حفل توقيع اتفاقيات إبراهيم في البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020 (رسمي)
19-03-2024 at 11 PM Aden Time
سوث24 | د. إيمان زهران
كشفت أحداث طوفان الأقصى في "7 أكتوبر 2023"، عن مدى هشاشة السرديات الاستراتيجية المتعلقة بالاستقرار الإقليمي للشرق الأوسط والتي صاحبت عدداً من المشاهد النوعية، أبرزها، أولاً: حالة التوطئة للنزاعات المتباينة بالإقليم والتي أفرزتها القمة الخليجية وما تضمنت من بنود "إعلان العلا – يناير 2021". ثانياً: حالة التهدئة بين النظامين السعودي والإيراني وما لحق بذلك من استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين برعاية صينية [1]. ثالثاً: التشبيك الاقتصادي والتنموي لدول المنطقة العربية + إسرائيل، وذلك عبر عدد من المشروعات التنموية أبرزها الممر الاقتصادي الهندي كآلية لتوسيع قواعد الاندماج. ورابعاً: ما تشكله الخطوات العربية الحثيثة نحو ترسيخ التطبيع المؤسسي مع تل أبيب عبر إبرام عدداً من الاتفاقيات عُرفت بـ "الاتفاقيات الإبراهيمية" / "معسكر السلام".
عطفاً على ذلك، أعادت هجمات الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة أهمية النظر والتقييم في حجم ومستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية على كافة المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية في ظل عددٍ من المحددات، أبرزها: تراخي المجتمع الدولي في تطويع أوراق الضغط السياسية والاقتصادية لإنهاء المعاناة الانسانية في قطاع غزة وفرض الحوار السياسي بين الجانبين، كذلك التعنت الإسرائيلي في توظيف حالة الجمود بالمسار السياسي لوأد القضية الفلسطينية وفرض التصورات اليمينية، وهو ما يتضح تباعاً وفقاً للمحددات التالية:
تغيرات قائمة:
بالنظر لحجم الارتدادات والتباينات المرتبطة بعملية طوفان الأقصى وأحداث 7 أكتوبر وترسيخاً لمبدأ "وحدة الساحات"، وما تلاها من هجمات الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة على نحو ما يُرسخ لفرضية "إعادة تشكيل أبعاد القضية"، وإفساد التصورات العربية حول الحل الشامل والعادل والقائم على الاعتراف بدولة فلسطينية وفقاً لحدود 1967، وما يلحق به من تغيرات حول واقع المنطقة ومدى اتساق فواعلها مع أبعاد القضية الفلسطينية وفقاً للمرئيات العربية، يُمكن الحديث عن التالي:
- الفواعل الهجينة: أحد أهم التغيرات التي أُعيد تقييمها مع أحداث 7 أكتوبر، وذلك في إطار تراجع دور الدولة الوطنية. ومن الأمثلة: بروز الأدوار المؤثرة لكل من حركة حماس وحزب الله وميليشيات الحشد الشعبي وجماعة الحوثيين، كإحدى الدلالات الرامية لتراخي قدرة تلك الدول على بناء مجتمعات متكاملة وإدماجها سياسياً، مما أفرز أنماط صراعية متباينة، أبرزها "الحروب بالوكالة"، عبر دخول تلك الفواعل الهجينة/ من دون الدول في مواجهات مسلحة مع أطراف أخرى، أو أن تحل محل الجيوش التقليدية. وهو ما تم اختباره بالنظر إلى ارتدادات طوفان الأقصى على اتساع الجبهات الصراعية على نحو ما عُرف بـ "مبدأ وحدة الساحات".
- الراديكالية السياسية: تتعلق تلك النقطة بما يتعلق بظهور موجات راديكالية، وإعادة انتشار للتصورات الخاصة بـ "الإسلام السياسي" كأحد الارتدادات النوعية لعملية طوفان الأقصى، واتساع الجبهات الصراعية التي تقودها "فواعل هجينة" يُبنى خطابها على مفهوم "الجهاد الاسلامي"، وانعكاس ذلك بشكل واضح على حالة الأمن والاستقرار ليس فقط بالشرق الأوسط، ولكن بما يتجاوز المنطقة نحو العمق الأوروبي والأمريكي، وذلك بالنظر للاحتمالات القائمة حول تصاعد التشكيلات الإرهابية والمتطرفة وإعادة إنتاج العمليات الإرهابية، مثل إعادة إنتاج كل من تنظيم القاعدة و تنظيم داعش، وكذلك النمط العملياتي لـ"الذئاب المنفردة".
