29-01-2021 الساعة 1 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| بي بي سي
ولّدَت طبقات من الصخور الرسوبية، كوّنتها البكتيريا قبل 3.5 مليار عام في غرب أستراليا، ويُطلق عليها اسم "ستروماتوليت"، كميات من الأكسجين تصل إلى نحو 20 في المئة من محتوى الغلاف الجوي من هذا الغاز، ما أعطى قبلة الحياة لكل الكائنات التي كانت موجودة في تلك الحقبة السحيقة، لكي تتطور.
لم يكن مفاجئا بالنسبة لي أن تكون رحلتي بالسيارة على ساحل القارة الأقدم على وجه الأرض عامرة بالألغاز. فخلال الرحلة، التي مضيت فيها إلى الشمال من مدينة بيرث الأسترالية صوب بحيرة ثيتيس، الواقعة على بُعد بضع ساعات منها بالسيارة، انغمست لأقصى قدر ممكن في معالم الطبيعة المتنوعة المحيطة بي، من صحراء ومحيط وسماء زاخرة بالغيوم. كنت في تلك اللحظات، على متن سيارة مفتوحة السقف ذات نوافذ ملونة مفتوحة بدورها قليلا، تمضي على الطريق السريع الواقع على ساحل غرب أستراليا، والمعروف باسم "إنديان أوشن درايف".
ولن يصعب عليك إذا زرت هذه البقعة، أن تجد التضاريس الطبيعية فيها تتبدل وتتحول بشدة من مكان لآخر، كما لو كنت تحدق في إحدى لوحات الرسام الهولندي الراحل موريتس كورنيليس إيشر. فالمشهد هناك يتغير من بساتين للخضروات والفاكهة والورود، إلى مناطق تسودها أشجار قصيرة الارتفاع تتناثر حولها الأحجار الجيرية، على خلفية من أصوات طواحين الهواء، التي تسحب المياه من خزان مياه جوفية تكوّن في المنطقة خلال العصر الجوراسي.
ولم يخل المشهد من أشجار الأوكالبتوس بيضاء الجذوع، وحولها آلاف من شجيرات تُعرف باسم "المصفورة". وبينما حلقت حولنا بصخب أسراب من طيور الكوكاتو سوداء اللون، رأينا على قارعة الطريق عشرات من جيف حيوانات الكانغارو، التي انتهت حياتها على نحو مأساوي، ضحية لحوادث وقعت على الطريق.
وفي الوقت الذي لاحت لي فيه لافتات طريق خضراء وصفراء اللون، تدعو إلى توخي الحذر من أي حيوان أو طائر مار، سواء كان من حيوانات كانغارو وآكل النمل الشوكي، أو طيور الأَمُو، كنت أنشد العثور على شكل نادر من أشكال الحياة، تعود نشأته إلى بدء الخليقة.
تصطف على طول طريق "إنديان أوشن درايف" السريع في أستراليا آلاف من الشجيرات المعروفة باسم "المصفورة" (MARIAN MCGUINNESS)
اتحدث هنا عن الـ "ستروماتوليت"، وهي أحافير حية تشكل أقدم أشكال الحياة التي لا تزال موجودة على سطح كوكبنا. واشتق اسم هذه الأحافير، من مفردتيْ "ستروما" و"ليتوس" اليونانيتيْن، اللتين تعنيان "حشايا" و"صخرة" على الترتيب، ما يجعل التركيبة اللغوية كلها تعني "الصخور ذات الطبقات". وتوجد هذه الصخور القديمة على سطح الأرض، منذ الربع الأول تقريبا من عمر نظامنا الشمسي.
وإذا اكتفينا بالتعريف الشائع غير المتخصص للـ "ستروماتوليت"، سنجد أنها شعاب حجرية كوّنتها مستعمرات من كائنات مجهرية تقوم بعملية التمثيل الضوئي، ويُطلق عليها اسم البكتيريا الزرقاء. فعندما تتراكم الرواسب في المياه الضحلة، تنمو البكتريا فوقها، لتربط بين الجسيمات الرسوبية والطبقات البنائية، حتى تصبح هذه الطبقات كومة متراكمة فوق بعضها بعضا. وفي غمار هذه العملية، لعبت تلك التراكيب الحية دورها الأكثر أهمية في تاريخ الأرض. فقد استفادت من أشعة الشمس، لتسخير الطاقة وتوليد الأكسجين بنسبة شكلت نحو 20 في المئة من كميته المتوافرة في الغلاف الجوي لكوكبنا، وهو ما أعطى قبلة الحياة لكل الكائنات التي كانت موجودة وقتذاك، لتتطور.
