صورة من: SANA/UPI Photo/Newscom/picture alliance
Last updated on: 13-03-2025 at 9 PM Aden Time
"هو اتفاق تاريخي من حيث توقيته ومضمونه، وتداعياته المحتملة، لكن هذا لا ينفي مواجهة هذا الاتفاق لمجموعة من التحديات الملحة.."
سوث24 | محمد فوزي
بعد أسابيع من المباحثات الثنائية بينهما وقعت الإدارة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع، اتفاقاً مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهو الاتفاق الذي أنهى من جانب بمسيرة امتدت لنحو ثلاثة عشر عاماً كانت فيها "قسد" فاعلاً سياسياً وميدانياً رئيسياً في الساحة السورية، ومن جانب فتح الباب أمام تداعيات كبيرة على مستوى المشهد السياسي السوري، ومشاركة المكوّن الكردي في مستقبل العملية السياسية الراهنة في البلاد، وفي هذا السياق تحاول هذه الورقة الوقوف على الحيثيات والسياقات الخاصة بهذا الاتفاق التاريخي، وتداعياته المحتملة على المسار السياسي والأمني في سوريا، بالإضافة للتحديات المحتملة التي قد تواجهه.
أولاً- حيثيات الاتفاق
كان لافتاً أن الاتفاق الأخير بين الإدارة السورية الحالية وبين "قسد" غلب عليه "الواقعية السياسية"، مع قبول الطرفين تقديم تنازلات تدفع باتجاه تغليب "الحلول الوسط"، فضلاً عن حضور بعض العوامل الداخلية والخارجية في ثنايا مشهد إخراج هذا الاتفاق، وهي الملاحظات التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الاعتراف بالحقوق الخاصة بالأكراد: كان لافتاً في الاتفاق الأخير بين الإدارة السورية وبين "قسد"، تأكيده في بنديه الأولين على ضرورة ضمان "حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة، بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية"، وأنّ "المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية"، وترتبط أهمية هذه المواد بكونها اعترافاً سياسياً وقانونياً تاريخياً بقي الكرد يكافحون من أجله لعقود طويلة، مع امتناع نظم الحكم المتعاقبة في سوريا عن إقراره دستورياً وقانونياً. وتعني هذه البنود عملياً دمج الأكراد في المؤسسات السورية، ليس باعتبارهم أقلية عرقية، ولكن باعتبارهم مواطنين سوريين لهم حقوق مدنية وسياسية ككل المواطنين السوريين.
2- استبعاد فكرة اللامركزية الجغرافية/السياسية: ألغى هذا الاتفاق عملياً أو أبعد أي إقرار باللامركزية الجغرافية/السياسية التي كانت القوى السياسية الكردية السورية تطالب به طوال السنوات الماضية، فالاتفاق المبرم، ينص صراحة على تفكيك المؤسسات البديلة التي شيدتها الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا طوال السنوات الماضية، وإعادة هيكلتها ضمن النسيج الوطني وضمن مؤسسات الإدارة السورية الحالية.
كذلك نص البند الرابع من الاتفاق على "دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز"، وهذا يعني عملياً مد سيطرة الإدارة الجديدة إلى مناطق شمال وشرق سوريا، بما في ذلك النقاط اللوجستية المهمة والحدودية، فضلاً عن قدرة الإدارة السورية الجديدة على السيطرة على حقول النفط والغاز والاستفادة من عوائدها.
3- التضامن الأمني وإنهاء المواجهات الثنائية: بموجب الاتفاق صارت قوات سوريا الديمقراطية جزءاً من الجهد الكلي للسلطة الجديدة في محاربة بقايا النظام السابق، حيث تم النص في الاتفاق على: "دعم الدولة السورية في مكافحتها لفلول الأسد وكافة التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها"، وبناءً عليه سوف تنتهي بموجب هذا الاتفاق المواجهات التي كانت تندلع في مناطق شمال وشرق سوريا وضمنياً المواجهات بين الفصائل المحسوبة على تركيا وبين قوات "قسد". على اعتبار أنّ الشرط التركي لوقف هذه العمليات كان مرتبطاً بانضواء "قسد" تحت الإدارة السورية الجديدة.
4- توقيع اتفاق مع وجهاء وفصائل السويداء: كأحد الارتدادات السريعة للاتفاق الخاص بالإدارة السورية مع "قسد"، وقعت هذه الإدارة اتفاقاً مع فصائل ووجهاء محافظة السويداء، كما التقى رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، في دمشق، محافظ السويداء مصطفى البكور وعدداً من نشطاء المحافظة، وهو الاتفاق الذي نص على دمج الفصائل في السويداء ضمن وزارة الدفاع، وتعيين الإدارة السورية قائداً للشرطة ونائباً له في السويداء، ونائباً ثانياً من أبناء المحافظة، ويضمن الاتفاق دخول 300 عنصر من الأمن العام إلى المحافظة بشكل فوري، بالإضافة إلى إعادة 600 عنصر إلى سلك الشرطة من أبناء محافظة السويداء الذين سووا أوضاعهم.
ثانياً- السياق العام للاتفاق
كان هناك مجموعة من السياقات والعوامل الرئيسية التي ساهمت على مدار الأسابيع الماضية في الوصول إلى هذا الاتفاق التاريخي، وهي العوامل التي يمكن تناولها في إطار الآتي:
1- تداعيات الإطاحة بنظام "الأسد": شهدت المرحلة فيما بعد الإطاحة ببشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، العديد من المتغيرات والتداعيات التي أدت عملياً إلى ضغوط على "قسد" من أجل القبول بالتوصل لهذا الاتفاق، وأولها تثبيت الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع لحكمها وسيطرتها على غالب التراب السوري، وثانيها المؤشرات الكبيرة على انفتاح إقليمي ودولي نسبي على هذه الإدارة، وثالثها تأكيد الإدارة الجديدة رفضها وجود أي كيانات مسلحة خارج إطار الجيش السوري الجديد المزمع تشكيله، فضلاً عن تأكيدها ضرورة تسليم السيطرة الأمنية والإدارية في دير الزور والرقة والحسكة وما تبقى من ريف حلب إلى الحكومة السورية الجديدة، ورابعها انحسار الخيارات الخاصة بـ "قسد" على المستوى السياسي، على اعتبار أنها لم تستطع خلال السنوات الماضية وحتى اليوم كسب الشرعية فيما يتعلق بنموذج الإدارة الذاتية أو حتى الدخول تحت مظلة الكيانات المعارضة المعترف بها.
2- نداء "عبد الله أوجلان" بإلقاء السلاح: أصدر زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان، في أواخر فبراير 2025، نداءً تاريخياً بسبب ما جاء فيه من مطالب، والسياق العام الإقليمي الذي جاء فيه، حيث دعا "أوجلان" إلى حل هياكل الحزب وإلقاء السلاح، والانخراط في عملية سياسية لتأكيد التآخي الكردي التركي، وبناء هيكلية جديدة للمجتمع في تركيا، تقوم على المجانسة بين الأطر التعددية بصورة طوعية وليست قسرية.
وارتبطت أهمية هذه الدعوة بمجموعة من الاعتبارات الرئيسية، أولها أنّ هناك علاقات عضوية وارتباطية كبيرة تربط "قسد" وحزب العمال الكردستاني، سواء على مستوى القيادات أو الأيديولوجيا أو البنية التنظيمية، وثانيها أنّ عدم تماهي "قسد" مع هذا النداء وهذه المطالب من "أوجلان" سوف يتبعه استمرار وجودها في مرمى الاستهدافين، السوري والتركي، كما أنه سيزيد من عزلة "قسد" الجماهيرية داخل الأوساط الكردية، وثالثها أن عدم الاستجابة لهذا النداء قد يتبعه رفع عباءة الدعم العسكري من حزب العمال الكردستاني عن "قسد". وبالتالي كان لهذا النداء انعكاساته على مستوى إبداء "قسد" المزيد من المرونة في مباحثاتها مع الإدارة السورية الجديدة.
3- الإشكالات البنيوية التي تواجه مناطق الإدارة الذاتية: رغم أنّ مناطق الإدارة الذاتية الكردية التي كانت تسيطر عليها "قسد"، كانت تعتمد بشكل كبير على موارد النفط والغاز والمساعدات الخارجية، وكانت تشمل إعفاءات أمريكية من العقوبات في بعض القطاعات، إلا أنّ هناك أزمات بنيوية عميقة كانت تعاني منها هذه الإدارة، خصوصاً على وقع الحصار المفروض عليها لا سيّما في مرحلة ما بعد الإطاحة بـ "الأسد"، وقد تجسدت هذه الأزمات في العديد من المظاهر، ومنها تهالك البنية التحتية، وتوتر العلاقات مع المكون العربي في هذه المناطق، والفساد المستشري في مؤسسات الإدارة الذاتية، وهي الأزمات التي كانت معرضة للتفاقم في أعقاب القرار الخاص بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوقف برامج المنح والمساعدات الخارجية، وهي المنح التي كانت تعتمد عليها أغلب المنظمات الإنسانية المحلية والدولية الناشطة في سوريا بشكل عام وشمال شرق بشكل خاص.
4- العامل الأمريكي في الاتفاق: تكشف العديد من المؤشرات عن حضور قوي للولايات المتحدة في ثنايا عملية إنجاز الاتفاق الأخير، وقد تجسّد ذلك في مجموعة من المؤشرات الرئيسية، أولها تأكيد المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" فرهاد شامي، أنّ "الاتفاق الأخير تم التوصل إليه بوساطة أمريكية، وأن الأمريكان يعدون طرفاً رئيسياً في هذا الاتفاق"، وثانيها إعلان وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، أنّ واشنطن ترحب بالاتفاق بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية.
وقد وضعت تصريحات "شامي" جنباً إلى جنب مع تصريحات في نفس اليوم لأحمد الشرع، أكد فيها أنه لا يوجد تواصل حتى اللحظة مع الإدارة الأمريكية، فهذا يعني عملياً أنّ من مثّل الإدارة السورية الجديدة في المباحثات مع الجانب الأمريكي هو تركيا، بمعنى أنّ هذا الاتفاق ليس اتفاقاً فقط بين الإدارة السورية و"قسد"، بل هو قبل ذلك اتفاق تركي أمريكي، ويبدو أن أولويات الولايات المتحدة سوف تُركز على مسألة تحجيم النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، والحيلولة دون أي تحركات ضد التوسعات الإسرائيلية في الجنوب السوري، فضلاً عن ملف مكافحة تنظيم داعش.
5- تزامن الاتفاق مع أحداث العنف بالساحل السوري: كان لافتاً أنّ الاتفاق الأخير بين الإدارة السورية بقيادة أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، جاء في أعقاب أحداث عنف دامية شهدتها مناطق الساحل السوري، في يومي 6 و7 مارس 2025، وذلك بعد اشتباكات أمنية هي الأعنف منذ سقوط الأسد، بين قوات الأمن المحسوبة على الإدارة الجديدة، وبين فلول نظام الأسد، خصوصاً في مناطق جبلة وطرطوس واللاذقية، وهي الاشتباكات والتصعيد الذي أدى وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان إلى مقتل 973 مدنياً وإصابة المئات.
وقد أدت هذه الأحداث عملياً وبشكل ضمني إلى تسريع وتيرة التوقيع على الاتفاق، وذلك لاعتبارات عديدة، أولها أنّ هذه الاشتباكات أدت عملياً إلى توسيع نطاق نفوذ وتواجد الإدارة السورية الجديدة في مناطق الساحل السوري، وثانيها أنّ هذه الاشتباكات أثارت تخوفات أمريكية تركية من محاولات من فلول النظام السابق وربما بدعم إيراني إلى العودة إلى المشهد، وثالثها أنّ هذه الأحداث أكدت على الطابع شديد العنف الذي ستنتهجه الإدارة الذاتية الجديدة في إطار التعاطي مع أي توجهات تصعيدية أو انفصالية.
ثالثاً- التداعيات المحتملة للاتفاق
كما سبق الإشارة يعد الاتفاق الأخير بين الإدارة السورية بقيادة أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية تاريخياً ليس فقط على مستوى الحيثيات السابق الإشارة إليها، ولكن أيضاً على مستوى تداعياته على المشهد السوري، وهي التداعيات التي يمكن تناولها في ضوء النقاط التالية:
• يدفع الاتفاق عملياً باتجاه حضور المكوّن الكردي بشكل كبير في إطار الإدارة السورية الجديدة، مع التأسيس قانونياً ودستورياً لهذا الحضور، في إطار التوجه نحو إقرار وثيقة دستورية ومجموعة من التشريعات الجديدة، كما أنه يزيد من حالة الأمن المجتمعي على اعتبار أنه يُنهي نسبياً حالة التصعيد بين الإدارة السورية وبين الأكراد، وتباعاً حالة التصعيد التركي.
• يبدو أنّ الامتيازات التي ستقدمها الإدارة السورية للأكراد تعريجاً على الاتفاق سوف تُركز على الحقوق السياسية والمدنية والثقافية، تحت قاعدة "المواطنة"، مع فتح الباب أمام انضمام الأكراد إلى مؤسستي الأمن والجيش، مع إمكانية منح رتب عسكرية لعدد من القيادات السورية في "قسد".
• يؤدي هذا الاتفاق عملياً إلى زيادة سيطرة الإدارة السورية الجديدة على غالب التراب السوري، باستثناء مناطق الجنوب، والتي تشهد من جانب استمراراً للتوسعات الإسرائيلية ومن جانب آخر رفضاً من بعض الطوائف والفصائل لفكرة الانضواء تحت لواء الإدارة الجديدة، وتكشف المؤشرات الراهنة عن أن تل أبيب تسعى إلى إنشاء منطقة عازلة تشمل الجنوب السوري بأكمله على أن يكون جنوباً منزوع السلاح الثقيل ولا تتواجد فيه قوات أمن عسكرية نظامية تابعة للإدارة السورية الجديدة، مع السعي لاستقطاب بعض المكونات الطائفية في الجنوب.
• من المفترض أن يتبع هذا الاتفاق مباشرةً سيطرة الإدارة السورية الجديدة على المخيمات والسجون الداعشية والنقاط الأمنية في شمال شرق سوريا، لكن الأهم هو أنّ الاتفاق من المفترض أن يتبعه سيطرة الإدارة السورية على كافة موارد الاقتصاد خصوصاً موارد النفط والغاز والزراعة، وهو أمر سيحمل تداعيات اقتصادية إيجابية بالنسبة للإدارة السورية.
• على المستوى الأمني، يبدو أنّ الفترات المقبلة سوف تشهد تواجداً أكبر للإدارة السورية الجديدة في شمال شرق سوريا، فضلاً عن احتمالية وجود تفاهمات أمنية تركية أمريكية بخصوص العديد من الملفات خصوصاً ما يتصل بتأمين الحدود، وحماية الأكراد، فضلاً عن ملف السجون والمخيمات الداعشية. كذلك يُتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تسريحاً لكافة العناصر الأجنبية العسكرية الموجودة في شمال شرق سوريا.
ختاماً يمكن القول، إنّ الاتفاق الأخير بين الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية بقيادة مظلوم عبدي، هو اتفاق تاريخي من حيث توقيته ومضمونه، وتداعياته المحتملة، لكن هذا لا ينفي مواجهة هذا الاتفاق لمجموعة من التحديات الملحة، بعضها يرتبط بطبيعة الخطط الموجودة لتنفيذه عملياً على الأرض، وبعضها يرتبط بوجود تيارات كردية مناوئة للاتفاق ومستمرة في عدائها لتركيا والإدارة السورية الجديدة، وبعضها يرتبط بمدى التزام الإدارة السورية بالحقوق الأصيلة للمكوّن الكردي.
Previous article