عربي

سوريا: الانتقال من عباءة النفوذ الإيراني إلى التركي

أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام يلتقي وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في دمشق. الصورة: رويترز

03-01-2025 at 1 PM Aden Time

language-symbol

"بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، شهدت سوريا تراجعًا في النفوذ الإيراني مقابل تصاعد غير مسبوق للنفوذ التركي، حيث سعت أنقرة لتوظيف هذه التغيرات لتحقيق مكاسب استراتيجية وأمنية واقتصادية."



سوث24 | محمد فوزي


إذا كانت أحد النتائج المباشرة للمتغيرات الأخيرة التي شهدتها سوريا بعد الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، تتمثل في انحسار النفوذ الإيراني،فإنّ هذا المتغير كان مصحوباً في الوقت ذاته بتعاظم النفوذ التركي في سوريا بشكل غير مسبوق. ويرجع ذلك إما لكون تركيا هي الداعم الأكبر للمجموعات التي سيطرت على الحكم وأطاحت بـ "الأسد"، أو لجهة كون رصد التحركات التركية في مرحلة ما بعد سقوط "الأسد" يكشف عن مساعي تركية لتوظيف هذه المتغيرات، من أجل تحقيق العديد من المكاسب الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية. 


ملامح التحركات التركية ما بعد "الأسد"


تبنّت تركيا، في مرحلة ما بعد 8 ديسمبر 2024، أي عقب الإطاحة ببشار الأسد، مقاربة متعددة الأبعاد للتعامل مع التطورات الأخيرة وتوظيفها بما يعزز نفوذها الجيوسياسي ويحقق مكاسب استراتيجية متعددة. ويمكن رصد معالم هذه المقاربة من خلال المؤشرات التالية:


1- الدور التركي في الإطاحة بـ "الأسد": بعيداً عن التفسيرات التي تُرجّح دوراً أمريكياً أو إسرائيلياً في المتغيرات الأخيرة التي شهدتها سوريا، في إطار سياق إقليمي عام يسعى لتحجيم النفوذ الميليشياوي الإيراني، فإن عملية "ردع العدوان" والإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد جاءت، على الأرجح، بإسناد ودعم تركي. ويعود ذلك لعدة اعتبارات: أولاً: النفوذ التركي الواسع في شمال سوريا على المستويات الأمنية، والاقتصادية، والمدنية، يجعل من الصعب تصور إتمام هذه العملية دون علم تركيا بها. ثانياً: تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، التي أكد فيها أنّ "تركيا أقنعت كلاً من روسيا وإيران بعدم التدخل لدعم الرئيس السابق بشار الأسد". ثالثاً: مشاركة العديد من الفصائل الموالية لتركيا في العملية العسكرية، مثل هيئة تحرير الشام، والحزب الإسلامي التركماني، وكتائب نور الدين الزنكي، والتي تعتمد بشكل كبير على الدعم الاقتصادي والعسكري التركي. ورابعاً: إطلاق فصيل الجيش السوري الحر، المحسوب على تركيا، عملية عسكرية متزامنة في منطقة تل رفعت ذات النفوذ الكردي، تحت اسم "فجر الحرية"، استهدفت إنهاء نفوذ قوات سوريا الديمقراطية "قسد". هذا التحرك عكس استراتيجياً سياسة متعددة المستويات؛ فمن جهة، الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، ومن جهة أخرى، القضاء على نفوذ "قسد" شمال شرقي سوريا.


2- الاحتفاء السياسي بالإطاحة ببشار الأسد: كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أول المسؤولين الرسميين الذين احتفوا بالإطاحة بحكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد. ففي خطاب له بتاريخ 9 ديسمبر 2024، أشار إلى أن "سوريا تدخل مرحلة جديدة في تاريخها بعد الإطاحة بحكم البعث الديكتاتوري"، مؤكداً أنّ "تركيا دعت سابقاً إلى حل الأزمة عبر الحوار، لكن النظام السوري رفض، ووقفت تركيا في وجه الظلم بسوريا".


كما أكّد أردوغان أن "تركيا تحقق أهدافها وتقف إلى جانب الشعب السوري بكل أطيافه". يبدو أن الرئيس التركي تطرق بشكل غير مباشر إلى شروط نظام الأسد السابقة للتطبيع مع تركيا، غير أن الخطاب عموماً عبّر عن الموقف التركي الرسمي الذي غلب عليه الاحتفاء بالتطورات الأخيرة في سوريا ودعمها.