اللافت أن هذه الصخور الرسوبية، لا توجد الآن في صورتها الحية سوى في عدد محدود من الخلجان والبحيرات الضحلة المالحة على وجه الأرض. وتتميز منطقة غرب أستراليا عن غيرها من بقاع العالم، بأنها تحتوي على مواقع متنوعة للستروماتوليت، سواء كانت لا تزال حية، أو في صورة أحافير. ويبلغ عمر أقدم الأحافير المعروفة لنا الآن من هذا الشكل من أشكال الحياة نحو 3.5 مليار عام، وقد عُثِرَ عليها في بلدة ماربل بار، في منطقة بيلبرا الأسترالية.
وفي ضوء أن العمر المقدر لكوكبنا يقارب 4.5 مليار سنة، يبدو مذهلا أن ندرك أن بوسعنا عبر النظر إلى الستروماتوليت، التعرف على الصورة التي كان يتخذها العالم في فجر التاريخ، قبل أن تتشكل القارات، وتُوجد النباتات، وتجوب الأرض الديناصورات، ويظهر البشر على سطح البسيطة.
وخلال سيري على طول طريق "إنديان أوشن درايف"، كانت تسنح لي بين الحين والآخر الفرصة، لأن أرى من خلال الشجيرات المتناثرة، مياه المحيط فيروزية اللون التي يكسوها الزَبد، وكذلك ما يتلوها من مساحات تكسوها الكثبان الرملية المتموجة بيضاء اللون، من تلك التي تتميز بها بلدة لانسيلين الأسترالية. إنه ساحل تتناثر عليه سفن محطمة، وأكواخ لبيع جراد البحر، وتهب عليه رياح "الأربعينات المزمجرة"، وهي رياح عكسية غربية تعصف بمناطق شتى في نصف الكرة الجنوبي، بين دائرتيْ عرض 40 و50 درجة جنوبا.
أما في الصيف، فتهب على هذه المنطقة رياح تلطف الأجواء، ويُطلق عليها "فريمانتل دكتور"، وهو اسم دارج هناك، للإشارة إلى ما تجلبه هذه النسمات من شعور بالارتياح، خلال فترة ما بعد الظهر في أيام الصيف شديدة الحرارة.
هناك الكثير مما يمكن أن يراه المرء قرب بحيرتيْ ثيتيس وكليفتون، بما في ذلك معالم محمية نامبونغ الوطنية (AFPMARIAN MCGUINNESS)
أخذتني رحلتي بعد ذلك إلى بلدة سرفانتس الواقعة على الطرف الشمالي لمحمية "نامبونغ" الوطنية. وهناك، وعلى بُعد بضعة كيلومترات من طريق مترب، وجدت بحيرة ثيتيس، موطن الـ "ستروماتوليت".
البحيرة صغيرة وضحلة ومثلثة الشكل. وتحيط بها نباتات الشُّمرة البحرية وزهور المروحة ذات البتلات زرقاء اللون. وبين الحين والآخر، كنا نرى حيوان كانغارو يمد رأسه، وينظر صوبنا مُتفحصا إيانا.
عندئذ رأيتها. آلاف من شعاب الستروماتوليت ذات اللون الشبيه بلون الإسفنج، وهي تقبع تحت تموجات مياه البحيرة، وكأنها سلاحف مهاجرة تعود إلى عصور سحيقة، تقبع في هذا المكان، وقد حبست أنفاسها تحت سطح ماء معتم قليلا.
وقتذاك، وقفت وأنا مفعم بالرهبة. وقد شعرت بأنني قد انفصلت عن كل ما حولي، ولم يعد يرتسم في ذهني سوى صورة سماء يتصاعد فيها غاز الميثان برتقالي اللون جراء الأنشطة البركانية، وهو المشهد الذي كانت تبدو عليه الحياة في فجر التاريخ.
ولا يزيد عمق هذه البحيرة عن المترين سوى بقليل، وتبلغ نسبة الملوحة فيها ضعف نسبتها في مياه البحر. وقد عُزِلَت عن أي مسطحات مائية أخرى قبل نحو 4800 عام، عندما تراجع مستوى مياه المحيط، خلال أخر عصر جليدي كبير شهدته الأرض، إذ أدى ذلك لانحسار الشواطئ، ومحاصرة الكثبان الساحلية للمياه الموجودة في الداخل، ما أفضى لتكون البحيرة.
