التحليلات

تناقضات السياسة العالمية تجاه مكافحة الإرهاب

صورة سابقة لقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) حين كان زعيما لجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا. (الصورة بواسطة قناة العربية - تحسين الصورة: مركز سوث24)

31-12-2024 at 10 AM Aden Time

language-symbol

"كانت السنوات الأخيرة قد شهدت تحولات جوهرية في طبيعة الصراع ضد الإرهاب، حيث تحول من مواجهة مباشرة للتنظيمات الإرهابية إلى أداة تستخدمها بعض الدول لتحقيق أهداف سياسية."



سوث24 | إبراهيم علي


تشهد المنطقة العربية، ولا سيما سوريا، تحولات جذرية في المشهد الأمني والسياسي، وذلك عقب صعود هيئة تحرير الشام إلى الواجهة، رغم إدراجها على قوائم الإرهاب الدولية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. هذا التطور يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل مكافحة الإرهاب، ودور اللاعبين الإقليميين والدوليين في تشكيل هذا المشهد المعقد، والتناقضات التي يدار به المشهد الجديد في هذا البلد العربي.


ولا شك أنَّ صعود هيئة تحرير الشام يمثل تحديًا جديدًا لمكافحة الإرهاب، إذ يفرض على المجتمع الدولي إعادة تقييم استراتيجياته التقليدية. فمن جهة، تظهر الحاجة إلى التفكير في حلول سياسية ودبلوماسية موازية للحلول العسكرية، وذلك لمعالجة الأسباب الجذرية للإرهاب. ومن جهة أخرى، يتطلب الأمر تعاونا دوليا أعمق وسياسة أكثر وضوحا وشفافية وقانونية لمواجهة التهديد الإرهابي المتشابك، والذي يتجاوز الحدود الجغرافية.


هل تغير الولايات المتحدة نهجها في مكافحة الإرهاب؟


أما الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة عظمى، فتواجه تحديات كبيرة في إعادة صياغة استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب، على ضوء التطورات الأخيرة في سوريا. فمن المحتمل أن تشهد الفترة المقبلة تغييرات في النهج الأمريكي، إذ قد يتم التركيز بشكل أكبر على الدبلوماسية والتعاون الدولي، مع الحفاظ على القدرة العسكرية كرادع، لكن الأخطر هو أن يتم استخدام التنظيمات الإرهابية كأداة لتحقيق مكاسب سياسية.


وبدورهما، تلعب كل من تركيا وقطر دورا محوريا في المنطقة، وهما تمتلكان علاقات معينة ببعض التنظيمات المصنفة إرهابيا. وعلى الرغم من مساعيهما لتقديم نفسيهما كداعمتين للاستقرار والتنمية، إلا أن علاقاتهما المعقدة ببعض التنظيمات المتطرفة تثير تساؤلات جدية حول أهدافهما الحقيقية. فالتاريخ حافل بأمثلة لدول استخدمت الجماعات المتطرفة كأداة لتحقيق مكاسب سياسية.


وكانت السنوات الأخيرة قد شهدت تحولات جوهرية في طبيعة الصراع ضد الإرهاب، حيث تحول هذا الصراع من مواجهة مباشرة للتنظيمات الإرهابية إلى أداة تستخدمها بعض الدول لتحقيق أهداف سياسية. ولعبت كل من تركيا وقطر فضلا عن إيران، دورًا محوريًا في هذا التحول، حيث سعت إلى التأثير على الولايات المتحدة الأمريكية لتغيير استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب.


فبدلاً من التركيز على القضاء على التنظيمات الإرهابية بشكل جذري، تم توجيه هذه التنظيمات نحو تحقيق أهداف سياسية محددة، كما حدث في سوريا مع هيئة تحرير الشام. فقد تم دعم هذه الجماعة وتسليحها، وتحويلها إلى أداة في الصراع الإقليمي، وهو سيناريو يشبه إلى حد كبير ما حدث في أفغانستان خلال الثمانينات، حيث تم استغلال المجاهدين العرب لتحقيق أهداف جيوسياسية بعيدة المدى.


هذا التحول الخطير في طبيعة الصراع ضد الإرهاب يثير العديد من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذه السياسات، وأثرها على الاستقرار الإقليمي والدولي. فبدلاً من القضاء على الإرهاب، أدت هذه السياسات إلى تعقيد المشهد وتغذية الصراعات، مما يهدد بتحول المنطقة إلى ساحة صراع طويلة الأمد، وسوف تشكل تهديدا مباشرا لأمن واستقرار العديد من الدول.


أوجه الشبه مع أفغانستان


هناك عدة تشابهات لحالة الجماعات المتطرفة في كل من أفغانستان وسوريا، أهمها:


استغلال الجهاديين: في كلتا الحالتين، تم تجنيد وتسليح الجهاديين من مختلف أنحاء العالم، ومنحهم وعودا بتحقيق أهداف إسلامية سامية، في حين كانت الأهداف الحقيقية للدول الداعمة، تتركز في تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية.