- التعبئة السيكولوجية: ظهرت بشكل واضح فيما يُعرف بتوظيفات "الخطاب المرئي/ والرقمي". إذ عمدت أحداث طوفان الاقصى إلى إعادة التعبئة السيكولوجية حول مرئيات وأبعاد القضية الفلسطينية، وذلك بالنظر إلى حجم الانتشار والتأثيرات المتباينة للخطاب "المرئي/ الرقمي" على الرأي العام بمختلف الاقاليم الفرعية بالنظام الدولي. حيث مثلت الصور والفيديوهات لواقع المشهد العملياتي لكل من طوفان الأقصى والسيوف الحديدية أحد أبرز التحولات في الحرب على قطاع غزة، وأدت إلى التأكيد على تداخل زمن الفعل مع زمن الصورة في صياغة الخطاب المرئي [2]. فضلاً عن المساهمة الناجعة في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية، وعمليات التهجير القسري والإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية كخطوة رامية لإعادة ترسيم ديموغرافية المنطقة على نحو ما قد يدفع بعرقلة مسارات الحل العادل والقائم على التصورات العربية حول حل الدولتين وفقاً لحدود 1967. كذلك الانعكاس الواضح على حالة "الحراك المجتمعي" بأغلب العواصم الأوروبية +الولايات المتحدة الأمريكية، ومردود ذلك على التغير في الخطاب السياسي والحديث الغربي حول بنود "المبادرة العربية" كأحد مسارات التسوية والحل.
على صعيد متصل، تتسع دائرة الارتدادات المتباينة للحرب على غزة لتشمل عدداً من المخاطر التي قد تتجاوز بتبعاتها حدود الشرق الأوسط، وذلك على النحو التالي:
- الاضطراب الاقتصادي: أحد المخاطر المُرشحة للتفاقم خلال الفترة المُقبلة في ظل عددٍ من المؤشرات المُرتبطة بالحرب على غزة، أولاً: ما يتعلق بتقديرات البنك الدولي من احتمالية تطويع العرب لـ "أوراق النفط" مقابل التوطئة بالقضية الفلسطينية تأسيساً على الخبرة التاريخية إبان حرب أكتوبر 1973 وفرض الأعضاء العرب في منظمة أوبك، بقيادة المملكة العربية السعودية، حظراً على مبيعات النفط إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية رداً على قرار واشنطن إعادة إمداد الجيش الإسرائيلي [3]. وثانياً: ما يترتب على تكثيف جماعة الحوثيين لضرباتها المتلاحقة بالبحر الأحمر وانعكاس ذلك على اضطراب حركة التجارة العالمية. ذلك بالتوازي مع بطيء التعافي الاقتصادي جراء جائحة كورونا وما لحق بذلك من توتر بمؤشرات حركة التجارة وسلاسل الإمداد الغذائي كانعكاس للحرب الروسية – الأوكرانية. ثالثاً: غموض مستقبل "مشروعات الاندماج الاقتصادي العربي الإسرائيلي" على كافة المستويات التنموية والطاقوية.
- إضعاف التشكيلات العسكرية: تُبنى تلك النقطة على السردية الفلسطينية المُتعلقة بـ "مبدأ وحدة الساحات" بين فصائل المقاومة ككل/ أو ما سبق وأن تم الإشارة إليه أعلاه بنمط "الفواعل الهجينة"، وما يلحق بذلك من اتساع الجبهات الصراعية لتشتمل على عمليات نوعية ضد أهداف أجنبية في إطار ما يُعرف بـ "استنزاف/ وتفكيك الخصوم"، كرد فعل مباغت لحالة الدعم الغربي المُطلق للجيش الإسرائيلي وانعكاس ذلك على تفاقم الاضطرابات الأمنية بالدول المأزومة سياسياً والمنطقة العربية ككل، على سبيل المثال: استهداف الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران للقواعد العسكرية الأجنبية – خاصة الأمريكية – في كل من سوريا والعراق.