وفوق البحيرة يمتد ممشى معدني لمسافة 1.5 كيلومتر لتمكين الزوار من النظر إلى الستروماتوليت القابع تحت مياهها. لكن لا يُسمح لأحد بلمس تلك الصخور الرسوبية العتيقة، فالكثير منها اتْلِفَت من قبل، من جانب أشخاص ساروا عليها بلا مبالاة.
ويوجد في هذه المنطقة من الساحل الأسترالي، كائن حي آخر ينتمي إلى أسرة الستروماتوليت، يحمل اسم الـ "ثرومبوليت"، وهو عبارة عن شعاب بكتيرية، بدأ تطورها قبل مليار عام تقريبا، وذلك بالتزامن مع تلاشي الستروماتوليت.
يُقدر عمر شعاب الـ "ثرومبوليت" الموجودة تحت مياه بحيرة كليفتون بنحو ألفيْ عام (PHOTON-PHOTOS/GETTY IMAGES)
وقد استلزم الوصول إلى الـ "ثرومبوليت" مني التوجه إلى بحيرة كليفتون الواقعة في متنزه يالغوروب الوطني، الذي يبعد نحو ساعة بالسيارة إلى الجنوب من مدينة برث. فكليفتون تمثل موطنا لأكبر مجموعة من شعاب الـ "ثرومبوليت" التي تعيش في البحيرات، في نصف الكرة الجنوبي.
وقد ذاعت شهرة هذا المكان، وبات مقصدا لكثير من المسافرين الذين توجهوا إليه لرؤية "أول أشكال الحياة على الأرض"، بفضل زيارة قام بها البروفيسور بريان كوكس، مقدم البرامج العلمية الناجح والنجم الساطع بين أساتذة فيزياء الجسيمات في جامعة مانشستر، إلى تلك البحيرة، لتصوير الـ "ثرومبوليت" في إطار إحدى حلقات سلسلته الوثائقية التليفزيونية "عجائب الكون"، التي تُبث على شاشة قناة تابعة لبي بي سي. ولا ينسى أحد إبداء كوكس خلال هذه الحلقة، رهبته ودهشته إزاء هذه الشعاب، التي تبدو كما لو كانت "نقاطا صخرية غريبة الشكل وسط المياه الضحلة"، على حد قوله.
ورغم أن الـ "ثرومبوليت" والـ "ستروماتوليت" يعودان إلى الأصل نفسه، فإنهما يختلفان عن بعضهما بعضا في المظهر. فبينما يتألف الستروماتوليت من طبقات، تبدو شعاب الثرومبوليت أشبه بالدماء المتخثرة المتراكمة. وقد سبق أن أشارت الدكتورة الراحلة ليندا مور من جامعة أستراليا الغربية، إلى أن عصر شعاب الستروماتوليت أخذ في الأفول، بالتزامن مع ظهور أشكال الحياة البحرية الأخرى الأكثر تعقيدا وتطورا. ففي هذه الحقبة السحيقة، بدأ النظام البيئي للستروماتوليت في التعرض لتهديدات، بفعل شبيهات الأميبا المفترسة وكائنات أخرى وحيدة الخلية يُطلق عليها اسم "منخربات"، كانت تستخدم امتداداتها الشبيهة بالأصابع، لالتهام هذه الشعاب ذات الطبقات. وللنجاة من هذا المصير، كانت شعاب الستروماتوليت بحاجة للحياة في مياه شديدة الملوحة، لا تستطيع أن تتكيف معها الكائنات الأخرى المنافسة لها.
أما الثرومبوليت فقد تكيفت مع هذه الأجواء، وتمكنت من الحياة بل والازدهار في بيئات أقل ملوحة من مياه البحر. وقد شكلت تركيبتها وهيكلها، مكانا يمكن أن تتعايش معه وفيه الكائنات الحية الصغيرة، التي كانت موجودة في بيئتها في ذلك الوقت. ويُقدر عمر شعاب الثرومبوليت بنحو ألفيْ عام، وهو ما يجعلها في طور الشباب والفتوة، مقارنة بالستروماتوليت.
بوسع شعاب الثرومبوليت البقاء على قيد الحياة في بيئة أقل ملوحة من مياه البحر (PHOTON-PHOTOS/GETTY IMAGES)
وفوق مياه بحيرة كليفتون المالحة قليلا، يمتد ممشى خشبي يخترق أعواد القصب، لإتاحة الفرصة للزوار لإلقاء نظرة على شعاب الثرومبوليت القابعة تحت سطح الماء. وإذا أمعنت النظر، سيتسنى لك أن ترى فقاقيع صغيرة من الأكسجين تظهر على سطح مياه البحيرة، ما يعني أن تلك الشعاب الموجودة تحتها تتنفس.