تضخيم الصراع: تم تضخيم الصراع في كلا البلدين، وتحويله إلى صراع إيديولوجي طويل الأمد، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية وتشريد الملايين.


صعوبة السيطرة: بعد تحقيق الأهداف المرجوة، وجدت الدول الداعمة صعوبة بالغة في السيطرة على الجماعات الجهادية التي كانت قد أنشأتها ودعمتها.


وتعتبر ظاهرة استغلال الجماعات الجهادية أحد التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع الدولي. فبعد أن يتم تدريب وتسليح هذه الجماعات وتزويدها بالأيديولوجيا المتطرفة، تتحول إلى قوة مستقلة يصعب السيطرة عليها، بل قد تتحول إلى تهديد للدول التي استخدمتهم في البداية، كما حدث في أفغانستان. وفي سوريا، يتكرر نفس السيناريو تقريبا، حيث تم استغلال الجماعات الجهادية لمواجهة النظام السوري، ولكن هذه الجماعات سرعان ما تجاوزت الأهداف التي أنشئت من أجلها، وشكّلت تهديدا مخيفا على المنطقة والعالم أجمع، كما هو الحال مع تنظيم داعش. 


نموذج العراق بالمقلوب


لا شك أنَّ سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في دعم فصائل معينة في الصراعات الإقليمية، كما حدث في العراق وسوريا، تحمل في طياتها عواقب وخيمة على مستوى الاستقرار الإقليمي وتعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية. ففي العراق، تعمق الانقسام الطائفي بشكل كبير نتيجة إيكال الولايات المتحدة مهمة مكافحة الإرهاب لفصائل شيعية إلى جانب الجيش النظامي، إذ عملت تلك الفصائل على تصفية حساباتها مع خصومها من السُنة تحت غطاء مكافحة الإرهاب.


وفي حالة سوريا، فإن استخدام الولايات المتحدة لهيئة تحرير الشام، وهي فصيل يعتبره الكثيرون امتدادا لجبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، ضد الفصائل المدعومة إيرانيا، يمثل خطوة محفوفة بالمخاطر وتنذر بتعقيد الأزمة السورية بشكل أكبر. كما أنَّ من شأن دعم فصيل متطرف أن يعزز من قوة التيارات المتطرفة في المنطقة، ويمنحها الجرأة للبحث عن شرعية دولية، كما تفعل جماعة الحوثيين في اليمن. مما يشجع على انتشار الفكر المتطرف والتجنيد في صفوف هذه الفصائل. إلى جانب أن ذلك يؤدي إلى تصعيد الصراع المسلح ويزيد من عدد الضحايا المدنيين.


إضافة إلى ذلك، سيؤدي هذا النهج في الغالب إلى تعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية في سوريا، حيث يتم تصوير الصراع على أنه صراع سني ـ شيعي، وهو ما يخدم أجندة القوى الإقليمية التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة. كما أنَّ دعم فصائل معينة على حساب أخرى قد يؤدي إلى تقسيم المعارضة السورية ويضعف قدرتها على التفاوض على حل سياسي للأزمة.


ومن دون شك فإن هذا النهج يزيد من تعقيد الأزمة السورية ويجعل من الصعب إيجاد حل سياسي مستدام. فبدلا من التركيز على مكافحة الإرهاب وتوحيد الجهود الدولية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، فإن دعم فصائل متطرفة قد يؤدي إلى تشتيت الجهود الدولية ويزيد من تعقيد المشهد السياسي في سوريا. 


وعليه، فإن سياسة دعم الفصائل المتطرفة في سوريا، هي سياسة قصيرة النظر وعواقبها وخيمة. وعلى الرغم من الخطاب البراغاماتي التي تبديه قيادة هيئة تحرير الشام، ممثلة برئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع (الجولاني)، فيما يتعلق بعلاقاتها مع الأطراف والفئات السورية المختلفة، إلا أنّ ذلك لا يمكن لوحده أنّ يشكل ضمانا لسياسة استراتيجية وبعيدة المدى مع الداخل وتجاه الإقليم.


لذا يتعين على المجتمع الدولي العمل على دعم الحلول السياسية للأزمات الإقليمية، والتركيز على مكافحة الإرهاب، وتعزيز الحوار بين مختلف الأطراف السورية. من الخطأ وسوء التقدير النظر إلى ما حدث في سوريا على أنه تجربة ناجحة في مكافحة الإرهاب، من خلال الاحتواء، ومحاولة نقل التجربة إلى بلدان أخرى تعيش ظروفا سياسية وأمنية مشابهة.


من المهم الإشارة إلى أنه وبعد أكثر من عقد من الحرب على الإرهاب في العراق، عاد تنظيم الدولة وسيطر على أكثر من نصف هذا البلد، لأنَّ دعم هذه الحرب قام على أساس طائفي، على الأقل في نظر سُنَّة العراق.


