20-11-2020 at 3 AM Aden Time
سوث24| يعقوب السفياني
إنّ للمعلم مكانة أهتمت بها كافة الأمم والحضارات القديمة والجديدة، فهو الذي يتلقى منه الأفراد العلوم والمعارف، وعلى يده ينشئُ المجتمع بكافة مهنه وتخصصاته. وغالباً ما يقاسُ تقدّم الدول والمجتمعات بوضع التعليم والمعلمين في هذه الدول، فالعلاقة بين المعلم وازدهار الدولة والمجتمع علاقة طردية، فكلما كان وضع المعلم جيداً، كلما ارتفع مستوى جودة التعليم في الدولة والمجتمع، وهذا بالمحصلة النهائية يعني أطباءً أكفاء، مُهندسون مهرة، حملة شهادات عليا في مختلف التخصصات والمجالات، إنّ ذلك يعني مجتمع متسلح بالعلم، وهو ما يعني أيضاً دولةً مزدهرةً، قويةً، ومتطورة.
وبالنظر إلى الواقع الحالي، نجد أنَّ الأمر صحيحٌ تماماً من كافة جوانبه، هنالك مجتمعاتٌ أعطت المعلم ما يستحقه فأضحت في هرم العالم وفي مصاف دوله العظمى والقوية، وهنالك دول أهملت المعلم والتعليم فأصبحت متأخرة بعقود عن هذه الدول المتقدمة، وتعيش أوضاع إنسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية مزرية، ومن بين هذه الدول، اليمن، وبالأخص جنوب اليمن، الطرف الأساس في الوحدة اليمنية مع دولة العربية اليمنية (شمال اليمن)، والذي شهدَ انهياراً غير مسبوقا في المؤسسة التعليمية بعد وحدة 1992 مايو، بعد أن كان التعليم ووضع المعلم فيه يُصنف الأفضل في منطقة شبه الجزيرة العربية، قبل الوحدة. [1]
المعاناة
حال معلمي جنوب اليمن المزري ليسَ وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات اللادولة والفساد المُسيطر على كافة مفاصل نظام ما بعد حرب صيف 1994 ضد جنوب اليمن، وهي الحرب التي أفرزت هيكلاً مشوهاً من الدولة تسببت في الإضرار بكافة القطاعات ومنها قطاع التعليم، ورمت بالمعلم في سلة الاهمال والمظلومية لأعوامٍ طويلة.
ورغم كونها قديمة قدم الدولة، تضاعفت أزمة المعلمين باطراد في الأعوام الأخيرة في جنوب وشمال اليمن على حدٍ سواء، مع اندلاع أزمة 2011 السياسية وتفجرها عسكرياً في عام 2015، ومروراً بمحطات النزاع الدامية والمختلفة بين الفرقاء والخصوم.
ألقى الانهيار الاقتصادي الذي تسببت به الحرب في اليمن بظلاله على حياة المواطنين الذين يعيشون أزمة حقيقية أخرى قبل هذه الحرب بالأصل، وكان المعلمون أشدّ شرائح المجتمع تضرراً، مع استمرار انهيار الاقتصاد والعملة الوطنية، وبالتزامن مع الارتفاع القياسي وغير المسبوق والمتواصل بأسعار السلع الأساسية، وهو الارتفاع المهول مقابل ثبات أجور المعلمين عند مستواها الأصلي، أحد أدنى المستويات للأجور في العالم بأسره، وقبل هذا الانهيار أيضاً !
كان متوسط أجر المعلم قبل اجتياح جنوب اليمن في 2015، وتحديداً في العام 2014، يعادل ما قيمته 250 – 300 دولاراً أمريكياً، ورغم أنّ هذا الرقم يبدو ضئيلاً بالأصل، إلا أنّه يشكل درجة أفضل مما هي عليه الحال الآن، والتي وصلت فيها أجور المعلمين إلى ما دون 80 دولاراً، وأقل من هذا في أحيانٍ كثيرة.