ولدى سكان هذه المنطقة المعروفين باسم "شعب نونغار"، أسطورة تفسر نشأة شعاب الثرومبوليت. فوفقا لما يرويه هؤلاء، أدى جفاف الأرض في قديم الزمان، إلى أن يتضرع أسلافهم إلى البحر، لكي يهبهم مياها نقية. ويؤمن الـ "نونغار" بأن إلههم حوّل آنذاك البحر إلى حية، زحفت عبر الكثبان الرملية، ما قاد إلى تكون خليج صغير، قبل أن تضع بيضا يتمثل في الثرومبوليت، وتلف جسدها حوله لحمايته، (وهو ما يتجسد الآن على أرض الواقع في صورة الكثبان الرملية المحيطة بالبحيرة). أما الثعابين التي كانت بداخل البيض، فقد خرجت لتُكوِّن الأنهار. وعندما هلكت حفرت أنفاقا تحت الأرض، لتُكَوِّن ينابيع جوفية، وذلك في إطار سعيها، وفقا للأسطورة، للعودة إلى أسلافها من الثعابين، التي كانت تعيش قبل ذلك بدهور. وقد وفرت هذه الينابيع المياه النقية لـ "شعب نونغار".
وإذا عدنا إلى الحديث من وجهة نظر علمية عن هذا الأمر، سنجد أن شعاب الثرومبوليت البكتيرية، تستخدم ضوء الشمس لتوليد الطاقة عبر عملية البناء الضوئي، ولترسيب كربونات الكالسيوم (الحجر الجيري) من ينابيع المياه العذبة التي تنبثق من طبقة المياه الجوفية الأساسية. ويشكل استمرار تدفق المياه الجوفية منخفضة العناصر الغذائية والتركيز الملحي وعالية القلوية، عاملا لا غنى عنه لنمو هذه الشعاب البكتيرية وبقائها. ومن شأن أي تغير يطرأ على ذلك تهديد وجودها نفسه.
لكن وضع بحيرة كليفتون هش من الوجهة البيئية. وفي عام 2009، تم إدراج شعاب الثرومبوليت على قائمة الكائنات المُهددة بالانقراض بشدة، وقد باتت الآن تحظى بالحماية بموجب اتفاقية رامسار، وهي معاهدة دولية تستهدف الحفاظ على المناطق الرطبة والاستخدام المستدام لها. ومن شأن ذلك وضع منطقة بحيرة كليفتون، على قدم المساواة مع متنزه كاكادو الوطني، المحمي بدوره في إطار الاتفاقية نفسها، والمُصنّف باعتباره جزءا من التراث العالمي. ويشكل هذا المتنزه الحديقة الوطنية الأكبر في أستراليا، بوصفه يضم المجموعة الأكثر تنوعا من النظم البيئية الموجودة في هذه الدولة.
وتشمل الإجراءات المُتخذة للحفاظ على البيئة في بحيرة كليفتون، بناء ممشى لمنع إتلاف شعاب الثرومبوليت، ومراقبة نقاء المياه ومنسوبها، وحماية الغطاء النباتي الذي يساعد على ترشيح المواد الغذائية والملوثات سواء بسواء. كما تتضمن هذه التدابير، مراقبة وضع شعاب الثرومبوليت الموجودة في البحيرة، والتواصل مع مالكي أراضي هذه المنطقة، لضمان حماية جودة المياه.
على أي حال، لا شك في أن هذه الركائز الأولية للحياة، تحتاج للحماية بالفعل. فالتغير المناخي يؤثر على نسبة ملوحة مياه البحيرة. كما أن التوسع الحضري الزاحف على تلك المنطقة، يزيد تدفق العناصر المغذية في المياه، وهو ما يقود لتكاثر الطحالب التي تحجب أشعة الشمس وتميت الثرومبوليت اختناقا. فخلال نحو مئة عام أو أكثر من ذلك قليلا، أدت الضغوط التي تتعرض لها البحيرة، بسبب الأنشطة البشرية إلى تهديد بقاء هذه الكائنات الحية الموجودة منذ قديم الأزل. وفي ضوء كل ذلك، تبدو جهود الحفاظ على شعاب "ثرومبوليت" البكتيرية، أشبه بالحية التي قالت أساطير "شعب نونغار"، إنها أسبغت الحماية على هذا الكائن الحي قبل قرون طويلة.
- بي بي سي
قبل 3 أشهر