التحليلات

المشهد الفرنسي بعد الانتخابات الرئاسية

04-05-2022 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

سوث24 | بدر قاسم محمد 


للمرة الثانية على التوالي انحصرت انتخابات الرئاسة الفرنسية بين الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وهي الثنائية التي برزت بشكل لافت في ظل تراجع ملحوظ للأحزاب التقليدية. لقد أعادت النسخة الأخيرة التي جرت في أبريل الماضي، انتخاب ماكرون لولاية ثانية (2022_2027). وفق تقديرات أولية حملت بيانات وإحصائيات لم تشهدها فرنسا من قبل؛ تتيح لنا قراءة الحدث السياسي الأبرز على الصعيدين الفرنسي والأوروبي، من زاويتين داخلية وخارجية، أو بمعنى أصح، سياسية ومجتمعية.

 

الزاوية السياسية


تشير التقديرات الأولية لانتخابات الرئاسة الفرنسية إلى وجود نسبة كبيرة من الامتناع عن التصويت بلغت 28%، بالمقارنة مع نسبة 58.6% من الأصوات لصالح ماكرون مقابل 41.4% لمنافسته لوبان، يتضح حصول الأول على أقل نسبة تصويت شهدتها فرنسا [1]. إن ذلك يعكس حالة من المقاطعة والانقسام، يُعتقد بأنها نتاج لتخيير الشارع الفرنسي بين السيء والأسوأ؛ فثمة إخفاق كبير رافق إدارة الرئيس ماكرون، تقابله مخاوف أكبر من احتمالية فوز اليمينية المتطرفة مارين لوبان.


كذلك على صعيد الخارج، هناك قلق ينتاب الغرب الديمقراطي عموما والاتحاد الأوروبي خصوصا. يسعى الأول إلى تشكيل ما يمكن تسميته بـ "محور الدول الديمقراطية" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في سياق مناهض لروسيا والصين أو ما يصفه الغرب بـ "الدول الاستبدادية". بالمقابل أبدى الغرب مخاوفه من احتمالية فوز لوبان. فاليمينية المتطرفة تعد فرنسا في حال إن فازت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كما فعلت المملكة المتحدة.


من الممكن قراءة المشهد الفرنسي من اللحظة التي وضعت الشاب الفرنسي ماكرون رئيساً لفرنسا في العام 2017، لقد عده كثيرون "سوبرمان" المرحلة، خصوصا وأنَّ هناك صعود لافت للتيار اليميني في صورة شبح [2].


تبدو مسيرة الشاب الفرنسي نسخة مكررة من مسيرة الشاب الأمريكي باراك أوباما، فالأخير يعد أصغر وأول مرشح من أصول أفريقية شغل منصب الرئيس لولايتين متتاليتين، بدى فيها الشارع الأمريكي متعطشا للتغيير، وهو الأمر الذي حدث بصورة درامية أثارت المشاعر وأشعلت حماس العالم؛ إذ حل المرشح الديمقراطي عقب ولايتين متتاليتين للجمهوري جورج دبليو بوش وحربين دوليتين شنهما بوش على كل من أفغانستان والعراق.


من جانب آخر، عقب الولاية الأولى للرئيس ماكرون، تحدثت الصحفية الفرنسية إيميلي شولثايس عن استفادة مواطنها من تجربة الرئيس الأمريكي. وفقاً لـ "شولثايس" استخدمت حملة ماكرون مناهج تم استقائها من شركة للبحوث السياسية كانت نفسها قد عملت لصالح حملة أوباما عام 2008 [3].


إضافة إلى ذلك، يعتقد الاتحاد الأوروبي، أنَّ القوى اليمينية باتت تعمل بدينامية راديكالية على إعادة أوروبا لتصبح "القارة العجوز" فعلا، وذلك بنمو واتساع رقعة المحافظين مقابل تراجع وانحسار شعبية الديمقراطيين. وبدءاً بالنزعة المحافظة التي أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومروراً بصعود التيار اليميني في عموم أوروبا وانتهاءً بنتائج الانتخابات الفرنسية المخيبة للآمال.


