغيير أنه دون جدوى لأنه تغيير مصنوع وليس تغيير حقيقي تقتضيه طبيعة الأوضاع بل على العكس تم خلق أوضاع غير طبيعية حتى تتوائم مع أهواء النخبة العالمية. 

وها نحن نرى بأم أعيننا بأنّ الظروف المعيشية الآن التي تعيشها شعوب الأرض كلها أصبحت ظروف قاهرة، بحيث أصبح الإنسان ذو الوعي المادي يرهبه الموت الفيروسي ويرتعد من أن يفقد أحد أحبائه في ظل أزمة الفيروس المفتعلة، وهذا هو المطلوب إثباته بأن يتم ادخال في عقول البشر بأنّ النظام الكوني قاصر على حمايتهم أو حتى الحفاظ على سلامتهم حتى يتم خلق نظام جديد أكثر كفاءة وملائمة، وبأنّ أزمة الاحتباس الحراري هي منتوج أزمة النيوليبرالية التي سمحت لكل من هب ودب بأن يعمل في الإنتاج مستهلكا طاقة  ملوثة للبيئة، حتى يتم الإيحاء على أكمل وجه، بأنّ النظام الحاكم للعالم الآن نظام قاصر وضعيف وهذه حقيقة أيضا.



سيتم خلق رعب وخوف داخل نفوس البشر بما يسمح للسلطة العالمية بتمرير جميع مشاريعها التي لا يمكن تمريرها في الأحوال العادية المستقرة (الصورة: موسيكنيشين)

لكن يبقى السؤال مطروحا: ما هو شكل النظام العالمي القادم؟ هذا هو سؤال الساسة الآن في كل مكان، لكن سؤال العامة والبسطاء هو الأهم: ما المغزى من فرط التأويل؟ بمعنى، ما المغزى من قفل دور العبادة؟ ما المغزى من تقدير مسافات آمنة بين البشر في كل المناسبات الاجتماعية المختلفة؟ وهذا هو غرض الإيحاء، بأن يوحوا للإنسان بأنه سيموت إذا تقابل مع أقرانه، وبأنّ الأماكن العامة أصبحت "بؤرة اجتماعية" بعد أن كانت ثورة من ثورات العولمة. كل ذلك من أجل أن يوحوا للبشر بأنهم إن مشوا مجتمعين في الشارع سيقومون بنشر ولقط العدوى مما يجعلهم عرضة لمرض وموت من حيث لا يدرون. 

هذه هي مهمة إيحاء فيروس كورونا التي عملت ليس على قتل البشر كما تخيل البعض حسب نظرية المؤامرة (وكنت واحدا منهم) بل عملت على تغيير مواقف الناس حتى يتم تغيير سلوكهم من دون فرض أو إلزامهم بقوة القوانين الجائرة التي لا تستطيع برلمانات الأرض قاطبة من تمريرها على الشعوب إلا في ظلّ أزمة طاحنة ترُهب كل إنسان على وجه الأرض وتسبب خسائر في الأرواح والوظائف والملكيات بصورة لم يشهدها التاريخ من قبل. وكل ذلك من أجل تغيير السلوك الإنساني، لأنّ تغيير السلوك الإنساني هو من أصعب تحديات السلطات في كل بقاع الأرض. فلكي يتم مثلا إلغاء صلاة الجماعة، تمت بدعوى الخوف من انتشار الوباء؟ وهذا ما قد دفع البعض لتغيير عاداته وسلوكه، وأصبح البعض الآخر يرتئي بأنّ صلاة الجماعة تضيع الزمن، بينما في البيت تكون أكثر أمانا وأقل تكلفة زمنية. وهذا التغيير في السلوك يجب أن يتم دون أمر أو قهر من السلطات، لأنّ السلطة أينما حلت تعلم جيدا بأن القهر يزيد الممانعة ويزيد من تمسك الإنسان بسلوكه القديم، حتى عمدوا لجعل السلوك الجديد محبب ومرغوب فيه، الذي فرضته أزمة فيروس كورونا.