عواقب
كعادتهم، لم يقدم من يحكمون في اليمن شيء للإسهام في حل أزمة المعلمين، بل كانوا أساس هذه الأزمة وأكبر أسبابها، وبين معلم يدفع مجهوداً حربياً للحكومة الحوثية الدينية في صنعاء وشمال اليمن، وآخراً يعاني من اختلاساتٍ وانقطاعاتٍ متكررة للمرتبات بالتزامن مع انهيار الاقتصاد والعملة في جنوب اليمن، وأجزاء من محافظات الوسط التابعة لشمال اليمن- وهي الرقعة الجغرافية المحسوبة على حكومة الشرعية المدعومة من التحالف العربي، قبل أن تدخل الأخيرة في نزاع مع القوى السياسية في جنوب اليمن، يعاني المُعلم الأمرين. ويعتبر وضع المعلمين من بين الأسباب التي دفعت بالأمور في مسار التصعيد منذ مطلع العام 2018 بجنوب اليمن، بين الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية.
نظّم معلمو جنوب اليمن إضراباً على مدار العام الجاري مع وصول الوضع الإنساني للمعلمين إلى مستويات غير مسبوقة، أصبح من المُستحيل معها أن يُعيل المعلم أسرته من مرتبٍ لا يكاد يفي بنصف متطلبات السلع الغذائية، فكيف بما دونها من أمور الحياة الأخرى، وهو ما دفع الآلاف منهم إلى البحث عن وظائف أخرى أفضل أجراً، وغالباً ما تكون هذه الوظيفة "مُجنداً" في أحد القطاعات العسكرية، نظراً للأجر الأعلى الذي يتلقاه منتسبو القطاع العسكري مقارنة بقطاع المعلمين.
وقفة احتجاجية لمعلمي الجنوب أمام مقر الحكومة اليمنية "قصر المعاشيق" بمدينة كريتر بعدن 16 يناير 2020 (نشطاء)
وانتشرت ظاهرة "المٌعلم البديل"، وهي ظاهرة استقدام المعلمين لشباب وفتيات أقل كفاءة أكاديميا للعمل كـ "بدلاء" عنهم، مقابل نصف أو ثلثي المرتب الضئيل، كي يتفرغ المعلم الأساسي للاغتراب أو العمل الحر، مع الاحتفاظ بما تبقى من مرتبه.
الإضراب الذي نظّمته نقابة المعلمين الجنوبيين اُعتبر بمثابة جرس الإنذار للمستوى الكارثي الذي وصل إليه حال المُعلمين، وعواقب عدم حل أزمتهم، وتسبب هذا الإضراب في حرمان عشرات الآلاف من الطلاب في جنوب اليمن من التعليم. [2]
وطالبت النقابة في بيان لها مع بداية الإضراب بمستهل العام 2020، والذي تزامن مع بداية الفصل الثاني من العام الدراسي 2019/2020 واستمر إلى نهاية العام الدراسي، بـ "تشكيل لجنة من الحكومة والنقابة لهيكلة الأجور للمعلمين على أن يكون الحد الأدنى لراتب المعلم لا يقل عن 200 دولار أمريكي، اعتماد المتقاعدين في التقاعد مع تسليمهم جميع مستحقاتهم المالية، تسوية أوضاع دفعة 2011 من المعلمين، إدراج العلاوات السنوية حتّى نهاية 2019، و تثبيت المتعاقدين في السلك التربوي"
أقفلت المدارس أبوابها لأشهرٍ عدّة تعطلت فيها العملية التعليمية بشكلٍ تام، قبل أن تشهدَ أزمة الإضراب انفراجاً في سبتمبر/أيلول من العام الجاري، بالتزامن مع دعوة أطلقها محافظ محافظة عدن الجنوبية، أحمد حامد لمس، ناشد فيها نقابة معلمي الجنوب على فضّ الإضراب لأجل أطفال وأبناء الجنوب، ووعد بالعمل على إيجاد حلول لمشكلة المعلمين، وهو الأمر الذي استجابت له النقابة في عدن، وتبعتها فروعها في بقية محافظات الجنوب التي كانت قد أعلنت الإضراب.