لدى اليمين الفرنسي مخاوف مشروعة من إدارة الوسط الليبرالي للبلاد إلى جانب القوانين الناظمة للاتحاد الأوروبي، ويعزز هذه المخاوف البحوث والدراسات التي تشير إلى أنَّ ثمة تحولات ديموغرافية تهدد الأمن القومي الفرنسي. ورغم ذلك؛ يحيطها الديمقراطيون الجدد والمنظومة الأوروبية بالرعاية والتشجيع؛ وهو الأمر الذي يتضح في تنامي ظاهرة الهجرة والنزوح. بالمقابل سجل النمو السكاني زيادة في الفئة العمرية المتوسطة على حساب الفئات الأدنى والأعلى. إذ يشير الفارق الكبير إلى الحداثة مما ينفي النمو الطبيعي؛ الأمر الذي يجعل مركز الثقل الاجتماعي بيد الطبقة الفتية التي يسهل إغوائها والتلاعب بها، على الصعيدين الأمني والسياسي.


إزاء الظاهرة التي تثير فزع السكان الأصليين عموما والقوى المحافظة خصوصا، ثمة اعتقاد سائد بأن الإدارة الحالية تتعامل بشيء من اللامبالاة. من جانب آخر، حملت نتائج الانتخابات الأخيرة، ما يشير إلى حصول ماكرون على دعم وتأييد السكان غير الأصليين [4].


الزاوية المجتمعية


على صعيد الداخل الفرنسي، ثمة رؤية سياسية تتعلق بالتحولات الديموغرافية المشار إليها، تطرحها المرشحة اليمينية مارين لوبان في برنامجها السياسي. فإلى جانب التعهد بإخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، تؤكد الفرنسية على الحد من ظاهرة الهجرة والنزوح في سياق يزعم الحفاظ على الأمن القومي الفرنسي.


ظاهرة الهجرة والنزوح


تعد ظاهرة الهجرة والنزوح أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تصاعد النزعة اليمينية في أوروبا، خصوصا في الآونة الأخيرة التي شهدت أعدادا كبيرة من اللاجئين والمهاجرين جراء الأزمات السياسية والاقتصادية في بلدانهم. فحسب بيانات منظمة الهجرة الدولية للعام 2019 هناك نمو متزايد لظاهرة الهجرة، إذ بلغ عدد المهاجرين الدوليين في جميع أنحاء العالم - الأشخاص المقيمون في بلد غير بلدهم الأم - 272 مليون شخص، ثلاثة من كل أربعة مهاجرين دوليين كانوا في سن العمل، أي تتراوح أعمارهم بين 20 و64 عامًا [5]، ووفقاً للإحصائية، 30% منهم من نصيب القارة العجوز.


أزمة فيروس كوفيد19


مؤخرا، أتت الأزمة البيولوجية التي عصفت بالعالم إثر تفشي وانتشار فيروس كوفيد19 على نحو مميت وقاتل. فإلى جانب خطورة الوباء الذي يصيب الجهاز التنفسي للإنسان، ثمة تداعيات أخرى تتمثل في سرعة انتشار المرض وتحوره. الأمر الذي عدته الإدارة الأمريكية تهديدا لأمنها القومي. إذ أن فيروس كوفيد19 الذي أنطلق من الصين إلى سائر بلدان العالم مخلفا أعداداً كبيرة من الضحايا، يتلخص أثره في عدم نجاة الفئة الأكبر عمرا وكذلك الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة.


إزاء ذلك خلصت السياسة الوقائية للحد من انتشار كوفيد19 إلى فرض إجراءات التباعد الاجتماعي وعدم الاختلاط وصولا إلى تطبيق قانون الحظر الشامل في بعض المناطق والبلدان، وهو الأمر الذي أدَّى إلى منع السفر من وإلى معظم دول العالم.


 لذلك، على الأرجح، فإنَّ القوى المحافظة في أوروبا عموما وفرنسا خصوصا تعتقد بأنَّ هناك أثر مزدوج يتركه كوفيد19 وظاهرة الهجرة على حد سواء، يشير إلى تمدد واتساع الفئة الحيوية على حساب الفئات العمرية الأخرى [6].