3- مسارعة المسؤولين الأتراك لبناء علاقات مع الإدارة الجديدة: تميّز التعاطي التركي مع المستجدات في سوريا بسرعة التحرك لبناء علاقات مع الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني. وقد برز ذلك من خلال عدة مؤشرات: أولاً: زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى سوريا ولقاؤه بأحمد الشرع، حيث أكّد الطرفان خلال اللقاء على أهمية العلاقات الاستراتيجية بين الجانبين وضرورة تعزيزها. ثانياً: تقارير أشارت إلى زيارة مرتقبة لخمسة وزراء أتراك، من بينهم وزراء الطاقة والدفاع، إلى سوريا في المرحلة المقبلة. وثالثاً: تصريحات وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو، التي أشار فيها إلى نية بلاده بدء مفاوضات مع الحكومة السورية الجديدة بشأن اتفاق لترسيم الحدود البحرية.


المكاسب التركية الأخيرة في سوريا


عملياً، كانت تركيا المستفيد الأكبر من الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد، وذلك استناداً إلى عدة اعتبارات، أبرزها تحولها إلى الفاعل الأهم في الملف السوري، خاصةً في ظل تراجع النفوذ الروسي والإيراني. وقد دفعت هذه المتغيرات باتجاه تمكين تركيا من تحقيق مكاسب استراتيجية متعددة، يمكن تلخيصها في ضوء المؤشرات التالية:


- إنهاء الاشتراطات السورية لعودة العلاقات: قبل الإطاحة ببشار الأسد، كان ملف تطبيع العلاقات الثنائية بين تركيا وسوريا من أبرز القضايا العالقة بين البلدين، حيث ارتبطت المفاوضات بعدد من الاشتراطات السورية، أبرزها: وقف دعم الفصائل المسلحة وتفكيكها، وسحب الوجود العسكري التركي من مناطق الشمال، وتسليم المعابر الحدودية لإدارة النظام السابق. مع الإطاحة بالأسد، تجاوزت تركيا هذه العقبات، مما عزز فكرة تحقيق تطبيع كامل للعلاقات مع سوريا دون الحاجة لتنفيذ هذه الاشتراطات. وقد ضمنت تركيا، بذلك، وجوداً واسعاً في سوريا على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، لا سيما على المديين القريب والمتوسط.


- الفاعل العسكري الأهم في سوريا: مع انحسار النفوذ العسكري الإيراني من سوريا وانهيار الجيش الوطني السوري، وتراجع النفوذ الروسي، تحوّلت تركيا إلى الفاعل العسكري الأهم في سوريا، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل. أولا:  الانتشار العسكري التركي المباشر الواسع في بعض مناطق الشمال السوري مثل، الحسكة والرقة وحلب وإدلب واللاذقية وحماة، والشريط الحدودي للمناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وتشير التقديرات إلى أنّ تركيا تتمركز في 129 موقعاً أمنياً وعسكرياً. ثانيا: تركيا تسيطر عملياً على العديد من مناطق الشمال أيضاً من خلال الفصائل المحسوبة عليها وعلى رأسها الجيش السوري الحر. ثالثا:  من خلال اتساع نطاق هيئة تحرير الشام في سوريا، فإنّ تركيا باتت عملياً تحاصر مناطق النفوذ الكردي.


- تنفيذ مشاريع اقتصادية كبرى: بعد الإطاحة ببشار الأسد، برز الحديث في تركيا عن عدد من المشاريع الاقتصادية الكبرى في سوريا، وفي مقدمتها مشروع خط الغاز القطري-التركي الواصل إلى أوروبا. من المتوقع أن يمر المشروع من حقل الشمال القطري عبر السعودية والأردن وسوريا، وصولاً إلى "غازي عنتاب" في تركيا، ومنها إلى أوروبا عبر بلغاريا. ويُعد هذا المشروع ركيزة أساسية في الاستراتيجية التركية الرامية إلى التحول لمركز إقليمي للطاقة.



مشروع نقل الغاز القطري عبر تركيا إلى أوروبا (الرسم: الأناضول)


بالإضافة إلى ذلك، تطمح تركيا إلى لعب دور محوري في عملية إعادة إعمار سوريا، مستغلة حجم الدمار الكبير الذي طال البنية التحتية السورية منذ 2011، بهدف زيادة الاعتماد السوري على الدعم التركي، خصوصاً في مجالات الطاقة والكهرباء وإعادة تأهيل الموانئ والبنى التحتية الحيوية.