تفاقم المعاناة
تتفاقم أزمة المعلمين مع مرور الأيام بسبب استمرارية انهيار الاقتصاد والعملة الوطنية، والتي تبدو في "ماراثون" لا ينتهي مع تجدد إشراقة كل يوم، وهو ما تسبب بارتفاع وصلت نسبته 100% في معظم السلع الغذائية وغيرها من السلع الأساسية، الوضع الذي وجد المعلم فيه نفسه الحلقة الأضعف والأكثر تأثراً، مما انعكس بشكلٍ مدمر على حياته وحياة من يعيلهم.
عبد الله فرحان، وهو مدرسٌ في إحدى المدارس الحكومية في العاصمة عدن، تحدث لـ "سوث24" عن معاناته قائلاً:" أصبح مرتبي لا يكفي لإعالة أسرة من ستة أفراد، لدي خمسة أفواه جائعة يجب أن أطعمها، لكن هذا غير ممكن مع مرتبي الذي يساوي 60 ألف ريال يمني، إنّه غير كاف حتى للسلع الأساسية كالدقيق (القمح) والأرز، فكيف بباقي متطلبات الحياة، هنالك فواتير مياه وكهرباء يجب أن ندفعها، قد يكلفني مرض أحد أولادي مرتب شهر كامل في مشافي عدن، لا أعرف كيف أصف الأمر، نشعر بأننا نفقد حياتنا الكريمة يوماً بعد يوم، إنّهم يريدون دفعنا للتسول".
أما "شمس عبد المجيد"، وهي معلمةُ في عدن أيضاً، تحدثت لـ "سوث24" عن معاناتها اليومية فقالت:" أنا أعيل أسرة كاملة، أولادي يعتمدون عليّ في تدبير أقواتهم بعد رحيل والدهم، لكنني أجد هذا الأمر أصعب بمرور الأيام، بل يكاد يكون مستحيلاً". وعن مرتبها "الضئيل"، اعتبرت شمس هذا المرتب "استحقاراً" لمكانة المُعلم، وتحدثت عن مشاقها اليومية في عملها كمدرسة قائلة:" أخسر يومياً في المواصلات العامة نسبة كبيرة من مرتبي، هذا المرتب يتلاشى يوماً بعد يوم، ما كنت أشتريه بالأمس أصبح مستحيلاً اليوم، وما يمكنني شراؤه اليوم قد يكون مستحيلاً في الغد، أتوقع هذا كثيراً، ليس هنالك إشارة واحدة أنّ وضعنا سيتحسن".
بارقة أمل
لن تزيد أجور المعلمين ويستقر حالهم إلا عندما يستقر الوضع الاقتصادي في البلاد، وينتهي النزاع العسكري، وهو ما لا يُمكن أنّ يتحقق إلا بعد الوصول لتسوية سياسية للأزمة اليمنية بشكل عام وأزمة جنوب اليمن بشكل خاص، والأخيرة تبدو أقرب للحل مع قرب تشكيل حكومة المناصفة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية، بناءً على اتفاق الرياض الموقع بين الطرفين قبل أكثر من عام.
تُمثّل الحكومة المنتظرة بارقة الأمل الوحيدة لدى المُعلمين لإنصافهم وتسوية أوضاعهم، لكن بارقة الأمل هذه مُهدّدة بفشل اتفاق الرياض وزيادة التأزيم، خصوصاً مع استمرار المواجهات المسلحة بين طرفي الاتفاق، وهي المواجهات التي يتهم فيها الانتقالي الجنوبي أجنحة الإخوان المسلمين في الحكومة اليمنية بالوقوف ورائها، مما يُعطل إعلان الحكومة المرتقبة التي يُتوقع منها العمل على تطبيع الأوضاع العامة والخدمات في عدن ومحافظات الجنوب، وحّل الأزمات المختلفة القائمة، وعلى رأسها، أزمة المُعلمين.
يعقوب السفياني
محرر وصحفي في مركز سوث24 للأخبار والدراسات
- مركز سوث24 للأخبار والدراسات
المراجع:
[1].صحيفة الأيام العدنية <التعليم في الجنوب.. تجهيل رسمي ضحاياه جيل المستقبل> Alayyam.info [2]. سوث24 <إضراب المعلمين في جنوب اليمن يتسبب في حرمان الآلاف من تلقي التعليم> South24.net
Previous article