- تنامي الاستقطابات السياسية: أحدثت الموجة الخامسة من الحرب الإسرائيلية على غزة، إعادة تشكيل الصورة الذهنية للرأي العام العالمي حول أبعاد القضية، بما انعكس بشكل مباشر على التغير بمرئيات الخطاب السياسي للمجتمع الدولي؛ في ظل عالم يشهد حالة من الاستقطابات الحادة والانقسامات المجتمعية/ والنخبوية ما بين المؤيدين للقضية الفلسطينية وآخرين داعمين لإسرائيل. فعلى سبيل المثال: أدت حرب غزة إلى انقسام حلفاء الناتو، حيث أدانت الولايات المتحدة الأمريكية الانتهاكات التي ترتكبها حماس، في حين وصف الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إسرائيل بأنها قوة مُحتلة ونفى أن تكون حماس جماعة إرهابية. بالمقابل، ثمة انعكاس واضح لـ "حالة الاستقطابات" على منطقة الشرق الأوسط، وذلك بالنظر إلى تنافس القوى الدولية والصاعدة حول إعادة ترسيم النفوذ السياسي والاقتصادي بالمنطقة، وفي مقدمتها روسيا والصين.
- تحديات مضاعفة: تتمثل فيما فرضته ديناميكيات الحرب على غزة من إعادة التعريف لأنماط "الفواعل من دون الدول"، ودورها في تحديد مسارات الصراع وانعكاسها المباشر على توطئة الاستقرار في المنطقة عبر انتقالها من نمط "الحروب التقليدية" إلى نمط "الحروب الهجينة". فعلى سبيل المثال: أحدثت عملية "طوفان الاقصى" صحوة في النهج التكتيكي للفواعل من دون الدول، وآلياتهم في الحروب اللا-متماثلة، وإسقاطها للسرديات الأمنية الإسرائيلية، وهو ما انعكس بدوره على ظهور عدد من النظريات التكتيكية في مقدمتها "نظرية المسافة صفر" في التعامل مع الاجتياح البري الإسرائيلي للقطاع. وعلى الجانب الآخر، فرضت التحركات المتلاحقة للفواعل الهجينة بدول الجوار (لبنان والعراق وسوريا واليمن) أهمية إعادة النظر في مستقبل أمن المنطقة فيما بعد أحداث غزة، ومدى قدرة تلك الفواعل على إحداث اختراق/ أو توازن في المعادلات الأمنية للشرق الأوسط، فى ظل تراجع مفهوم وأدوار "الدولة الوطنية"، فضلاً عن صعوبة التسوية/ والحل في عددٍ من الدول المأزومة سياسياً.
توترات مُحتملة
دفعت الهجمات الممتدة للجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، فضلاً عن جمود العملية السياسية وفشل انتزاع هدنة إنسانية لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق، إلى إعادة تقييم خيارات العلاقات العربية - الإسرائيلية، وذلك بالنظر إلى المحددات التالية:
- عدم نجاعة موجات التطبيع في إدارة دفة حكومة نتنياهو نحو القبول بالمسار التفاوضي سواء حول إقرار الهدنة الإنسانية، أو ما يتعلق بالحوار وخلق مساحات مشتركة يُبنى عليها آليات الحل وفقاً للتصورات العربية القائمة على الحق في إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.
- إعادة تقييم الأهمية النوعية لجامعة الدول العربية، في ظل تراجع الدور المحوري للجامعة والذي اقتصر على "الحياد المؤسسي" و "إدانة قتل المدنيين من الجانبين".
- تراجع حجم التأثير العربي على المجتمع الدولي، خاصة الكتلة الغربية + الولايات المتحدة الأمريكية، وثنيهم عن الدعم المطلق لإسرائيل ودفعهم لتبني موقفاً أكثر توازناً، مقارنة بملف الحرب الروسية الأوكرانية وتناول أبعادها على كافة المستويات الدولية سواء بأروقة مجلس الأمن أو بدفاعات محكمة العدل الدولية.
تأسيسا على ذلك، تنامت عدداً من الفرضيات الخاصة باستشراف مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية فيما بعد أحداث غزة، وذلك عبر المنظورين السياسي والاقتصادي، حيث:
1. المنظور السياسي: يُبنى بشكل واضح على الموقف العربي من "اتفاقيات التطبيع"، إذ من المُحتمل حدوث جمود في مسار التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل برغم كافة الضغوط الأمريكية. إذ لم يعد بمقدور عدد من العواصم العربية، سواء التي أبرمت اتفاقيات التطبيع أو المُحتملة خلال الفترة القادمة، أن تجد أي مبررات لهذا النهج في ظل تصاعد منحنى الأحداث بغزة. ومن ثم، فالحديث عن توسيع ما يسمى بـ"معسكر السلام" من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية، قد يُعاد النظر إليه مرة أخرى وفقاً لاعتبارين، أولاً: غضب الشعب العربي جراء ما يحدث من "عقاب جماعي" و"إبادة ممنهجة" لشعب غزة، بما قد يضغط على قرارات الحكام العرب نحو تجميد أي مُباحثات قائمة أو مُحتملة في هذا الشأن. وثانياً: الانكشاف الأمريكي في ظل التأييد الكامل للجانب الإسرائيلي دون النظر لأي معايير سياسية أو إنسانية قياساً على تناول الحكومة الديموقراطية والرئيس جو بايدن للحالة الأوكرانية. [4]
2. المنظور الاقتصادي: تتعلق تلك النقطة بغموض مستقبل مشاريع الاندماج، خاصة "الممرات الاقتصادية"، إذ من المُرجح إعادة النظر مرة أخرى في المشروعات التنموية والاقتصادية ذات التشابكات الإقليمية والدولية بالنظر إلى حجم التفاعلات العسكرية لجماعة الحوثيين بالبحر الأحمر، وفي مقدمتها مشروع "الممر الاقتصادي الهندي"، نتيجة لتراجع نشاط ميناء إيلات، فعلى سبيل المثال: وفقاً لتصريحات الرئيس التنفيذي لميناء إيلات الإسرائيلي، فإن نشاط الميناء قد شهد انخفاضاً [5] بنسبة 85% منذ أن كثف الحوثيون في اليمن هجماتهم على السفن في البحر الأحمر كرد فعل لحالة طوافان الأقصى ودعماً لحركة المقاومة حماس. [6]
مجمل القول، يبدو أن الموجة الخامسة من الحرب على غزة، وارتداداتها المتباينة، قد أفضت إلى أهمية إعادة تقييم التصورات العربية لمُعضلة "الأمن الإقليمي" ومستقبل العلاقات العربية - الإسرائيلية، وذلك بالنظر إلى التغيرات التالية:
- ما فرضته الحرب على غزة من أولوية "البُعد الإنساني" في تقييم مستقبل الأمن القومي، وذلك بالنظر إلى استمرار التعنّت الإسرائيلي حول القبول بهدنة إنسانية، فضلاً عن إشكالية التعثر في إدخال المساعدات بصفة مستمرة ومستدامة.
- تداخل التهديدات الداخلية والخارجية للأمن الإقليمي، وذلك بالنظر إلى اتساع الجبهات الصراعية بالمنطقة انطلاقاً من محددين، الأول: مبدأ "وحدة الساحات" بين مختلف فصائل المقاومة بالمنطقة العربية، والثاني: أدوات "الحروب بالوكالة" مثل الحالة الإيرانية وأذرعها في كل من اليمن وسوريا والعراق ولبنان، لإدارة أغلب التفاعلات الصراعية، فضلاً عن إعادة إنتاج التيارات الراديكالية خاصة بالدول المأزومة سياسياً، مقابل تصاعد قوى اليمين المتطرف في تل أبيب.
- اختلال التوازن بين الدراسات النظرية والممارسات العملية حول جدلية العلاقات الأمنية بين النظام العربي منفرداً، والنظام الشرق أوسطي ككل، إذ تتنامى تحركات العسكرة على حساب التفاعلات التنموية والتكاملية بالإقليم. وهو ما يدفع نحو أهمية الإعداد الجيد للترتيبات الأمنية الإقليمية الجديدة فيما بعد اليوم التالي لغزة، والتنسيق المشترك للمهام المتعددة وليست فقط الثنائية بما يحفظ التوازن والاستقرار للأمن الإقليمي.
Previous article
Next article
12 Days ago
17 Days ago
20 Days ago