النموذج اليمني


وبالنسبة إلى اليمن، وعقب انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، شهدت البلاد عودة أعداد كبيرة من الجهاديين اليمنيين والعرب الذين شاركوا في الجهاد ضد القوات السوفيتية. هؤلاء الجهاديون، المدربون على أساليب القتال وحرب العصابات، شكلوا نواة لتأسيس فرع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، انخرط كبار قادتهم في الحرب اليمنية ضد الجنوب في 1994، وصنفته لاحقا وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كأخطر أفرع التنظيم على مستوى العالم.


يعكس تأسيس تنظيم القاعدة في اليمن نمطا متكررا في تاريخ الصراعات الدولية، حيث يتم استغلال الجماعات المتطرفة كأداة لتحقيق أهداف سياسية قصيرة المدى، دون الأخذ في الاعتبار العواقب الوخيمة التي قد تترتب على ذلك. فالجهاديون الذين توجهوا إلى أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفيتي، بدعم من قوى إقليمية ودولية، تحولوا فيما بعد إلى تهديد أمني عالمي. ولا يزال تنظيم القاعدة اليوم يتم استغلاله سياسيا لحسابات قوى دينية وسياسية ضد القوات الجنوبية التابعة للمجلس الانتقالي. 


ويمكن للتجربة اليمنية أن تلقي بظلالها على فهمنا لأسباب انتشار التطرف والإرهاب، لأن الجهاديين هم في الغالب ضحايا ظروف سياسية واجتماعية معقدة، يتم استغلالهم من قبل قوى أكبر لتحقيق أجندات خاصة بها. لذلك، فإن مكافحة الإرهاب تتطلب مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار الأسباب الجذرية لهذا الظاهرة، إلى جانب مواجهة التنظيمات الإرهابية عسكريا وأمنيا. كما يتعين على المجتمع الدولي التعاون بشكل وثيق لمنع تكرار تجارب الماضي، وضمان عدم استخدام الجماعات المتطرفة كأداة في الصراعات الدولية وتوظيفها لحسابات مصالحه الخاصة.


الانخداع بالمرونة


وبناء على ما تقدم، لا ينبغي أن ينخدع المجتمع الدولي بالمرونة والتكيّف الذي تبديه التنظيمات المتطرفة بعد استخدامها كأداة لتحقيق أهداف سياسية. فبينما تبدو هذه التنظيمات قادرة على التأقلم مع الظروف المتغيرة وتغيير خطابها وأساليب عملها، إلا أنَّ هذا لا ينفي حقيقة أنها تحمل في طياتها تهديدا مستقبليا كبيرا. فالتنظيمات الإرهابية كائنات متطورة وقادرة على التكيف، ولكنها في الوقت نفسه تحمل فكرا متطرفًا لا يتغير بسهولة. وقد أثبت التاريخ أنَّ هذه التنظيمات، بعد أن تحقق لها ما تريد، سرعان ما تكشف عن وجهها الحقيقي، وتبدأ في تهديد الدول التي دعمتها في السابق. والتجربة الأفغانية خير مثال على ذلك، حيث تحولت الحركات الجهادية التي تم دعمها لمواجهة الاتحاد السوفيتي إلى تهديد عالمي بعد تحقيق هدفها، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن الأمريكيتين لتؤكد هذه الحقيقة، إلى جانب العمليات الخارجية التي نفذها الفرع اليمني لتنظيم القاعدة. ومن هنا يمكن القول إن الاغترار بالمرونة التي قد تبديها هذه التنظيمات هو أمر خطير، فالتاريخ يعيد نفسه، وقد نشهد في المستقبل القريب تكرار سيناريوهات مشابهة في مناطق أخرى من العالم. 


التحديات المستقبلية


ثمة مخاطر مستقبلية غير عادية للاستثمار في التنظيمات الإرهابية، ومن أبرزها:


تعددية الأهداف: تتعدد الأهداف التي تسعى إليها الدول الداعمة للجماعات المتطرفة، مما يجعل من الصعب التنبؤ بسلوكها.


التحولات السريعة: يشهد المشهد الإقليمي تحولات سريعة، مما يستدعي تكييف الاستراتيجيات بشكل مستمر.


التحديات الأخلاقية والقانونية: تواجه الدول الداعمة للإرهاب أو المستغلة له تحديات أخلاقية وقانونية، حيث قد تتحمل مسؤولية الجرائم التي ترتكبها هذه التنظيمات.

 

وفي النهاية، يشكّل صعود هيئة تحرير الشام في سوريا نقطة تحول في مسار مكافحة الإرهاب، ويطرح تحديات جديدة أمام المجتمع الدولي. ويتطلب مواجهة هذا التحدي نهجا متعدد الأبعاد، يجمع بين الحلول العسكرية والسياسية والدبلوماسية والمقاربات القانونية والأخلاقية التي تحكم هذا النهج. كما يتعين على المجتمع الدولي مراقبة دور الدول الإقليمية، وتقييم مدى تأثيرها على مشهد العنف في المنطقة من خلال استخدام وتوجيه تلك التنظيمات، لتحقيق أهداف سياسية وغيرها.


إبراهيم علي

هو اسم مستعار لباحث متخصص في شؤون الجماعات المسلّحة، طلب إخفاء هويته لأسباب شخصية

Shared Post
Subscribe

Read also