انعكاسات المشهد الفرنسي


تبدو مخاوف اليمين الفرنسي أكثر اتصالا بالشرق، سواء من ناحية مصدر الهجرة الدولية أو مصدر الأزمة البيولوجية، إذ غالبا ما تشير الأصابع للاتجاه المعاكس للغرب. ذلك يبرز صراعا ثنائيا على صعيد خارجي يضيف عبئا آخر لأوروبا، مما يضع فرنسا أمام مفترق طرق ذي ديناميات عديدة أبرزها:


- وسط ديمقراطي ويمين متطرف (دينامية سياسية).

- ديموغرافية فتية وأخرى غير فتية (دينامية اجتماعية).

- غرب ديمقراطي وشرق استبدادي (دينامية استراتيجية).


تجدر الإشارة إلى تناقض واختلاف الديناميات الثلاث فيما بينها، إذ يبدو المسار الاستراتيجي لما يُعرف بـ "محور الدول الديمقراطية" الذي تتزعمه الإدارة الأمريكية، متفقا إلى حد ما مع المسار السياسي للاتحاد الأوروبي في مناهضة القوى اليمينية، بينما تتفق الأخيرة مع المسار الاستراتيجي في مناهضة الشرق في سياق اجتماعي محافظ. من جانب آخر، يعمل الاتحاد الأوروبي في مسار سياسي يناهض المسار الاجتماعي وهكذا تتشكل دائرة أوروبية وغربية منغلقة على نفسها أكثر من انفتاحها على الخارج. حيث تعكس أوجه الخلاف والتناقض حالة الانقسام والتراجع التي تعيشها فرنسا، مما قد يؤثر على مستقبل الاتحاد الأوروبي وربما أوروبا وسائر بلدان العالم.


 بعض الملاحظات والمستخلصات

من الحدث الفرنسي خصوصا والأوروبي عموما نستخلص التالي:


- أن المسار السياسي الأبرز يشي بتشكل قطبية جديدة، طرفها الأول القوى الديمقراطية أو ما يمكن وصفها بالنيوليبرالية التي تحيل الديمقراطية إلى نظام وليست فكرة، وذلك من خلال سن القوانين والتشريعات التي تحد من حرية الأفراد والجماعات. وطرفها الآخر القوى اليمينية التي تظهر بصورة محافظة جديدة تمارس نفس ما يمارسه الطرف الأول.


- أن هذا الصراع السياسي في الجزء الغربي من العالم، يقابله صراع عسكري في الجزء الشرقي من العالم. إذ يسير الأخير بشكل محافظ إلى منطقة الوسط، بينما ينكفئ الأول على نفسه بشكل محافظ.


- أن منطقة الوسط تعيش حالة من التدافع السياسي والعسكري التي تتسم بالحيوية النشطة [7]، وذلك لأنَّ متوسط الأعمار في هذه المنطقة يشير إلى أن فئة الشباب هي الأكثر اتساعا ونموا؛ الأمر الذي ينعكس سلبا على صعيد الأحداث التي تمر بها في الوقت الراهن ومرت بها سابقا، مطلع العام 2011 فيما بات يعرف بـ "ثورات الربيع العربي" التي شكل الشباب رافعتها الأساسية.


- أنَّ ديناميات الأحداث السياسية والعسكرية، قد تكون ألقت بظلالها على التوجهات الدولية التي بدت وكأنها تتجه للقبول بسيادة القوى المحافظة في منطقة الشرق الأوسط خصوصا والعالم عموما. (الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دليلا).


- من المهم أن تتوزع بلدان الشرق الأوسط على مصراعي العالم، المصراع الغربي السياسي والمصراع الشرقي العسكري. إذ أن ذلك يعني بالضرورة وجود حالة من المرونة والاحتواء مقابل حالة من التصلب والرفض، من الأفضل أن تسود الأولى في المناطق الاستراتيجية من العالم.


بدر قاسم محمد 

باحث مقيم في مركز سوث24 للأخبار والدراسات

الصورة: مناظرة بين ماكرون ولوبن (Getty)


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا