التحليلات

مفارقة الطاقة الشمسية بعدن: ثورة خضراء ما زالت يغذّيها الديزل

محطة عدن للطاقة الشمسية (الصورة مقدمة من مؤسسة الكهرباء لمركز سوث24)

06-11-2025 at 3 PM Aden Time

"تعد محطة الطاقة الشمسية في عدن بمثابة معلم لمستقبل الطاقة النظيفة، إلا أنها لا تزال سجينة للماضي المعتمد على الديزل والذي كان من المفترض أن تتجاوزه."


سوث24 | أحمد باحكيم


تحولت أزمة الكهرباء المزمنة في عدن إلى واحدة من أبرز دراسات الحالة في الشرق الأوسط التي تكشف كيف تتقاطع إخفاقات البنية التحتية والسياسة والتخطيط لتنتج واقعًا معقدًا. فالمدينة تعيش على وقع انقطاعات كهربائية تتجاوز عشرين ساعة يوميًا. وتعتمد المستشفيات العامة على مولدات طوارئ مهددة بالتوقف في أي لحظة، بينما تتعطل محطات ضخ المياه بشكل متقطع. وأصبحت الأسر تنظم يومها حول لحظات قصيرة من التيار — ساعة عند الفجر، ودقائق قبل منتصف الليل.ما يُفترض أن يكون شبكة كهربائية حضرية متكاملة بات أشبه بخط نجاة مؤقت يُرقّع يومًا بيوم.


ورغم هذا الواقع، فإن عدن تحتضن واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية التي شُيدت في اليمن [1]. فهي منشأة حديثة بتصميم هندسي متطور تمثل استثمارًا ضخمًا وجهد تخطيط استمر لسنوات، ومحاولة جادة للتحرر من دائرة الاعتماد على وقود الديزل التي استنزفت خزائن الدولة لعقود. على الورق، كان يفترض أن يكون هذا المشروع بداية حقبة جديدة للطاقة وأساسًا للاستقرار في مدينة أنهكتها الحرب والانهيار الاقتصادي وانقطاع الكهرباء المزمن. لكن التحول لم يتحقق. فبعد أشهر من بدء المحطة بتزويد الشبكة، بدا وضع الكهرباء في عدن كما هو، بل ازدادت الانقطاعات في بعض المناطق طولًا وفوضى. لم تتحول المنشأة إلى مصدر طاقة مستقل كما كان مأمولًا، بل بُنيت بطريقة ربطتها بشكل مباشر بالنظام الهش القائم على حرق الوقود الذي أُنشئت لاستبداله.


هذه المفارقة لم تكن بسبب فشل تقني؛ فالمحطة الشمسية تعمل بكفاءة، والألواح تنتج الكهرباء كما هو متوقع، والمحولات تستجيب على النحو الصحيح، والهندسة وراء التركيب سليمة. يكمن الخلل لا في الأجهزة، بل في القرارات التي صاغت المشروع منذ بدايته — قرارات ضمنت أن المحطة لن تتمكن يومًا من الاعتماد على ذاتها.


يحلل هذا التقرير كيف حدث ذلك: الثغرات التخطيطية، والأخطاء الفنية، والقصور في السياسات، والخيارات الإدارية التي قوّضت المشروع منذ مراحله الأولى. وتكشف قصة مفارقة عدن الشمسية أكثر من مجرد محطة طاقة مشلولة؛ إنها تكشف عن أزمة أعمق في حوكمة البنية التحتية وتنفيذ السياسات، في وقت تحتاج فيه اليمن إلى حلول طاقة طويلة الأمد، لا إلى إنجازات رمزية.


1. حجم الأزمة: شبكة على حافة الانهيار


في ذروة الصيف، يصل الطلب على الكهرباء في عدن إلى نحو 750 ميغاوات [2]. فيما تكافح المحطات القديمة — مزيج من مولدات ديزل ومازوت يعود بعضها لعقود — لتوليد حتى 500 ميغاوات في أفضل الأحوال. وغالبًا ما يقل الإنتاج عن ذلك بكثير. يشكل هذا العجز البالغ نحو 250 ميغاوات المحرك الرئيس للشلل الاجتماعي والاقتصادي في المدينة. وتنعكس آثاره المباشرة والملموسة في:


• تقليص المستشفيات لاستهلاك الطاقة وإغلاق أقسام أو العمل دون تكييف في حر خانق.


• اضطراب أنظمة المياه بسبب فقدان الضغط وفراغ الخزانات.


• تباطؤ النشاط التجاري والصناعي الصغير بسبب انعدام الاستقرار الكهربائي.


• استنزاف الأسر لمدخراتها في شراء وقود المولدات الخاصة التي تتعطل باستمرار.


• تصاعد الغضب الشعبي وتراجع الثقة بالسلطات المحلية.


السبب المركزي لهذه الأزمة هو الوقود. فتكاد كل قدرة توليد عدن تعتمد على تدفق منتظم من الديزل والمازوت. وأي تأخير أو نقص في التمويل أو اضطراب في الإمدادات — وهو أمر شائع — يؤدي إلى انهيار فوري للشبكة. وتعد هذه التبعية مكلفة بشدة. ففي أبريل ومايو 2025، أشارت بيانات داخلية إلى أن التكلفة اليومية لتشغيل المحطات القديمة تجاوزت 1.8 مليون دولار يوميًا، يُنفق معظمها على شراء وقود الديزل فقط للحفاظ على الحد الأدنى من استقرار التردد. ومع ذلك، نادرًا ما تجاوز الإنتاج 100 ميغاوات بعد الانقطاعات. بعبارة أخرى، كانت المدينة تحرق قرابة مليوني دولار يوميًا لتبقى في أزمة.


في هذا السياق، كان من المفترض أن يؤدي إدخال مشروع طاقة شمسية جديد بقدرة 120 ميغاوات إلى تغيير جذري. لكنه كشف بدلًا من ذلك عن مدى عمق هشاشة الشبكة في أساسها.


2. محطة شمسية حديثة بعيب هيكلي قاتل


عندما دخلت المحطة الشمسية الخدمة في منتصف 2024، كانت قدراتها التقنية كبيرة. تمتد على مساحة تتجاوز 1.6 مليون متر مربع وتضم أكثر من 200 ألف لوح شمسي، وتنتج نحو 95 ميغاوات عند ذروة ضوء النهار. هذا الإنتاج يعادل تقريبًا إجمالي ما تولده المحطتان الحراريتان الرئيسيتان في عدن، وهو إنجاز لافت لمنشأة لا تحرق الوقود ولا تحتاج إلا إلى صيانة روتينية. لكن المرحلة الأولى بأكملها شُيّدت من دون نظام لتخزين الطاقة على مستوى الشبكة [3].


هذا الإغفال ليس تفصيلًا ثانويًا؛ إنه خلل جوهري يقوّض الغرض من مشاريع الطاقة الشمسية الحديثة. فبطاريات الشبكات لا تخزن الكهرباء الزائدة للاستخدام الليلي فحسب، بل تقدّم خدمات أساسية لاستقرار الشبكة:


2.1 تنظيم التردد: إنتاج الطاقة الشمسية يتقلب بسرعة بسبب الغيوم وتغير درجات الحرارة وشدة الإشعاع. تمتص البطاريات الطاقة أو تضخها على الفور للحفاظ على ثبات تردد الشبكة.


2.2 دعم الجهد الكهربائي: قد تتسبب التقلبات المفاجئة في الإنتاج بارتفاعات أو هبوطات خطيرة في الجهد تعطل أجزاء واسعة من الشبكة. يساعد التخزين على تخميد هذه التقلبات.


2.3 القصور الذاتي الصناعي: توفر المولدات التقليدية قصورًا ذاتيًا بفعل دوران التوربينات، بينما لا تملك المحطات الشمسية ذلك. تقوم أنظمة البطاريات بمحاكاته إلكترونيًا لمنع انهيارات التردد.


بدون هذه الخدمات، لا يمكن لمنشأة شمسية كبيرة أن تعمل باستقلالية؛ إذ لا بد من ربطها - في هذه الحالة - بمحطات تقليدية توفر القصور الذاتي والتحكم بالتردد. وهذا يعني أن محطة عدن الشمسية — رغم حجمها — كانت غير قادرة هيكليًا على العمل ما لم تكن مولدات الديزل تعمل أصلًا. لقد تم ضخ الطاقة النظيفة في شبكة لا تزال مضطرة لحرق الوقود كي تبقى حية.


3. العواقب: خلل التصميم


ظهر هذا الخلل بوضوح خلال أزمة الوقود في مطلع 2025. ومع جفاف أكثر من 80% من محطات الوقود، بالكاد كانت المحطات الحرارية تعمل. خلال ساعات النهار، وفرت المحطة الشمسية نحو 95 ميغاوات — كطوق نجاة للمدينة. لكن ما إن غابت الشمس حتى اختفى هذا التيار تمامًا. لم يكن لدى الشبكة أي تخزين لنقل الفائض إلى الليل. بدل أن تمتد الإغاثة إلى المساء، غرقت ملايين الناس في الظلام.


عايش السكان التناقض بأكثر الصور مباشرة: منشأة شمسية متطورة تولد أكثر من أي محطة أخرى، ومع ذلك تتوقف الحياة بعد الغروب. لقد قيّد هذا التصميم مستقبل عدن الشمسي بماضيها القائم على الديزل.


4. مقارنة مدمّرة: كيف تفادى مشروع أصغر هذه الأخطاء


يزداد الإخفاق وضوحًا عند مقارنته بمشروع شمسي أصغر في شبوة [4]، حيث صُمم منذ البداية بنظام تخزين متكامل قادر على توفير إمداد ليلي مستقر والمساهمة في استقرار الشبكة.


وتثير هذه المقارنة أسئلة محورية: لماذا نال المشروع الأصغر المكوّن الضروري بينما حُرم منه المشروع الأكبر؟ هل فرضت ذلك اعتبارات خفض كلفة، أو جداول زمنية مستعجلة، أو حسابات سياسية، أو إغفال إداري؟ وكيف جرى اعتماد مشروع بمئات ملايين الدولارات من دون ضمان استقلاليته التشغيلية؟


هذه الأسئلة تتجاوز الجانب الفني لتكشف مشكلات أعمق في الحوكمة والرقابة والتخطيط الاستراتيجي الطويل الأمد — وهي قضايا ما تنفك تعرقل تطوير البنية التحتية في البيئات المتأثرة بالنزاعات [5].


5. كيف رسخت الخيارات التقنية التبعية للوقود


يكمن الإخفاق الثاني في بنية الربط الكهربائي للمحطة. إذ يؤكد مهندسون مطلعون أن محوّلات المحطة لا تستطيع المزامنة ما لم تكتشف ترددًا مستقرًا موجودًا مسبقًا على الشبكة — وهو تردد لا يوفره إلا تشغيل مولدات الديزل. إذا توقفت المحطات الحرارية — كما يحدث كثيرًا عند نفاد الوقود — لا تستطيع المحطة الشمسية حقن أي قدرة، وتُفصل لحماية المعدات وتجنب اضطرابات الشبكة.


النتيجة مفارقة تكاد تكون عبثية: منشأة تولد قرابة 100 ميغاوات من الطاقة النظيفة لا تعمل إلا إذا كانت محطات الوقود الأحفوري تعمل!


لم تفرض الفيزياء هذه التبعية، بل التخطيط. فبتصميم يضم تخزينًا ومحوّلات "مشكِّلة للشبكة" (grid-forming) كان بالإمكان تشغيل المزرعة الشمسية كمصدر مستقر حتى عندما تظلم أجزاء أخرى من الشبكة. لكن المشروع بُني على نحو يكرّس الاعتماد على الوقود.


6. إخفاق السياسات: حوكمة طاقة بلا رؤية استراتيجية


في جوهرها، مفارقة عدن الشمسية هي أزمة حوكمة. فأنظمة الطاقة الحديثة لا تُبنى لوحًا بعد لوح، بل ضمن أطر سياسات متماسكة تدمج التوليد والتخزين والنقل واستقرار الشبكة في استراتيجية واحدة. لكن مشروع عدن يعكس غياب هذه الاستراتيجية. فبدل تصميمه على أسس المرونة طويلة الأمد، يبدو أنه تشكل بفعل اعتبارات قصيرة المدى:


• استعجال التنفيذ لتسجيل إنجاز رمزي.

• قيود الميزانية التي حذفت المكوّن الأغلى لكنه الأكثر حيوية: التخزين.

• تشتت الصلاحيات وتداخل الجهات واللجان والفاعلين في الاعتماد.

• ضعف الإشراف الفني وترك القرارات الهندسية الحرجة دون مراجعة كافية.

• غياب خطة لتحديث الشبكة ومن ثم عجزها عن دمج طاقة متجددة في منظومة قديمة صلبة تعتمد على الوقود.


هذه السمات مألوفة في البيئات ما بعد النزاع، حيث تتحول مشاريع البنية التحتية إلى "منجزات سياسية" بدل كونها أصولًا استراتيجية. غير أن كلفتها باهظة: في حالة عدن، النتيجة محطة شمسية حديثة لا تخفف الاعتماد على الديزل.


7. الفرص الضائعة والآثار بعيدة المدى


7.1 استنزاف مالي: تبقى المدينة عالقة في إنفاق ملايين الدولارات أسبوعيًا على الوقود، رغم امتلاكها أصلاً لأصل متجدد كبير.

7.2 فقدان الثقة العامة: انتظر السكان نقطة تحول؛ لكن ما تلقوه كان رمزًا لما كان يمكن للتخطيط الأفضل أن يحققه.

7.3 تأخير الانتقال الطاقي: بدل أن يكون المشروع محفزًا للتحديث، صار يعزز بنية تحتية متقادمة.

7.4 هشاشة متزايدة: أي اضطراب في شحنات الوقود — سياسي أو اقتصادي أو لوجستي — ينهار معه النظام حتى في الأيام المشمسة.

7.5 كلفة أعلى للتدارك اللاحق: إضافة التخزين بعد البناء أكثر كلفة وتعقيدًا من دمجه منذ البداية.


8. ما الذي تحتاجه عدن الآن: طريق نحو استقلال الطاقة


إصلاح المنظومة يتطلب أكثر من تركيب بطاريات؛ بل يستدعي إعادة مواءمة شاملة لسياسة الطاقة تتضمن:


• مرحلة ثانية بنظام تخزين بحجم لا يقل عن ثلث الإنتاج الشمسي اليومي.

• اعتماد محوّلات "مشكِّلة للشبكة" حديثة تمكّن الطاقة المتجددة من تقديم خدمات أساسية مستقرة.

• هيكل حوكمة واضح لتنسيق السياسات والتخطيط والمشتريات بين المؤسسات.

• استثمارات في تحديث شبكات النقل لاستيعاب المدخلات المتغيرة للطاقة المتجددة.

• آليات رقابة شفافة تضمن تصميم مشاريع مستقبلية وفق المعايير الدولية.


لن تفتح هذه الخطوات كامل إمكانات المنشأة الحالية فحسب، بل ستؤسس لمسار طويل الأمد للتخلص التدريجي من الاعتماد على الوقود، وهو مسار لا مفر منه ماليًا وبيئيًا.


في المحصلة، تجسد مفارقة عدن الشمسية التوتر بين الطموح والتنفيذ. فالمدينة تمتلك التكنولوجيا والبنية التحتية ووعد التغيير، لكنها محكومة بشبكة مبنية على افتراضات متقادمة، وعملية تخطيط محكومة بضغوط قصيرة المدى، وبيئة حوكمة تكافح لمواءمة الطموح مع القدرة. كان ينبغي أن تكون هذه المحطة علامة فارقة على طريق الاستقلال الطاقي؛ لكنها غدت تذكيرًا بأن قوة البنية التحتية من قوة القرارات التي تقف خلفها. إن استقرار عدن مستقبلاً يتوقف على تصحيح تلك القرارات — لا من أجل الكهرباء فحسب، بل من أجل حياة الناس ومعايشهم والمؤسسات التي تقوم عليها.


أحمد سالم باحكيم

باحث في مركز سوث24 للأخبار والدراسات، خبير اقتصادي وباحث في مجال الطاقة، ويعمل أخصائي نظم معلومات في المؤسسة العامة للكهرباء بعدن.


[1] محطة عدن للطاقة الشمسية هي محطة طاقة شمسية بقدرة 120 ميجاوات، تقع في مديرية البريقة بعدن. موّلت دولة الإمارات العربية المتحدة المشروع، وبنته شركة مصدر الإماراتية. افتُتح المشروع في 15 يوليو/تموز 2024.

[2] التحول النظيف: محطة عدن للطاقة الشمسية بارقة أمل مستقبلية

[3] عدن الغد- لماذا لا تعمل محطة الطاقة الشمسية في عدن؟ مهندس يوضح الأسباب الفنية.

[4] محطة شبوة للطاقة الشمسية تقترب من الانتهاء

[5] أزمة الطاقة في عدن: التحديات الهيكلية وسبل تحقيق الاستدامة


Shared Post
Subscribe

Read also