في هذا السياق، صرح وزير النقل والبنية التحتية بأنّ تركيا تعتزم بدء مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع سوريا، مشيراً إلى أن هذا الاتفاق "سيغيّر كل التوازنات" في  المنطقة.  من شأن مثل هذا الاتفاق أن يعزز من التموضع التركي في منطقة شرق المتوسط، ويزيد من فرص وحظوظ تركيا في مجال الاستكشافات الطاقوية.


- تحجيم نفوذ أكراد سوريا: تزامناً مع عملية "ردع العدوان"، أطلقت الفصائل الموالية لتركيا، وعلى رأسها "الجيش السوري الحر"، عملية "فجر الحرية" الهادفة إلى القضاء على النفوذ الكردي في شمال شرقي سوريا. واشتدت المعارك في ريف منبج، كما اندلعت اشتباكات بريف الحسكة. بالإضافة إلى ذلك، نفذت تركيا قصفاً صاروخياً استهدف عدداً من القرى في ريف كوباني/عين العرب الجنوبي.


تدرك تركيا أن مسألة "الإدارة الذاتية الكردية" أو قيام دولة كردية على حدودها الشمالية يمثل خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، ولذلك تسعى لاستثمار المتغيرات السياسية لصالحها. ومن اللافت أن بعض الفصائل الموالية لتركيا رفضت الانضمام إلى الجيش السوري الجديد الذي تشكله هيئة تحرير الشام، وهو ما يعكس رغبة أنقرة في ربط هذه الفصائل بشكل مباشر بالمعارك ضد "قسد" لضمان ولائها وتحجيم نفوذها المستقبلي. في المقابل، تواجه تركيا تحدياً كبيراً يتمثل في الموقف الأمريكي الرافض للمساس بالأكراد، حيث يلوح بعض المشرعين الأمريكيين بفرض عقوبات على تركيا إذا واصلت عملياتها ضد "قسد".


- تعزيز الوزن الجيوسياسي والاستراتيجي: أحد المستهدفات الرئيسية لتركيا في إطار توظيف المتغيرات الأخيرة في سوريا تتمثل في تعزيز الوزن الاستراتيجي والجيوسياسي لها على الساحة العالمية، من خلال إمساكها بالعديد من أوراق الضغط، التي تجعل تركيا وجهة للعديد من الدول.  وتجسّد ذلك بشكل واضح في زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى تركيا في 17 ديسمبر 2024، وهي الأولى منذ سقوط نظام الأسد، ما يعكس حرص الاتحاد الأوروبي على الاستفادة من الثقل التركي لضمان حماية مصالحه في سوريا ومنع حدوث موجة لجوء جديدة أو استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب من قبل التنظيمات المسلحة.


كذلك تزامنت كل هذه المتغيرات مع إعلان الرئيس التركي عن "مصالحة تاريخية" بين إثيوبيا والصومال لإنهاء التوترات فيما بينهما، ونيته زيارة البلدين في 2025. كل ذلك يعكس مساعي أنقرة للتحوّل إلى لاعب بالغ الأهمية في منطقتي الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وفي منطقة القرن الإفريقي، وهي كلها تحركات تأتي في إطار المقاربة العابرة للحدود التي يتبناها حزب العدالة والتنمية في تركيا.


إجمالاً، يمكن القول إنّ المتغيرات الأخيرة في سوريا والإطاحة بحكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد، حولت سوريا من ساحة للنفوذ الإيراني بشكل كبير إلى ساحة للنفوذ التركي بشكل شبه مطلق، لكن ذلك لا يعني أنّ الحسابات التركية فقط سوف تكون المحدد الرئيسي لملامح التوجهات المستقبلية في سوريا الجديدة، على اعتبار وجود حالة من الانفتاح العربي وخصوصاً الخليجي تجاه الإدارة الجديدة في سوريا، فضلاً عن الحسابات الأمريكية والإسرائيلية في الملف السوري، والحسابات البراغماتية للإدارة السورية الجديدة.


محمد فوزي

خبير مصري متخصص في شؤون الأمن الإقليمي، باحث غير مقيم في مركز سوث24 للأخبار والدراسات

Shared Post
Subscribe
Popular

Read also