معظم الناس تخيّلوا بأنّ فيروس كورونا مؤامرة لتشريد الملايين، لكنّ المؤامرة الأكبر هي أن يغيّر المواطن سلوكه وهو راض بذلك، بل أصبح مقتنع بأشياء جديدة، والأدهى والأمر هو رغبة المواطنين في شكل التغيير الجديد.

تغيير السلوك الإنساني يعد أصعب من تغيير الرؤساء والأنظمة، فأسهل شيء هو تغيير رئيس ونظام دولة، لكن تغيير السلوك البشري يكاد يكون المستحيل الثامن، لأن السلوك شي موروث، نشأ وترعرع عليه الإنسان منذ نعومة أظفاره، ولا يستطيع أحد تغيير هذا السلوك إلا إذا تعرض لصدمة، ولا توجد صدمة أكبر من فقدك لأشخاص أقرباء إليك.


الخلاصة 

يبقى السؤال مطروحا: ما هو شكل العالم بعد انقضاء أجل جائحة كورونا؟ والمقصود بالعالم ليست الترتيبات السياسية الجديدة لشكل النظام السياسي اشتراكي شعبوي أم نيوليبرالي جديد ام استمرار النظام الرأسمالي بشكل أجد، بل شكل الترتيبات والقوانين التي ستدخل في حياة الناس وتؤثر على سلوكهم. 

هذه الترتيبات السياسية لا تخص شكل الأنظمة ودور الرؤساء والوزراء، بل المقصود هو «"الشكل الوظيفي للإنسان في مجتمع ما بعد أزمة كورونا"». هل يستطيع أحد، له عقلية خصبة ووعي من الإدراك حول الإدراك «Metacognition» قادر أن يتخيّل الشكل الوظيفي للإنسان في مجتمع ما بعد كورونا! يعني، ما هو الدور الذي سيلعبه الإنسان في تكوين المجتمع وما يقتصر عليه وما ليس من شأنه؟ ما هو نطاق تدخل المواطن في القضايا العامة وتكوين الرأي العام؟ هل ستبقى قضايانا العامة عامة أم سيتغير شكلها ويقتصر تكوين الرأي العام على فئة قليلة من النخبة العالمية؟ وماهي طبيعة ووظيفة الإنسان كإنسان في الأرض بعد أزمة كورونا؟ بالتأكيد ستقتصر وظيفة الإنسان على نطاق ضيق جدا من التفاعلات في المجتمع والبيئة، ويصبح دوره مقصور على توفير معيشته وأمنه الخاص "فقط" دون التدخل في القضايا الكبرى، كالاديان، والوعي المجتمعي، ونظام التدريس والمناهج، وهذا يعني بأن الدوائر تضيق وتنغلق على الإنسان برغم توفر كل أدوات التواصل الاجتماعي فإنها لن تسمح للإنسان إلا بالمزيد من العزلة والقليل من الحرية الشكلية في التعبير عن آرائه بكتابة "بوست او تعليق".


تغيير السلوك الإنساني يعد أصعب من تغيير الرؤساء والأنظمة (الصورة: ا ف ب)

ومن أجل ذلك أوجدت وسائل التواصل الاجتماعي للإيحاء للبشر بأنّ حرياتهم زادت لكن الحقيقة أن وسائل التواصل قيّدت حرية الإنسان أكثر وجعلته مكشوف للسلطة بحيث يسمح الوصول إليه بكل سهولة ويُسر إن اقتضت الضرورة، فكل وسائل التواصل تعد أجهزة مراقبة، وأدوات مبرمجة للتقصي عن حالك (أين تسكن، وبمن ترتبط، ولمن تقرأ، وما هي توجهاتك الفكرية، وما هي طبيعة عملك، ومن هم معارفك واقربائك واصدقائك ومحيط أسرتك، بل والسخرية كل السخرية "ماذا تأكل وما يثيرك من موضة وأزياء وأشياء أخرى لا يمكن كتابتها". كل ذلك بضغطة زر واحدة من أجهزة الذكاء الاصطناعي يستطيعون معرفة كل شي عنك، بل وسلبك حريتك التي خلتها قد اتسعت لكنها ضاقت أكثر وأكثر وبإرادتك .. إنها مهمة الإيحاء السياسي.

مجتمع ما بعد كورونا سيكون مجتمع أوهن الحريات وأضعف الصلات، وأقل تدخلا في القضايا العامة لأنها لن تصبح عامة بل من اختصاصات السلطة السياسية، وسيكون جل مساهمة الإنسان في هذا المجتمع هو التعبير عن آرائه بأن يقوم بالضغط على الأزرار او أن يكتفي بعمل "لايك" إن أعجبه الطرح وبأن يختفي ولا يعمل "كومنت" إن أضجره الطرح وخالف أمنياته وتوقعاته، وعلى هذا المنوال سيكون  جل مشاركة المواطن في التأثير على شكل النظام والسلطة بإعجاب أو انسحاب، وستكون حرية التعبير مقتصرة على الذوق العام في المجتمع، المقتصرة على شكل الملبس وتسريحة الشعر والمظاهر العامة.


مجتمع ما بعد كورونا سيكون مجتمع أوهن الحريات وأضعف الصلات، وأقل تدخلا في القضايا العامة لأنها لن تصبح عامة بل من اختصاصات السلطة السياسية

تم الإيحاء لحوالي 8 مليار شخص، بأنّ فيروس كورونا قاتل متسلسل، وبأنه سوف يفتك ببني البشر دون رحمة ولا تمييز، حتى يدخل الرعب في عقول الناس حينها نجحت المؤامرة بامتياز. الوحيدون الذين لم يسري عليهم هذا الإيحاء هم المهمشون الذين لا يبالون بالموت والحياة والفئة الأخرى والأكثر قوة هم الذين يعلمون علم اليقين بأن الموت مكتوب بميقات. هذه الفئة الثانية لا يستطيع أحد إرهابهم أو اخافتهم بالموت، ولم تجد النخبة العالمية طريقة لزعزعة نفوسهم سوى بإغلاق دور عبادتهم حتى تنقطع الصلة ويخفت الايمان. إذن المؤامرة ليست مؤامرة اقتصادية كما كنّا نزعم لكنها مؤامرة تقوم على إعادة رسم شكل المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية وتقليص دور المجتمع في الشأن العام، أي أنها مؤامرة تحديد أدوار وتغيير السلوك الإنساني، بأن يُصبح كل شخص مسؤولا ومهتما بنفسه فقط و لا يعنيه ولا علاقة له بالشأن العام وما يرسم فيه من استراتيجيات كوزموبوليتية. 

على أن تقوم هذه النخبة -المسؤولة عن السياسة العالمية- بوضع ورسم وتشكيل المجتمع على طريقتها المشتهاة، من تربية النشأة وشكل تعليمهم، فلن يتدخل أرباب الأسر في وضع القيم والممارسات لرعاياهم، لأن تربية الأطفال ستصبح من القضايا السياسية الخاصة بالسلطة وحدها، وتصبح من مسؤوليات الدولة وليست من مهام الأسرة، فالأسرة هي العدو الأول لنظام النخبة العالمية لذلك عمدوا على تهشيم شكل الأسرة النمطي في دول الغرب، بحيث تُصبح السلطة السياسية هي المسؤول الأول عن الأفراد، على أن تُلغى عصبة وقوة المجتمع من أجل إعطائها للسلطة السياسية للتحكم بالأفراد، لأنّ التحكم بالأسرة كاملة أو المجتمع من عاشر المستحيلات.

 


- يوسف نبيل فوزي: كاتب سياسي إجتماعي من السودان، مهتم بتطوير الإنسان والبحث في العادات السياسية


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا